مقالات

موريتانيا و العسكر.. ديمقراطية بدون ديمقراطيين

هل تسرع الموريتانيون و العالم من حولهم في كيل الإطراء للعسكر و الثناء عليهم حيث “ظن” الجميع بأن مؤسسة الجيش في هذا البلد قد أصبحت جمهورية بعد انقلاب أغسطس 2005؟ و إلا، فلماذا يعود إلينا هؤلاء – في أغسطس2008- أكثر “انقلابية” من أي وقت مضى؟ هل نصدق الأقوال أم الأفعال؟ و أي الأمور التالية سيكون أسهل على الحكام العسكريين الجدد: إعادة تنظيم انتخابات رئاسية “شفافة”؟ أم الامتناع عن قمع المظاهرات المناوئة لانقلابهم؟ أم الكف عن مصادرة حق المواطن في معرفة “الرأي و الرأي الآخر” حول الانقلاب عبر الإذاعة و التلفزيون العموميين؟ فهل بددت موريتانيا، بهذا الانقلاب رصيدا مشرفا لها في سجل أمجاد التحول الديمقراطي الناجح، بعد أن باتت لفترة وجيزة تمتاز به على الصعيد العربي -الإفريقي وهل أضاع جنرالاتنا “الجدد” شرفا عزيزا ناله نظراؤهم من العسكر في بلدان أخرى مثل “جيري رولينكس” في غانا و “آمادو توماني توري” في مالي؟

أجل، لقد تلقت تجربة الديمقراطية الانتقالية الهشة – التي عاشتها موريتانيا منذ ابريل/نيسان 2007 – ضربة قاسية على أيدي انقلابيي 6 أغسطس 2008. نعم، لقد خلقت الجمهورية الثالثة جنرالاتها “الجدد” بجرة قلم، فوضع الجنرالات حدا لمشروع تلك الجمهورية بجرة مدفع. و لكن، هل مات – بذلك- حلم الديمقراطية نهائيا في هذه البلاد؟ أم هل سيكتب له عمر جديد؟

ما يميز المشهد الموريتاني حاليا هو ظهور نزعة “تكفيرية” ديمقراطية لا تخلو من سفسطائية واضحة، يتفنن أصحابها في استحسان الانقلاب العسكري و التودد إلى أصحابه سواء بالحق أو بالباطل. و لا يخفى على أحد بأن دوافع مثل ذلك الخطاب التبريري و التلفيقي و الانتقائي، لا تتجاوز أكثر من تأجيج خصومات “سياسوية” زبونية أو تحقيق مآرب شخصية. أما البحث عن الحقيقة و التماس مظانها إسهاما في تأسيس “موقف” معرفي موضوعي من ظاهرة الانفجار الكبير الذي حصل داخل ” براديغم” paradigme السلطة التي كانت قائمة قبل أيام، و تداعيات ذلك على الشأن الوطني و على مستقبل البلاد، فما يزال أمرا مستعصيا و بعيد المنال في الوقت الراهن. و لكن ذلك “الموقف” المعرفي الغائب، سيكون ضروريا للمساهمة في توفير قاعدة معرفية موضوعية لتمكين المواطنين من تحديد اختياراتهم السياسية على ضوئها و الخروج بالنقاش الوطني من منطق المجادلات الأيديولوجية والمنازعات “الحزبوية” العقيمة، التي لا تبوح غالبا بالمسكوت عنه وتختلط فيها الأسباب بالنتائج ويصعب فيها تمييز ما هو موضوعي عن ما هو ذاتي – كما هو حاصل حالياً – إلى تركيز الحوار حول تعددية الخيارات المتاحة لحكم البلاد و البدائل الممكنة و من ثم، المفاضلة فيما بينها على أسس موضوعية، تمهيدا لاتخاذ القرارات المناسبة للخروج من المأزق.

و لما كان الرأي العام الوطني بأغلبية نخبه السياسية و الفكرية ما يزال تحت تأثير صدمة الإنقلاب و في ظل الاصطفاف “البراغماتي” المنفعي المستحكم في أغلبية المواقف حاليا، يتضاءل الاهتمام المعرفي بإنتاج و استهلاك الخطاب غير “المتخندق”، خصوصا لمن أراد أن يسلك “طريقا يبسا” بين “طبقات” المؤيدين للإنقلاب و الرافضين له، على حد تعبير صديقنا العزيز المفكر حماه الله ولد السالم، في مقاله المتميز “انقلاب على الديمقراطية” المنشور على الإنترنت في موقع صحيفة “تقدمي”.

