مقالات

الجابري: معمار فلسفي بألوان الطيف السبعة/ الحسن ولد احريمو

في منتصف الثمانينيات تقريباً ألقى فقيد الفكر العربي محمد عابد الجابري، رحمه الله، محاضرة في نواكشوط، فتح بعدها مجال الحوار للطلاب، فتقدم أحدهم طارحاً سؤالاً “فلسفياً” -بالمعنى الشعبي للكلمة- مؤداه أن: “العباقرة يتحاورون عبر العصور… وينتهكون بعبقريتهم أحياناً كثيرة معهود صيرورة الزمن وترتيب يومياته حين يؤثر اللاحق منهم في السابق، لا العكس، كما يفترض. وكمثال فإن نظريات أرسطو وأفلاطون الوجودية ربما لا يتيسر أبداً فهمها دون فلسفة أفلوطين الذي ولد بعدهما بعدة قرون (توفي 270م)، وهذا الأخير قد يستغلق على الفهم هو أيضاً دون نظرية “الفيض” عند الفارابي، المتوفي سنة 950م، وربما حتى نظرية الحدس عند برجسون المتوفى سنة 1941م”! وتحت إلحاح مشرف المحاضرة بضرورة الإيجاز وطرح السؤال مباشرةً، لفظ الطالب “الفصيح” أخيراً سؤاله: “هل الجابري تأثر بابن رشد… أم أن ابن رشد هو الذي تأثر بالجابري؟”! وبسرعة رد الجابري على هذا السؤال بابتسامة وعبارة “أقبَلُ الاتهامين معاً”، التي رددها ممازحاً، ولم يزد على ذلك. ولعل أول الاتهامين اللذين يشير إليهما متعلق بالتوسع في تأويل النص الرشدي، وقراءته قراءة اجتهادية معاصرة هي عمليّاً ومنهجيّاً إعادة كتابة له. وأما الاتهام الثاني فلعله هو أيضاً إشارة ضمنية إلى تهمة التهم الأبدية، أي التلبس بالاشتغال بالدرس الفلسفي في حد ذاته، وهي تهمة -لو تعلمون- خطيرة، في التقليد -وأحياناً المخيال- الثقافي العربي الإسلامي، مع ما ظل يتبعها من حتمية “تكفير” و”تفسيق” و”تسفيه” خاصة بعد محنة ابن رشد، وفتوى ابن الصلاح الشهيرة التي جاء فيها: “الفلسفة أسُّ الضلال والسَّفَه”.. و”من تمنْطَقَ تزنْدَقَ، وعَميت بصيرته عن محاسن الشريعة المُطهَّرة”… الخ.

والشاهد في هذه الأمثولة هو ارتباط المشروع الفكري التجديدي الذي أنجزه الجابري في أذهان كثيرين بما مثله ابن رشد في تاريخ الفكر الفلسفي النقدي الإنساني بصفة عامة، والعربي الإسلامي منه خاصة. ولذا طالعنا خلال الأيام الماضية، بعد رحيل الجابري، إحالات ذهنية كثيرة في هذا الاتجاه مثل مقال الكاتب السوداني طلحة جبريل: “سي عابد… ابن رشد العصر” الذي شغل صفحة كاملة في جريدة “الشرق الأوسط” اللندنية، والعمود التأبيني المؤثر “ابن الجابري” للكاتب اللبناني الشهير سمير عطا الله، في ذات الصحيفة، وسواهما كثير. ومع أنه يلزم الاعتراف طبعاً بأهمية ما يمثله الركن الرشدي في المعمار الفلسفي الجابري، إلا أنه، مع ذلك، ليس هو كل شيء. صحيح أن صاحب “نقد العقل” جعل الرشدية على رأس العقل البرهاني الأرقى -ضمنيّاً- بين التكوينات التكتونية البنيوية الثلاثة الناظمة للعقل العربي (البرهاني والعرفاني والبياني). وصحيح أيضاً أنه تفرغ طيلة سنتي 97-1998 لإعادة إصدار أعمال فيلسوف قرطبة كاملة بعد اكتشاف كتاب “الضروري في النحو” لابن رشد الذي كان مفقوداً وعثر عليه في موريتانيا، و”الضروري في السياسة”، الذي لا زال أصله العربي مفقوداً حتى الآن، وقد أشرف الجابري على تعريب النسخة الوحيدة المتوفرة منه باللغة العبرية بالتعاون مع باحث عربي متخصص في تلك اللغة. إلا أن البعد الرشدي، على رغم أهميته، لا يختزل سعة أفق المشروع الفكري الذي اشتغل عليه الجابري. هذا إن لم نقل، دون كبير مبالغة، مع الكاتب السعودي عبدالله بن بجاد العتيبي إن “الجابري أعلم من ابن رشد” -وهذا عنوان إحدى مقالاته المنشورة في جريدة “الاتحاد” الإماراتية.

