مقالات

“العين الثالثة” : العرب وموريتانيا… سوء فهم مُستفحل

الحسن ولد احريمو – صحفي موريتاني

ould_mokhtar@yahoo.fr

كشفت ردود فعل بعض الكُتاب في صفحات الرأي بكبريات الصحف العربية، خلال الأيام الأخيرة، عن عدم إلمام واضح بحيثيات ما جرى ويجري في موريتانيا منذ عام ونصف تقريباً. ومع أن ما جرى يوم الأربعاء 6/8/2008 أتاح فرصة جذب إعلامي نادرة الحدوث بالشأن الموريتاني، الذي عادةً ما يوضع على المواقد الخلفية ويضغط إلى الصفحات الداخلية، ونادراً ما وَجد له في الصحافة العربية، مكاناً تحت بؤر الضوء و”المانشيتات” والعناوين ذات البنط العريض، إلا أن هذه الفرصة اليتيمة تحوَّلت، لسوء الحظ، إلى “مأتم” تطوع فيه بعض كُتاب الرأي العرب للعب دور فرق “الندَّابات”، فيما يشبه حفلة تنكرية من ضرب الخدود وشق الجيوب على التجربة الديمقراطية الوليدة، “الموءودة” في موريتانيا. وقد فوَّت ذلك، مرة أخرى، مناسبة فهم حقيقة ما جرى، ويجري.

ولئن كان مفهوماً عدم الإلمام، ولو في الحدود الدنيا، لدى بعض قادة الرأي العربي، بشؤون موريتانيا، لأسباب كثيرة ليس أقلها بُعدها الجغرافي القصيُّ، وكُسوفها الإعلامي، ومحدودية أو لنقلْ حتى “هامشية” دورها –بنظرهم- في التأثير على معظم أزمات المنطقة، إضافة إلى كون هؤلاء الكُتاب العرب أصلاً يرزحون تحت عبء حالة من التشبُّع الذهني بما يدلهمُّ حولهم من أزمات وتبرُّمات ومصائب، إلا أن كل ذلك لا يبرر عدم مقاومة بعضهم الانسياق وراء تبني أقرب التفسيرات، أو اندفاع بعض آخر وراء إغراء إسقاط الصور النمطية الخاطئة وأحياناً المتواطئة، وتبديدها كيفما اتفق، على بلد بعيد، لا يشعرون إزاءه لا بمشاعر الخوف ولا بمشاعر الطمع. كما لا يبرر هذا أيضاً إزجاء البعض للدروس والمواعظ السياسية المجانية، وكأنه سيعلم “إخوته الصغار”، أصول وأبجديات “الديمقراطية” الجيفرسونية والقيم الجمهورية، في تغافلٍ وتغابٍ واضحين عن استدعاء دلالة تلك العبارة الشائعة –والصادقة: “فاقد الشيء لا يعطيه”… الخ.

فهل حقاً، يعتبر ما جرى هنا في موريتانيا، يوم 6/8 وأداً للتجربة الديمقراطية الوليدة؟

قد لا يساعد تنشيط الذاكرة العربية على طريق الإجابة بيُسر على هذا السؤال، ذلك أن كل ما ارتسم في الأذهان، وترسَّخ، هو صورة ذلك الانتقال الأسطوري للسلطة من رئيس فترة 3 أغسطس الانتقالية إلى الرئيس المخلوع، بعد انتخابات حُرة نزيهة، ووسط تصفيق وفود أفريقية، وعربية، وبحضور رمز من رموز “المحافظين الجدد” الأميركيين، بقامة –وصلعة- جون نيغروبونتي، ولنقلْ، إن شئتم: وهذا الأهم.