صحيح أن “شبهات” عديدة كانت تحوم حول الرئيس، السيد سيدي ولد الشيخ عبد الله، عندما ظهر في المشهد الوطني كمرشح للرئاسة يخرج فجأة – كما في لعبة الساحر- من تحت قبعات العسكريين عشية الفترة الانتقالية. و هو ما جعل ذلك الرجل المسن و الهادئ الطباع و صاحب الخبرة الدولية- حتى بعد أن انتخب رئيسا للدولة – يبدو كمن هو في “مأمورية” خاصة يخطط لها و يسيرها، من وراء حجاب، كبار الضباط الذين تحالفوا معه و دعموه أثناء الحملة الانتخابية. وقد رد لهم الرئيس “الجميل” بترقيتهم المثيرة للجدل إلى مصاف “الجنرالية”، قبل أن يدب الخلاف فيما بينهم معه، فينقلبوا عليه، لينتهي به المطاف في المعتقل.

لا شك أن هذا الأمر مؤسف لأكثر من اعتبار. حقا، إنها نهاية غير سعيدة لصفقة غامضة فيها شركاء متشاكسون. و بالرغم من ذلك، يجب الاعتراف بمقولة “مخاطر المهنة” الحاضرة بشكل قوي في هذا الملف. تلك المخاطر التي لا شك أن الرئيس ولد الشيخ عبد الله لم تكن لتغيب عن باله عندما قرر أصلا إبرام ذلك “الاتفاق” مع العسكر، بكل ما ينطوي عليه من ركوب للمغامرة و قفز نحو المجهول!

و صحيح أيضا أن كبار الضباط الداعمين لولد الشيخ عبد الله، قاموا باستخدامه آنذاك لتغيير ميزان القوة على الأرض، من خلال استنزاف المد الشعبي لأبرز منافسيه في الرئاسيات الماضية. حيث، بالكاد تغلب عليه في انتخابات “شفافة” جدا لدرجة أن “الكل” كان “يرى” بالعين المجردة “في” ولد الشيخ عبد الله، مجرد واجهة مدنية “مزينة” لإخفاء النواة الصلبة لبقايا النظام العسكري للثالث من أغسطس 2005. تلك النواة التي “احتفظ” بها الرئيس في حقائبه حتى بعد انتهاء المرحلة الانتقالية و استلام السلطة و”تواري” المجلس العسكري عن الأنظار!

و صحيح كذلك أن الرئيس المنتخب- تفاديا لوقوع المحظور- كان يحاول دوما – و إن على طريقته الخاصة – الاجتهاد لإيجاد صيغة ما لتسيير حالة التعايش على حافة الهاوية، مع أولئك الضباط الذين جاؤوا به، قبل أن “يبادروا” هم إلى التخلص منه. ببساطة، لقد كان تفكير العسكريين منصبا على البحث عن “آلية” لتغيير واجهتهم المدنية “القديمة” و السعي لاستبدالها بأخرى “جديدة” كلما اقتضى الأمر ذلك، ضمن عملية مكشوفة لإعادة إنتاج النظام العسكري نفسه من جديد. و إلى حين، لم يكن أمام “الرئيس المؤتمن” سوى إتقان فنون الانصياع و أداء صلاة الجمعة – في الملإ- جنبا إلى جنب مع “الجنرال” مع المواظبة على الدعاء “سرا”.
لكن، و كما يحصل في كثير من الأحيان في “تسيير” هذا النوع من “الصفقات” الرمادية، فقد سئم الرئيس المنتخب – بعد عام و نيف- إملاءات العسكريين و كثرة تدخلاتهم و مناوراتهم المستمرة ، فبدأ يخرج من “القمقم”. و هكذا، أصبح الرئيس يتخذ قراراته بشيء من الاستقلالية، لدرجة اختيار وزراء من دون الحصول على إذن مسبق من كبار الضباط. فساءت الأحوال، و بدأت المواجهة داخل الأغلبية بين حلفاء الأمس الذين أصبحوا خصوم اليوم. إنها معارك الاستقالات الجماعية من “عادل”، حزب السلطة و تهديد البرلمانيين للحكومة بحجب الثقة عنها ثم استقالة حكومة و لد الواقف و مجيء حكومة “البداع”. و أخيرا، قرر الرئيس – بجرأة تقترب من حد الانتحار- خطوته الحاسمة: إقالة “رب العمل” أو صانع الرؤساء الجنرال محمد ولد عبد العزيز، صبيحة السادس من أغسطس الجاري. باختصار، لقد ارتكب الرئيس المنتخب – مع شديد احترامنا له- الكثير من الأخطاء في فترة وجيزة، لسنا طبعا بصدد التعرض لها في هذا المقام. ولكن خطأه القاتل فعلا كان أنه تصرف كرئيس “حقيقي”، متجاوزا “الخطوط الحمراء” دونما حساب دقيق للعواقب.