معمار فكري متعدد الأبعاد

لقد ظلت هنالك مدرستان، أو بالأحرى منزعان فلسفيان، يتنازعان الجابري طيلة مسيرته الحافلة، طبعا آثارهما قوية في مشروعه الفكري النقدي. الأول معرفي “إبستيمي” حيث ظل مقتنعاً باستحالة إنجاز أية نهضة عربية إسلامية دون أن تتوسل لذلك وسائله الصحيحة وأولها المدخل الإبستيمولوجي المعرفي للنهضة، بما يقتضيه من إعادة إطلاق مَلَكة الاجتهاد مقرونة بتدشين عصر تدوين جديد. وفي هذا السياق استعان الجابري بروح المنهج النقدي الديكارتي، وببعض مفاهيم الدرس الإبستيمولوجي عند غاستون باشلار، كما أخذ أيضاً من المدرسة البنيوية أعز ما عندها من تقاليد منهجية في التفكيك النصي والتقعيد المنهجي والحس النسقي، واستدعى كذلك من التقليد الماركسي تفسيره الاقتصادي لحركة التاريخ، ليمارس مستعيناً بكل هذه الكيمياء الفكرية نوعاً من “مسح الطاولة” -بالتعبير الديكارتي- في قراءته المتأنية للتراث، وفي وصفه للخطاب العربي المعاصر، على نحو تكلل في النهاية بإعادة مساءلة ونقد العقل العربي، ووضعه في أطر تصنيف وتفسير عالية النسقية، لينتهي بذلك إلى ترهين التراث، وإنارة الحدود السديمية الثاوية بين الماضي والحاضر في الخطاب العربي المعاصر.
وضمن هذا الجهد المعرفي البرهاني لاشك أن الجابري احتاج إلى الرشدية كمرجعية عربية إسلامية، فأعاد إحياءها وتبْيئتها. وهنا يحسب له بشكل خاص شرف الاستعادة العربية لابن رشد الذي طالما تعرض لحالة اختطاف غربي مزمنة منذ أيام الرشديين اللاتين، وأيضاً منذ محنته الشهيرة ونفيه الكئيب والجائر من الثقافة العربية الإسلامية عامة، ومن بلاد المغرب الأقصى بصفة خاصة -وقد سجل لنا “الشيخ الأكبر” محيي الدين بن عربي شهادة مؤثرة يوم حضر وفاة ابن رشد “اللاجئ” في مراكش، التي كفّره فقهاؤها، وضايقته سلطاتها، وعندما مات أخيراً ضنت عليه حتى بشبر من التراب يضم رفاته، فنُفي جثمانه شريداً طريداً على بعير أجرب «سنة خمس وتسعين وخمسمائة بمدينة مراكش ونقل إلى قرطبة وبها قبره. ولما جُعل التابوت الذي فيه جسده على الدابة جَعلت تآليفه تعادله من الجانب الآخر، وأنا واقف … وقال أبو الحكم بن برجان (صاحبي) ألا تنظرون إلى من يعادل الإمام ابن رشد في مركوبه؟ هذا الإمام وهذه أعماله -يعني تآليفه- فقال له آخرون، وابن جبير، يا ولدي نِعم ما نظرت لا فض فوك، فقيَّدتها عندي موعظة وتذكرة رحم الله جميعهم»! والكلام طبعاً لابن عربي.

