مقالات

محمد ولد عبدي ترك موريتانيا ترعى الهعخع .. وإعلان موت الكاتب / سيدي محمد ولد بمب

كنت أحس بالاغتراب في رؤيتي الشعرية قبل أن التقي به ليلة في شيراتون أبوظبي قبل 12 سنة حين كنت موفدا من قناة الجزيرة لتغطية بعض نشاطات المجمع الثقافي(الذي كان الراحل موظفا فيه) بدعوة من القائمين عليه التقيت بالدكتور رحمه الله على عشاء أقامه مدير مكتب محمد السويدي

أمين عام المجمع الثقافي آنذاك ومستشاره القانوني السيد محمود خضر، حين التقيت به أحسست أن هناك تجربة وطنية عميقة أشاطرها الأداة والرؤية وحتى لون الورق بعيدا على فكر الدواوين الصفراء ولعبة المنبهات الأسلوبية السقيمة كانت أصالته الأدبية معجونة بحداثة أصيلة تتصالح مع الآخر, يجد فيها المشرقيون لغتهم الضالة ويجد فيها المغاربة حريتهم وانطلاقهم الفكري من سيطرة الشكل, وتلك في نظري مساحة توافقية صعبة لا بد لها من تجربة اغتراب تلتهم الروح واللغة والفكر يكون نتاجها مميزا جدا تنقلت منها الجهات فلله المشرق والمغرب والشمال والجنوب فأينما تولي فثم انتماء القصيدة.

لقد كانت تجربته الشعرية والنقدية بالنسبة لي مدخلا أساسيا لفهم الكثير عن الشعر الموريتاني في غربته داخل الوطن وخارجه فلقد قص النهاية في البداية كما قال هو وعاشت نصوصه غربة انتماء وانتماء غربة ولعل محاولة الإفصاح – بأدب معهود في خلقه- يجعل الصراع قويا داخل لغته.

لقد وقع ولد عبدي على موته منذ قرر الخروج من هذا الوطن مغتربا لا يحمل في حقيبته سوى دم وحبر وكمية من مخدرات تسمى الكرامة يقتات عليها أمثاله ممن أدمنو الشعر الكريم ومشتقاته ليكتب على نفسه “الخروج” :

عقدان منفرطان في قلبي

أعدهما وأثني خنصري بالليل

من أغرى المخدة ان تثرثر في الهزيع

وتنكئ الذكرى

تطوقني بما اقترف القصيد

وما اجترحت من الحنين

عقدان لا ظل أقاسمه الطريق

ولا طريق يقودني

لمحطة الوطن المخبأ في المخدة”

يقول في نفس القصيدة ناعيا نفسه لنا:

خرجت من تلك البيوت إلى فضاء الله

ابحث عن صدى صوتي

وترياق يعيد إلى الوجوه السمر بسمتها

إلى الصحراء نبرتها

خرجت لتستعيد الأرض ذاكرة الخروج.

حتى وهو على سرير الموت بعيدا في مستشفيات ابوظبي يصف لنا حالته في “الخروج”:
آهٍ من عقدين منحشرين في رأسي

ومن وجع التخيل

حين تنفلت الجهات الست منك

على سرير لست تملكه

ببيت لست تملكه

بحي ليس يملك نفسه

كأن سرك – يا محمدُ – كنت تحمله.

ولقد ذكرني رحيل هذا المبدع بنظرية موت الكاتب التي اعلن عنها الناقد الفرنسي رولان بارت فلقد ترك الراحل نصوصا وصل فيها لمستوى تكتب فيه اللغة نفسها فموت المؤلف – عند بارت- ليس فناءه ولا نهايته بل هو فحسب إخراج للنص عن شروط الظرفية وقيودها، ومن ثم فتح المجال لنصوصية النص لكي يدخل إلى آفاق إنسانية عابرة للزمان والمكان، حيث له أن يأخذ مداه مع القارئ ومع التاريخ.إن معنى هذه النظرية استقلال ما انتجه ولد عبدي عن سلطته لأن نسبة النص إليه تعني إيقافه وحصره إنها إغلاق الكتابة في حين أن النص له ديمومة الحياة والمؤلف له ديمومة الموت.

وما أحوجنا إلى نصوص تتوفر فيها لغة البقاء بعد إعلان موت الكاتب

ستبقى أشعار محمد ولد عبدي تتلى حتى وإن لم يفهمها هذا الجيل حق فهمها وإن لم يرعها الجيل السابق حق رعايتها في هذا السرداب الضيق المظلم من خاصرة الأرض السائبة فإن أجيالا تولد من رحم الظلام ستتلوها كما رأى ذلك العجوز في رائعة الروائي باولو كويلو” الخيميائي” أشعار ابنه وهي تتلى في الملإ الأعلى.

رحمك الله قريبا في قلوبنا ورحمك الله بعيدا في منفاك أيها الشهم النبيل فقد أثرت الغياب في صمت والصمت إن ضاق الكلام أوسع, حين التقيته قبل سنة سألني عن البلد فقلت له “تركتها ترعى الهعخع” وهو مثل يضربه أهل البلاغة في غرابة الألفاظ وتنافرها حيث أن إعرابيا سال عن ناقته فأجاب بذلك, ضحك كثيرا من جوابي رحمه الله رحمة واسعة , رحل ولد عبدي إلى جوار ربه, وتركها ترعى الهعخع.

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button