إذن، يبدو بأن كلا من الطرفين – الرئيس و الجنرالات- قد اخطأ في حسن اختيار “شريكه” الآخر ضمن “صفقة العمر” كما أخطأ في حسن تقدير ردة فعله كذلك. فقد أخطأ أولا، الجنرالات “الجدد” عند اختيارهم لرجل لم يتوقعوا قدرته الكامنة على “التمرد” على سيطرتهم، فكان لزاما عليهم أن يتحملوا بشجاعة مسؤولياتهم. و ذلك طبعا لا يتم بالنكوص و الرجوع القهقرى إلى مربع الانقلابات و لا – كذلك- بالهروب إلى الأمام للتبشير بانتخابات رئاسية جديدة، لا تسمن و لا تغني من جوع و لن يقتنع بصدقيتها أحد لا في الداخل و لا في الخارج و لن تكون – في أحسن الأحوال – أكثر من مهزلة تجلب المزيد من الإساءة إلى سمعة بلادنا خارجيا و تبدد فرص الاستقرار و السلم الأهلي داخليا.

قبل التفكير في “حل” إنقلابي من الطراز الكلاسيكي، كان جديرا بـالجنرالات “الجدد” أن يتحملوا مسؤولياتهم بشرف مهنة العسكرية بما هو معروف في أدبياتها من قيم سامية مثل الشجاعة و التضحية و نكران الذات والتضامن و الانضباط، و أن يعترفوا بخطئهم الفادح. فإن كان تبين لهم بأن اختيارهم للرجل في تلك “الصفقة” لم يكن مناسبا لهم و لمصالحهم الخاصة، كان عليهم أن يندبوا حظهم العاثر و أن يستتروا بستر الله و يتوبوا إليه توبة نصوحا، لا يعود صاحبها إلى تكرار فعلته أبدا. وأما إن كان قد تبين لهم بأن اختيارهم للرجل في تلك “الصفقة” لم يكن مناسبا للمصلحة العامة للبلاد، فحري بهم أن يعتذروا عندئذ للشعب الموريتاني المظلوم وأن يطلبوا منه الصفح ثم يريحوا و يستريحوا. و هكذا كان يتوجب على العسكريين أن يتركوا لهذا الشعب ممارسة حقه الكامل و غير القابل للتنازل أو للشفعة في تقييم أداء رئيس يفترض بأنه هو من انتخبه و الحكم عليه من خلال ديناميكية العمل السياسي المدني ذي الطابع السلمي بتراكماتها المختلفة و مساهمات كل الفاعلين في الساحة السياسية فيها، بكل ديمقراطية و مسؤولية.

