مقالات

‘‘كتاب الأدغال‘‘ لكيبلنغ: قبل أن يتبنى الكاتب مساوئ أمته / إبرهيم العريس

%d8%a7%d8%a8%d8%b1%d9%87%d9%8a%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d9%8a%d8%b3أنباء انفو- يمكن صمويل هنتنغتون، الكاتب الأميركي الذي اشتهر خلال السنوات الأخيرة من القرن المنصرم بكتابه «صدام الحضارات»، أن يعثر على سلف كبير له، إذا صدقنا الحس الشعبي نصف – المثقف، في شخص الكاتب الإنكليزي روديارد كيبلنغ، إذ، منذ اللحظة التي تستعاد فيها تلك العبارة الشهيرة المنسوبة إلى هذا الأخير والتي تقول: «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا». يصبح من المنطقي البحث عن الصراع الحضاري والدائم الذي «بشّر» به هنتنغتون، لدى صاحب «الرجل الذي أراد أن يكون ملكاً» و «كتاب الأدغال» و «كيم»، والقول أن الاثنين ينتميان إلى فصيل واحد من المثقفين: الفصيل الذي لا يرى سوى الصراع والصدام بين الحضارات المختلفة.

> ولئن كان ما حدث منذ 11 أيلول (سبتمبر) 2001 قد جاء لـ «يؤكد» – في نظر البعض – نظرية هنتنغتون، فإن ما حدث طوال القرن العشرين يأتي، أيضاً، ليؤكد مقولة كيبلنغ. ولكن، بعد كل شيء، إذا كان في إمكاننا أن نقول أن ما يقوله صمويل هنتنغتون واضح لا يحتمل الكثير من اللبس والتفسير، ما يجعل تصنيفه وتأييده أو دحضه، مسألة وجهة نظر ترتبط بمن يجادله أو يجابهه، هل في إمكاننا أن نقول الشيء ذاته عن كيبلنغ؟ هل ترى هذا كان – كما يحلو للحس الشعبي، العالم ثالثي خصوصاً – مجرد مثقف لامع جعل من نفسه وربما من دون تكليف من أحد، ناطقاً باسم الاستعمار البريطاني مكرساً أدبه وما لديه من ثقافة وموهبة لخدمة ذلك الاستعمار والدفاع عنه، من منطلق «تفوّق الإنكليز الحضاري الذي يعطيهم الحق في استعمار ديار الشعوب المتخلفة لتمدينها من جهة، ونهب خيراتها من جهة أخرى» كما ينسب إلى كيبلنغ عادة؟ في اعتقادنا أن المسألة ليست على مثل هذا الوضوح والاستنتاجات لا يمكن أن تكون على مثل هذه الدقة.

> فالحقيقة أن الأمر يتطلب، قبل إصدار أي حكم نهائي على كيبلنغ، مزيداً من البحث والتدقيق، حتى ولو رأينا، مع البعض، أن كيبلنغ أنهى حياته متبنياً لهذا النوع من الأفكار، هو الذي كان في الأصل أي خلال المراحل الأولى من مساره الإبداعي، أكثر عقلانية وانفتاحاً. ومن المؤكد أن العملين الأساسيين لكيبلنغ اللذين يتيحان مثل هذه النظرة – القاطعة – إليه، وهما «الرجل الذي أراد أن يكون ملكاً» و «كتاب الأدغال»، يمكن النظر إليهما، على أنهما عملان أدبيان يحملان الكثير من الأوجه، وليسا دراستين تاريخيتين. وسنتوقف هنا، خصوصاً، عند «كتاب الأدغال» الذي فُسّر واقتُبس ودين ومُجّد، ودائماً ليس انطلاقاً مما فيه حقاً، بل انطلاقاً من النظرة المسبقة التي تعتبر كاتبه مدافعاً عن الاستعمار البريطاني، ممجّداً «تفوق الغرب على الشرق».

> فماذا إذاً كانت هذه النظرة، إلى كيبلنغ نفسه، أصلاً خاطئة؟ ماذا إذا كان جزء كبير من أدب كيبلنغ وكتاباته، اهتم أكثر ما اهتم بانتقاد الاستعمار البريطاني، وليس فقط في ممارساته، بل أكثر من هذا: في جذوره الأيديولوجية التي تستند إلى الفكر «اليهودي – المسيحي» ذاته؟

* الحقيقة أن كيبلنغ ولد في مومباي لأهل إنكليز، وربته مربية هندية لم تتوقف يوماً، خلال طفولته، عن تزويده بالحكايات والأساطير الهندية وحكايات المجد الهندي الغابر، ما شكل لديه خلفية قوية مملوءة بالآلهة القديمة المتعددة والحيوانات المتنوعة، حيث إن هذه الطفولة الهندية الحقيقية ولدت لديه لاحقاً حساسية حقيقية ضد الحضارة اليهودية – المسيحية، حتى وإن كان لم ير مندوحة في أن تستفيد الهند، بعد زمن انحطاط اقتصادي، مما استجد في الحضارة الأوروبية من تنوير، وفصل للكنيسة عن الدولة كشرط لا بد منه لتقدّم كان كيبلنغ يأمله.