هنا تتجمد الذاكرة العربية، على هذا الحلم الجميل، الذي تلقاه كلٌّ في العواصم العربية بالطريقة التي أراد، وبحسب ما كان عليه من حال في بلده. وكان حلماً جميلاً حقاً لأنه أشبع حاجة عربية مُلحَّة وعامة إلى رؤية مثل هذا النوع من المَشاهد السياسية، في غير ما تتفتق عنه -أحياناً- عبقرية اللاشعور في الأفلام والأحلام. أما بعد ذلك، فلم يتكلف أحد معرفة حجم واتجاه المياه الكثيرة التي جرت من تحت الجسر الموريتاني منذ ذلك التاريخ، وحتى يوم الأربعاء 6/8/2008. وما جرى مُر ومُخيب للآمال حقاً، وصدقاً، في مجمله وفي تفاصيله. إذ تكشَّفت التجربة هنا عن ممارسات “بدوقراطية” حقيقية، إن جاز التعبير. فقد تسيَّدت الشخْصنة وتغوَّلت على الدولة. وتم تسييس الإدارة العمومية، وتحولت إلى أداة من أدوات الاكتتاب والتجييش الحزبي وشراء الذمم والولاءات. وشُكل، بأثر رجعي، حزب حاكم وحيد -بحكم الواقع- غير خفي الاسم: “حزب عادل”. وأُعلن بشكل استعراضي أنه حزب رئيس الجمهورية، بالاسم والرسم، ومع عدم التحفظ على جميع الألقاب والمراسم. هذا على رغم كون الدستور الموريتاني يحظر على رئيس الجمهورية بشكل قاطع الانتماء إلى أي حزب بعينه، لغاية أراد المُشرِّع، والشعب، من ورائها إبعاد الرئيس بسلطته العليا السياسية والأدبية السامية، عن الانغماس في شجارات الأحزاب، وإسفاف الإيديولوجيا، ومهاترات وغوغائية بعض شراذم وهوامش الطبقة السياسية ذات وعي وطني جنيني، في الأغلب الأعم. وبسرعة أحاطت بطانة العهد السابق الشمولي بالرئيس المنتخب إحاطة السوار بالمعصم. وأجهزت ممارسات البِطانة، والعائلة، وتدخلهما في تدبير الشأن العام، على ما تبقى من أوهام جميلة. وتكفلت أخيراً ممارسات الفساد الإداري، والرشى، والمقايضات السياسية، التي بدأت في مرحلة ما بين الدورين الانتخابيين، بالباقي. وأُطلقت رصاصة الرحمة الأخيرة على الحلم، منذ بداية العام الجاري، حين بدأ مسلسل سقوط الحكومات، على خلفية تجاذب علني على اقتسام الغنائم والحقائب الوزارية. وخلال الشهرين الماضيين فقط سقطت حكومتان، وتكشف، أخيراً، غبش الحلم الموريتاني -والعربي- بقيام ديمقراطية على النمط السويسري، عن واقع مُر. واقع إن كان ولابد من وصفه بـ”الديمقراطية”، فلنقل، إنه كان صورة كاريكاتورية عن الديمقراطية الإيطالية، حيث تتصارع الأحزاب ذات الرؤى الضيقة والشعبيات القزمية، الميكروسكوبية، على فتات السلطة، وتتساقط الحكومات مرتين في السنة، على الأقل، كأوراق الخريف، وتسيِّج المافيا، خلفية الصورة، وتحرِّكها بخيوط “أراجوز” حاذق، من وراء الستار. وفي المجمل: قامت حالة “إيطالية”، لا ينقصها سوى جوهر الديمقراطية الإيطالية الحقيقي السهل الممتنع، ومشاهد جبال النار في جزيرة صقلية، وطلعة “برلسكوني” البهيَّة.