و حينها، فإن الشعب الموريتاني و قواه الحية التي – بالرغم من كثرة المظاهر السلبية المنتشرة- قد بدأت فعلا تشب على الطوق، لن تعييه الحيلة في اتخاذ الموقف المناسب من الرئيس و حكومته إذا ما اقتضى الأمر ذلك. ولعل حيوية هذا الشعب المتجددة و قدرته على ردة الفعل في هذا المجال و غيره لا تحتاج إلى دليل. فبالأمس القريب، تفجرت “ثورة الجياع” في نوفمبر2007 على امتداد المدن الموريتانية، دون انتظار إشارة لا من البرلمانيين “المغاضبين” و لا من الجنرالات “الجدد” و لا من غيرهم، لتسجل احتجاجها العارم على أزمة الغلاء المعيشي بكل عفوية و صدق. حينها كان “كل” المشاركين في “براديغم” السلطة القائمة آنذاك، يتهافتون مبررين و مساندين و مدافعين عن ذلك الأداء الهزيل للرئيس و جنرالاته و حكومته. أما اليوم، فقد أثلج صدور هذا الشعب أحد هؤلاء الشباب العباقرة المغمورين، عندما تربع – بكل جدارة و اقتدار- على عرش إمارة الشعر العربي في أبو ظبي، بينما كان “الآخرون” يستغفلون الأمة و يأخذون البلاد إلى المجهول على “كف” جنرال.

ثانيا، لقد أخطأ “الرئيس المنتخب” عندما قدم نفسه مرشحا لأسمى مأمورية عمومية وطنية في الوقت الذي قبل فيه مبدئيا أن يرتهن لإرادة غيره سواء بمقابل أو بدون مقابل. نعم، أخطأ الرئيس في الموافقة على لعب دور “الكومبارس” الذي يمنح واجهة مدنية “مقبولة” لإعادة إنتاج كائن سلطوي هجين بين الدكتاتورية و الديمقراطية، يبقى في جوهره استنساخا للنظام العسكري الانقلابي للثالث من أغسطس 2005 المتسم بالغطرسة و المراوغة و الجشع، مقابل الحصول على حزمة من الألقاب و الامتيازات و النفوذ. ثم أخطأ “الرئيس المنتخب” كذلك عندما أساء تقدير استعداد العسكر “للتمرد” على الديمقراطية و مبلغ ردة الفعل المحتملة للعسكريين الذين جاءوا به أصلا إلى السلطة عندما قرر إزاحتهم بعد الكثير من التردد، فمنحهم الظروف المناسبة للتخطيط و التحريض و التحضير للتخلص منه بأقل ثمن. و بذلك، تسنى لهم الإجهاز على تجربة ديمقراطية طرية العود، بعد أن باتت أغلبية الموريتانيين طيلة الأشهر القليلة الماضية – بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية والحزبية – قلقين على مصيرها على أيدي نظام حكم يفترض بأنها تحسب له بدل أن يحاسب على التفريط فيها.

لقد كان خليقا بـ “الرئيس المؤتمن” أن يتحمل مسؤولياته بشرف يليق بنبل محتده و قيمه الروحية و مثله “الحداثوية” و تجربته الواسعة في الحياة و يعترف بخطئه الفادح. و كان عليه أن يستغفر ربه و يعتذر للشعب الموريتاني و يطلب منه العفو بتقديم استقالته عندما استيقن من استحالة الخروج من مأزق وصاية العسكر عليه و على قراراته كرئيس للجمهورية.

و لكن هنا، يجب الاعتراف بلا مواربة بأن كل أخطاء الرئيس المنتخب و جميع زلاته المفترضة و كل ما قد “يحسب” عليه من تجاوزات أخرى، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تبرر الانقلاب عليه، أحرى أن تشرعنه، و ذلك لسببين و جيهين على الأقل. فأما الأول، فهو أن الانقلاب على الرئيس كشخص- بغض النظر عن أي تقييم له إيجابا أو سلبا- هو انقلاب على الشرعية الدستورية كوحدة غير قابلة للتجزئة. تلك الشرعية الوحيدة “الموجودة” حاليا في البلاد، بحكم ما ينعقد عليها من إجماع طني و دولي لا يرقى إليه شك. وهي بذلك “أم” لجميع “الشرعيات” الأخرى التي تنبثق عنها و تخضع لها وجوبا. وأما السبب الثاني، فهو أن “كل” الإنقلابيين من جنرالات و نواب و شيوخ و وزراء و صحفيين و منتفعين و حاشية، هم شركاء فعليون للرئيس- بل ربما أكثر منه في بعض الأحيان- في تحمل المسؤولية و التعرض للمساءلة تضامنيا معه بحكم أنهم كانوا جميعا إلى أمس القريب، يشكلون أغلبية حاكمة. أما الآن، فليس من الإنصاف و لا من العدل ولا من الشهامة في شيء أن يتنصل كل أولئك من المسؤولية – بفعل الأمر الواقع- للنجاة بأنفسهم و إلقاء اللائمة على الرئيس لجعله يدفع الفاتورة وحده بعد أن وضعوه في المعتقل.