> من هنا، كانت مهمة الاستعمار (والإمبريالية وفق تعبيره) أن يحب الأمم التي يستعمر بلدانها وأن يبدو قادراً على احترام الشعوب والأمم وثقافاتها. وبالنسبة إلى كيبلنغ، فشلت الإمبريالية الإنكليزية في ذلك. أو هذا على الأقل ما آمن به خلال فترة باكرة من حياته، إذ حَسْبنا أن نقرأ واحداً من كتبه المبكرة «حكايات التلال البسيطة» لنرى كيف يقدم في تلك الحكايات وضعاً ساخراً وقاسياً وشاجباً المجتمع الكولونيالي البريطاني، واضعاً في مقابله مجتمع السكان المحليين الذين لا يكفّ عن التعبير عن إعجابه بعاداتهم ومعتقداتهم وأساطيرهم.

> وهذا الإعجاب لن يفوتنا أن نلاحظه في معظم كتب كيبلنغ، لو قرأناها بغير القراءة السطحية التي يقرأه بها نقاده. ولنذكر هنا أن كيبلنغ، حين بلغ سن المراهقة، بعد تربيته الهندية التأسيسية على يد مربيته، وأرسل إلى إنكلترا لكي يحوز تربية إنكليزية «صالحة»، كان يمضي معظم وقته في إعادة كتابة الحكايات التي يجدها في التوراة، في شكل يدمج فيها حكايات الجن والأساطير الهندية. وهي ممارسة ظلت ترافقه حتى حين صار كاتباً، إذ لن يفوتنا أن نلاحظ وجودها في الكثير من كتاباته.

> في «الرجل الذي أراد أن يكون ملكاً» كما في «كتاب الأدغال»، لدينا الموضوع ذاته تقريباً: ففي الكتاب الأول هناك ضابط صف في جيش الهند الإنكليزي، يجد نفسه وقد اعتبرته قبائل الجبال الأفغانية، متحدراً من الاسكندر الأكبر الذي وصل حكمه إلى هناك، ما يجعله ملكاً على تلك القبائل. وفي «كتاب الأدغال» (بجزءيه المنشورين عامي 1894 و1895) لدينا، وسط باقة من الأفكار والمواضيع، حكاية «الرجل الصغير» ماوغلي، الذي يجد نفسه ذات يوم ضائعاً وسط الأدغال الهندية، محاطاً بحيوانات الغابة التي سرعان ما تقبل وجوده في صفوفها. وفي الغابة (وكما يحدث في أساطير البحر الأبيض المتوسط القديمة، وكذلك في «حي بن يقظان» ولاحقاً في «روبنسون كروزو») يحدث لماوغلي أن تربيه وتعتني به أنثى حيوان (هي ذئبة هنا). وهكذا إذ يترعرع وفق شريعة الأدغال خاضعاً لها، يكون لديه ما يميزه ويجعله متفوقاً على بقية الحيوانات. فهو إنسان ذو عقل بعد كل شيء.

> ثم شيئاً فشيئاً يصبح هو ملك الأدغال سيداً على هذا الشعب الحيواني الذي – أصلاً – يعيش وسط مقدار كبير من الحرية. ولكن، وبما أن ثمة في الأدغال، وكما يقول كيبلنغ، ما هو أكثر بعض الشيء من مجرد شريعة الغاب، يبدأ ماوغلي في مجابهة حرية لا تستقيم تماماً مع عقلانيته التي تريد تنظيم الأمور، فيكون الصدام، ويهرع أصدقاء ماوغلي الثلاثة: الدب الأسمر، والفهد الأسود، وأصلة الصخور، لإنقاذه. وهو أيضاً يحارب ضد أعداء هذا الشعب مسيطراً في نهاية الأمر على النمر الشرير شيري خان، ذي العينين الصفراوين.

> غير أنه بعد حين، وإذ يصبح في شرخ الشباب يتنبه إلى أصله الإنساني ويبدأ بالانفصال تدريجاً عن الحيوانات التي ترعرع في أحضانها، فـ «الإنسان يعود في نهاية الأمر إنساناً، ومهما كانت عواطفه»، كما تلاحظ إحدى شخصيات الكتاب. وينتهي الأمر بماوغلي إلى مبارحة الأدغال إلى الأراضي المزروعة حيث يعيش إخوانه في الإنسانية وينضم إليهم.

> والحقيقة أن كيبلنغ لا يفعل، في هذا النص ذي البعد الفلسفي، والذي استُند إليه دائماً للتعبير عن موقف كيبلنغ «الاستعماري»، أكثر من اقتباس الأسطورة التي نجدها أصلا لدى ديوجين اللائرسي، حول استحالة أن يكون الإنسان شيئاً آخر غير الإنسان، وهو ما فعله نفسه دانيال ديفو الإنكليزي قبله، وابن طفيل العربي. ولكن، لأن كيبلنغ عاش في زمن الاستعمار، كان ممكناً ربط فكره بالفكر الكولونيالي على هذه الشاكلة.

> ولد روديارد كيبلنغ عام 1865، ومات عام 1936. عاش حياة متقلبة متنوعة، انتهت به كهلاً خائب المسعى يدافع عن الإمبراطورية البريطانية بعدما انتقدها وشجبها طويلاً. وهو ارتحل كثيراً خلال حياته وكتب كثيراً. كتب للكبار والصغار، واخترع من العوالم ما لم يخترعه أي كاتب آخر في زمنه. ولعل مرحلته البريطانية – التي أنهى بها حياته – كانت الأسوأ. من هنا، فإن الباحثين في عمله، يميلون دائماً إلى التركيز على مراحله الأولى، حين كان أكثر كرماً وخيالاً وقدرة على رؤية الأمور بمنظار صحيح. الزمن الذي كان فيه، إذ يقيم تعارضاً بين الشرق والغرب، فإنما لكي يمجد حضارة الشرق لا العكس.

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button