ولأن بلداً فقيراً، ومتعدد الأعراق، كموريتانيا، لا يملك ترف الاستمرار في أزمة حكومية مفتوحة، منذ ثلاثة أشهر، أفضت إلى عطالة وشلل عامَّين، وأزمة برلمانية مستفحلة، فقد تنادى أكثر من النصاب القانوني المطلوب من نواب البرلمان، ممثلي الشعب، وطالبوا بعقد دورة طارئة للجمعية الوطنية، لحجب الثقة عن حكومة أثبتت عطالتها وفشلها، أو أقلُّه لتدارس الأزمة وسبل الخروج منها. ولكن طلباتهم المشروعة تجُوهلت، ورفض الوزير الوصي حتى استلامها، وربما أوعز الرئيس إلى حليفه رئيس الجمعية الوطنية بالذهاب في إجازة مفتوحة إلى مسقط رأسه، حتى لا يستلم الطلب. وتم تعطيل السلطة التشريعية، وتحول التجاذب والاحتقان إلى حالة انسداد عام، وصُودرت إرادة التغيير، وأُغلقت قنوات الحراك السياسي والدستوري بالشمع الأحمر، ووضعت عليها اليد والرجل معاً. وبدلاً من الشعور بحجم الخطر الكامن، تحت سطح الأزمة، صدر قرار مفاجئ وفي غير أوقات الدوام، ومُرر بأيدي أشخاص غير الوكلاء الحكوميين المعنيين، بفصل جميع قادة الجيش الوطني، و”عُين” بدلاً منهم آخرون، لعباً على حبال اعتبارات عرقية وقبلية بالغة التعقيد، والخطورة، قد لا يفهمها القارئ، من خارج موريتانيا، وإن كانت مفهومة داخلها، بما يُغني عن الاستطراد. فوقع حركة 6/8/2008، وأذيع “البيان رقم 1″، ملقياً أخيراً حجراً هائلاً في ركود هذا المستنقع السياسي الآسن. وكان من ضمن من بادر بهذه الحركة قادة وضباط كبار، اعترف الرئيس “المنتخب” نفسه قبل ذلك بأسبوع، في لقاء مع قناة “الجزيرة” بأن بينهم مَن دعمه في الانتخابات الرئاسية أصلاً، غير مشكِّك في وطنيتهم ولا في مواقفهم الشخصية منه، ولا من انتخابه ليدخل يومها القصر الرمادي، على وقع موسيقى الشرف.

وإذ شكك ذلك الاعتراف العلني، بأثر رجعي أيضاً، في شرعية ودواعي ومبررات استهداف الرئيس المخلوع للمؤسسة العسكرية ووحدتها، إن لم يكن شكك، استطراداً، في شرعيته الانتخابية من الأساس، وإذ سحب منه قادتها وأغلبية أعضاء البرلمان والطبقية السياسية ثقتهم، وهم الذين زعم أنهم أوصلوه أصلاً إلى القصر، فإنه لم يعد هنالك مبرر لكل ذلك الجهل -أو التجاهل- المستفحل على صفحات الرأي في الصحافة العربية حول مبررات وضرورة ما جرى ويجري في موريتانيا منذ 6/8/2008. ولنهوِّن علينا جميعاً، ففي الديمقراطية متسع للإصلاح والتقويم إذا ما انحرفت السلطة التنفيذية عن مساراتها أو درجت في غير مدارج سويِّتها السياسية. فمن أبجديات الديمقراطية الحقة أيضاً، أن تتدخل أجهزة الدولة، لحجب الثقة عن الحكومات، وعن الرؤساء أحياناً، لجوءاً واضطراراً لتجرُّع أخف الضررين. وليست هذه بدعة سياسية أبداً. فقد عرفت فرنسا مثلاً تدخلات تقويمية وأدبية للعسكر في مسارها الديمقراطي، كان بعضها على يد الجنرال ديغول نفسه، وتفاعل بعضها الآخر مع أحداث مايو 68 الشهيرة. كما عرفت تركيا عدة انقلابات وتدخلات عسكرية تقويمية، ولكن مسارها الديمقراطي العام لم يتوقف أو يتأثر، مع ذلك. ومثلها عرفت اليونان حالات مشابهة. وكلها بلدان لا أحد اليوم يجادل في رسوخ وعلو كعب تجاربها الديمقراطية. والأمل… كل الأمل، أن يكون هذا هو حال ومآل ما جرى ويجري في موريتانيا الآن، وخاصة أن المؤسسات الدستورية ما زالت قائمة جميعاً. لأن التجربة الديمقراطية في بلادنا خيار استراتيجي لا رجعة فيه، وليست مجرد تكتيك أو مناورة سياسية عابرة. وضرورات الديمقراطية التركية، على كل حالها وأحوالها، وما لها وما عليها، تهُون… وتهُون، في سبيل تلافي استنساخ كاريكاتوري لديمقراطية “إيطالية”، دون جوهر الديمقراطية الإيطالية، وخاصة إذا كان ذلك الاستنساخ سيتم في بلاد فقيرة لا أحد فيها يصرف بـ”اليورو”، ولا أحد يتقن فن طبخ “السباغيتي”، حسب الأصول، كما يتقنها أهالي لومبارديا وباليرمو.

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button