و سيظل هذا الانقلاب – سواء “نجح” أم “فشل” بعد الآن- تصرفا شاذا و فعلا مدانا و موقفا مرفوضا بكل المعايير و حسب كل التصنيفات. و لن يشفع له تشديد “قبضة” الانقلابيين على مؤسسات الإعلام الرسمي من إذاعة و تلفزيون و وكالة للأنباء والهيمنة المطلقة عليها في إنتاج و معالجة و تداول الأخبار و النقاش حسب أساليب بدائية في أشكالها، مضاربة في مضامينها و أحادية في توجهاتها. و ستظل تلك الأساليب الإعلامية المحنطة عاجزة عن إخفاء الحقيقة و تزييف الوقائع على مسرح الجريمة.

لقد فشلت كل الأنظمة الأحادية و الدكتاتورية – حتى في ظل الداهية ولد الطائع- التي دأبت على تكريس خطاب رخو، تسيطر عليه ” الديماغوجية” و “الدوغمائية” الوثوقية، كمحاولة لتسويق نفسها. و قد ثبت عمليا بأن تلك الأساليب الإعلامية غير مفيدة مطلقا، و هي إنما تشوه أكثر صورة الأنظمة و تقوض مصداقيتها يوما بعد يوم إن على المستوى الشعبي أو على مستوى النخب الملتزمة. لقد أضحت الأساليب “المتخشبة” للمؤسسات الإعلامية العمومية في ظل الإنقلاب – وهي التي تعودت على إحتقار المتلقي و التلاعب بعقله- عائقا حقيقيا أمام مشروع التحول الديمقراطي و عرقلة للطموحات الوطنية المشروعة للشعب الموريتاني في سعيه الحثيث نحو الحرية و النهوض و النماء و الحياة الكريمة. إن هذه المصادرة غير المبررة لحق المواطن في معرفة “الرأي و الرأي الآخر” حول الانقلاب عبر الإذاعة و التلفزيون العموميين قد أدت إلى خلق نوع من الفراغ الإعلامي و الاحتقان التواصلي على نطاق وسع حول حقيقة الإنقلاب و تداعياته الخطيرة على حاضر و مستقبل البلاد.

و هكذا، ينتهي مشهد الديمقراطية الانتقالية في موريتانيا ليبدأ مشهد الديمقراطية الانتقالية “المضادة”. إنها نزعة “تكفيرية” جديدة داخل الساحة السياسية المحلية، ديمقراطية بدون ديمقراطيين، تقف وراءها قوى و مصالح مدنية و عسكرية مختلفة. تقوم الديمقراطية “التكفيرية” على قلب المفاهيم و تكسير المصطلحات و لي عنق الحقيقة. فيأتي “البيان” رقم 1 للانقلاب على طريقة “البلاغات الشعبية”، فهو خال تماما من أي إشارة إلى فكرة “إصلاح” أو “تصحيح” كما سيزعم بعد ذلك. و إنما اقتصر ذلك البيان-البلاغ على إعلان “التمرد” على أوامر صدرت في مرسوم رئاسي يقضي بعزل ضباط و تعيين آخرين محلهم. وفيما بعد، جرى تصوير الانقلاب للرأي العام على نحو مغاير للحقيقة و للواقع، ليصبح مجرد “ردة فعل” عفوية و “مسالمة”. ثم غدا بعد ذلك “تصحيحا” ضروريا لمسار ديمقراطي ما فتئت تتغير أهدافه وأبعاده بين نوازع الاحتفاظ بالحكم و ضرورات التعامل الحذر مع المتغيرات الأخرى. ثم يأتي الإبداع في سياق “البداع” – الذي، بالمناسبة، لم يعد مقتصرا على الشعر الحساني وحده- ليبلغ أوجه عند صدور الميثاق الدستوري “للمجلس الأعلى للدولة” الذي منح لنفسه “حق” تعديل أحكام الدستور و إلغاء بعض مؤسسات الجمهورية و الإبقاء على بعضها الآخر حسب الطلب و خدمة لأغراض تكتيكية أو دعائية، قبل إن يمعن ذلك “الميثاق” في انتزاع صلاحيات تنفيذية و تشريعية واسعة لأصحابه و في تعطيل صلاحيات أخرى.

ثم لتبدأ بعد ذلك رحلة تأييد الانقلاب و تبريره – بكل ما خف حمله – من طرف نخب سياسية ظلت جاهزة دائما لتبديل جلدها، بل إن منها من لم يعد لها جلد على الإطلاق. تلك النخب المائعة المتحالفة مع الإقطاع السياسي هي التي تمارس الآن – بكل خسة- خطيئة “زنا المحارم” مع جماهير المواطنين البسطاء في أرياف و قرى و بوادي هذا الوطن، مستغلة سذاجتهم و جهلهم و حاجتهم و أرحامهم، من أجل تجييشهم في لعبة التأييد و التمجيد الممجوجة هذه، مهما يكن الوافد الجديد إلى كرسي السلطة. نخب الإقطاع السياسي تلك قد خدعت كل الأنظمة السياسية المتعاقبة و خدعتها هي كل الأنظمة كذلك. إنها نوع من الطاعون السياسي المزمن في هذا البلد. و هي – في كل الأحوال- لا تمنح شرعية مفقودة و ليس بمقدورها أكثر من بضع مسيرات “مسيّرة” – حسب الطلب- لك و لأخيك و للذئب. مسيرات أشبه بالإعلانات المبوبة “مدفوعة” الثمن مسبقا. و أما “مسلسل” الطاولات المستديرة في الإذاعة و التلفزيون، حيث يظهر “العرابون” بحضرة “جلاديهم” في مشاهد باهتة تجمع بين أحادية الرأي و التضليل و التطبيع مع الانقلاب، فهي أقرب إلى حلقات استجواب بوليسي على طريقة “القولاق” السوفيتيgoulag منها إلى أصول النقاش الحضاري المفتوح.

أما بخصوص موضوع تأييد الانقلاب، فتلك رياضة “جمباز” موسمية حرجة و محرجة في الوقت نفسه، ربما ينال فيها البعض “ميداليات” في هذه “الأولمبياد” أو قطعا صغيرة من الكعكة فقط. ولكن، بطبيعة الحال، لن يسع ذلك “الكرم” جميع “المزمرين”. كما أن هؤلاء غلاة المؤيدين لا يتمتعون بأي حس عقلاني ليراعوا “الاقتصاد” في “التصفيق” لكي يبقى في جعبهم ما يؤيدون به أي ضيوف آخرين “قادمين” إلى الحكم إذا ما استمرت “اللعبة” الحالية على هذا النحو من الارتجال. باختصار، إن موقف مؤيدي الإنقلاب على الشرعية الدستورية في موريتانيا، بحجة الحرص على “تصحيح” اعوجاجها، يشبه إلى حد كبير موقف من يسرق مالا من جيبك ثم بعد ذلك، يحاول أن يقنعك بأنه كان “ينوي” التصدق بذلك المال على الفقراء و المساكين. و في كل الأحوال، لا يبدو بأن الموريتانيين و العالم من حولهم سيقبلون – هذه المرة- الانصياع لممارسة الديمقراطية بالمقلوب على طريقة “نفذ ثم ناقش”. حيث القاعدة الصحيحة للعبة تقول: مهما يكن من أمر، لا تقم بانقلاب عسكري و لا تأخذ السلطة بالقوة ثم تبدأ في حشد التأييد لنفسك، فإن ذلك لن ينفعك، بل أصبر و انتظر انتهاء مأمورية من جاء قبلك، ثم رشح نفسك و ادخل في الحملة الانتخابية لتجرب حظك إلى جانب غيرك. و بالمناسبة، لماذا لا يسعى البرلمانيون المغاضبون – بعد حصول قدر من الرضا- إلى سن قانون يجعل هذه العبارة تظهر على الأوراق النقدية لعملتنا الوطنية؟ إلى جانب العبارة الأخرى الشهيرة “إن مرتكب التزوير و محاكاة العملة و المتمالئ معه يعاقبان طبقا للقوانين و الترتيبات المعمول بها”.

و أما بخصوص تبرير الانقلاب على الشرعية الدستورية، فتلك محاولة يائسة تنطوي على الكثير من المغالطات و التناقضات التي لا تصمد أمام النقد و التحليل. و يكفي هنا فحسب تشخيص بعض النماذج منها على سبيل المثال لا الحصر. فكيف يعترف الضباط الإنقلابيون للرئيس المنتخب بكامل صلاحياته الدستورية غير منقوصة، عندما أصدر في بداية السنة الجارية مرسوما يقضي بترقيتهم إلى رتبة جنرال، بغض النظر عن مدى التقيد آنذاك بمسطرة الإجراءات المتبعة، بينما ينكرون عليه الآن نفس الصلاحيات حين يصدر مرسوما مماثلا بإقالتهم؟ من جهة أخرى كيف تجيز أصول العرف العسكري أن يقوم ضابط سام أسرّ إليه رئيس الجمهورية بتكليف عمومي يتعلق بتعيينه في مركز عسكري قيادي، بالاتصال بضابط سام آخر لا تربطه به صلة عمل، من أجل معرفة رأي الأخير في قرار رئاسي، بحجة أن الأول لا يثق في الرئيس؟ ثم لماذا لا يتم التحقيق مع البرلمانيين الذين ذكر بأنهم تلقوا “رشاوى” من طرف الرئيس لشراء ذممهم إذا كانت الأدلة متوفرة حقا؟ من جهة أخرى، كيف يجري تبرير انقلاب عسكري، يقوده جزء فقط من الأغلبية الحاكمة، كعصا سحرية لحل جميع مشاكل البلاد بعد أن عجزت الأغلبية كلها مجتمعة عن التصدي لتلك المشاكل و إيجاد الحلول المناسبة لها في ظل انسجام داخلي نسبي و توفر عون دولي سخي. فكيف يعقل أن تحل نفس المشاكل في ظل تجميد المساعدات الدولية للبلاد و التهديد بالعقوبات و الحصار الاقتصادي عليها، وسط أجواء تنذر باستقطاب شديد داخل الساحة السياسية المحلية بين القوى المؤيدة و الرافضة للإنقلاب، لا يتوقع أن تبقى المؤسسة العسكرية نفسها بعيدة عن تداعياته المحتملة؟

فإلى متى ستظل مثل هذه الممارسات البشعة التي يسميها المفكر الفرنسي الكبير “جان فرانسوا بايار” في كتابه “الدولة في إفريقيا”، بـ “سياسة البطن” (la politique du ventre) تمارس بوتيرة شبه منتظمة على خلفية “ضربات القوة” و “ضربات الدم” العبثية التي تتشابه و تتوالى على بلادنا في نوع من “العود الأبدي” التعس؟ وهل سيتغير الجوهر الاستبدادي لنظام الحكم في موريتانيا من خلال ديمقراطية تكفيرية بدون ديمقراطيين؟ أم سيظل الاهتمام بالديمقراطية من طرف مختلف الفاعلين مجرد معطى متغير الأبعاد؟ و هل سيتم إيجاد حل جذري للمعضلة المزمنة حيث تستخدم أدوات “العنف العمومي” للدولة متمثلة في الجيش والأمن كوسيلة للوصول إلى السلطة والتمسك بها تحت أي ذريعة؟ و هل ستوضع ضوابط موضوعية و ميكانيزمات فعالة للتعاطي مع المؤسسات العسكرية والأمنية باعتبارها مؤسسات جمهورية، لها ما لها وعليها ما عليها بموجب القانون ولا يمكن أن تكون- بأي حال من الأحوال- فوق الجمهورية أو فوق الشرعية، أحرى أن تكون في مواجهة معها، كما يحدث الآن؟

و في انتظار التئام “غوغاء” الأيام التفكيرية القادمة، حين مناقشة هذه التساؤلات و غيرها، في ظل ديمقراطية “تكفيرية” متطرفة، سيظل هنالك فارق واحد على الأقل بين انقلابي أغسطس 2005 و أغسطس 2008. فقد ذهب الأول بعد أن فقد جل أمجاده، أما الثاني، فقد جاء بلا أمجاد.

***
* باحث – المركز الموريتاني لأبحاث التنمية والمستقبل / msaleck02@yahoo.fr

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button