أما المدرسة الثانية فهي التي شكلت، منذ البداية، العمود الفقري للمعمار الفلسفي الجابري، ونعني تحديداً المدرسة الخلدونية. فمنذ رسالته ذائعة الصيت لنيل الدكتوراه عن “العصبية والدولة… معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي”، ظلت روح فلسفة التاريخ، وتقاليد الدرس الخلدوني منها بصفة خاصة، بوصلة وبارومتراً معرفياً ومنهجياً، ناظماً وموجهاً وحاكماً، لم يفارق الجابري طيلة سنوات عمره اللاحقة، وفي عموم نتاجه الفكري الغزير. وفي هذه الزاوية الخلدونية تحديداً توجد أوجه شبه قوية بين الجابري ورائد آخر من رواد نقد العقل العربي ونعني طه حسين الذي انطلق هو الآخر في رسالة تخرجه من فرنسا من “الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون”، كما استمد من المنهج النقدي الديكارتي الكثير من أصول قراءاته النقدية للتراث، وللشعر الجاهلي بصفة خاصة.

ولا حاجة للتذكير أيضاً بأن دراسة الجابري ذائعة الصيت تلك حول ابن خلدون حازت سبق الفضل أيضاً في استعادة صاحب “المقدمة” الذي نفي هو الآخر من الثقافة العربية طيلة أربعة قرون تقريباً، حتى اكتشفه المستشرقون في القرن التاسع عشر، ليعيد العرب بعد ذلك اكتشافه، وإن بطرائق وصفية سطحية أو احتفالية عاطفية ساذجة، حتى جاء كتاب الجابري المذكور فقرأ “المقدمة” بحس نقدي تاريخي منهجي رصين، وكما ينبغي للقراءة الحصيفة المتأنية أن تكون. وتماماً مثل إعادته الاعتبار لابن رشد نهض الجابري هنا أيضاً بواجب كفاية “الاعتذار” للولي ابن خلدون، باسم أهل المغارب كافة، وخاصة أن صاحب “المقدمة” عاش النصف الثاني من حياته “شبه لاجئ” في القاهرة، بعدما ضويق وعزل وسجن، وضاقت عليه المغارب بما رحبت، وأوغرت القلوب بينه وبين العلامة ابن عرفة. وفي مرحلة لاحقة قتل خنقاً صديقه الشاعر لسان الدين بن الخطيب السلماني صاحب “الإحاطة”. وحتى هناك في القاهرة تنطَّع أيضاً بعض جوَّابي الآفاق من المغاربة الواردين على مصر للنَّيل منه، والوشاية به عند ذوي الشأن، ليعزل من قضاء المالكية عدة مرات، متطوعين أثناء ذلك بمراطنة الرعاع والسفهاء للتشكيك في علمه وأخلاقه، في وقت أبت فيه النحوس المتلاطمة والمصائب المتزاحمة أن تأتيه فرادى فغرق قبالة الإسكندرية أفراد أسرته، ومكتبته النفيسة، وقد عبَّر صاحب “المقدمة” عن كل تلك المحن في كتاب سيرته الذاتية النفيس “التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً” مكتفياً بجوامع من الكلم غاية في الإيجاز والصبر والاحتساب: “فذهب الموجود، والسكن والمولود، ورجع الزهد”.

والشاهد في كل هذا الاستطراد الطويل -وربما الممل- أن إعادة الاعتبار عربيّاً ومغاربيّاً للعلامة ابن خلدون ومنجزه الفكري ومدونته المنهجية والتاريخية، يعود الفضل الأول والأخير فيها للمرحوم الجابري، ولو لم ينجز سواها لكفت ووفت.

تقويم فلسفي قائم بذاته

على أن البعدين الرشدي والخلدوني، مع ذلك، لا يكفيان وحدهما لاختزال منجز الجابري الفكري. فقد كان الرجل تقويماً فكريّاً وفلسفيّاً قائماً بذاته، يكاد يصدق عليه ما قاله هو نفسه عن مقدمة ابن خلدون من كونها مدونة لا ترد يد لامس، ففيها يجد كلٌّ شيئاً مما يريد، سواء في ذلك الفقيه والشاعر والفيلسوف والساحر، والماركسي والقومي والإسلامي… الخ. ففي التراث الفكري الذي تركه الجابري أيضاً يجد كلٌّ بعض ما يريد، لشمولية المشروع، وموسوعية الاهتمامات، وأصالة المنزع والمحتد الفلسفي، الذي اجتمع فيه كثير مما تفرق في غيره من ملكات إبداع واجتهاد، وقبل هذا وذاك لكون الجابري نفسه كان طيلة حياته مثقفاً عضويّاً -بتعبير جرامشي- صاحب مشروع وقضية مهموماً بأسئلة النهضة العربية بصفة عامة، مناضلاً في سبيل إنجاز مطالب العمل الوطني في بلاده المغرب الأقصى بصفة خاصة.

ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن مشروع نقد العقل العربي الذي أنجزه الجابري كان هو أكمل وأعمق مشروع من نوعه، خلال القرنين الماضيين، وخاصة أن ما أنجز قبله، أو تزامناً معه، من مشروعات فكرية، كان إما مشروعات إسقاطية إيديولوجية ذات منزع ماركسي خاصة (طيب تيزيني وحسين مروة)، أو مدونات تجميعية وصفية مدرسية كما هو حال معظم أعمال المستشرقين، والمشتغلين المدرسيين العرب بالتراث، وبالدرس الفلسفي خاصة.

هل المعاصَرة… تنفي المناصَرة؟!

ولكن على رغم هذه الأصالة والفرادة فقد تعرض المعمار الفلسفي الذي بناه الجابري للكثير من معاول النقد والهدم، دون طائل. وهنا يتكشّف وجه شبه آخر بينه وبين ابن رشد وابن خلدون، حيث يمكن القول، دون كبير مبالغة، إن معظم معاصري الجابري من المفكرين العرب لم يعرفوا -أو على الأقل لم يعترفوا- بما لمشروعه الفكري من فرادة وتميز استثنائي، وكأن المقولة الشهيرة: “المعاصَرة حِجاب” ستبقى قدراً مقدوراً على كافة عظماء وعباقرة ثقافتنا العربية الإسلامية، تحُول بين معاصريهم وبين رؤية الصروح المعرفية التي يبنونها! وهي ذات المقولة التي يعبر عنها عادة في ثقافتنا العامية بالصيغة الشهيرة “المعاصَرة تنفي المناصَرة”! وليس خلواً من المعنى أن الجابري نفسه رصد طرفاً من معاناة المبدعين العرب المزمنة هذه مع بني جلدتهم في عمله “المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية، محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد”! والأدلة هنا، على تلك المعاناة وعلى “حِجاب المعاصرة” بصفة عامة، تندُّ عن الإحصاء والعد، فمع أن أبدع وأروع ما كتبه الجابري قد يكون مقدمة كتابه “نحن والتراث”، إلا أن تلك المقدمة لم تسلم -لا هي ولا الكتاب- من سفه النقد المتحامل، ولا من خفة النقد المجامل. وحين صدر “نقد العقل” ذهب البعض إلى أن تصنيفه الثلاثي لبنيات العقل العربي (البرهان والعرفان والبيان)، مستمد ولو جزئيّاً من “الرسالة القشيرية” دون الإشارة إلى ذلك، مع أن الجابري لم يكن قد قرأها أصلاً، هذا زيادة على بُعد الشقة، موضوعيّاً ومنهجيّاً، بين مشروع الجابري الفلسفي بكل شموليته وتعقيده وحداثته، وبين تلك الرسالة القديمة في التصوف المؤلفة قبل قرابة ألف سنة. وعلى وجه التبسُّط فقط لا بأس أن نورد هنا تلك الفقرة “الخارقة” من “الرسالة القشيرية” التي تربَّع البعض -لا فض فوه- وقال إن الجابري ربما “استمد” منها كل مشروعه الفكري، يقول القشيري: «نور في البداية هو نور العقل، ونور في الوسائط هو نور العلم، ونور في النهاية هو نور العرفان، فصاحب العقل مع البرهان، وصاحب العلم مع البيان، وصاحب المعرفة في حكم العيان»! هذا كل ما هنالك على الأرجح… فتأمل… تأمل خفة تلك “التهمة” التي تبدو، لفرط تفاهتها وتهافُتها، أشبه بمضاحك السفهاء وأحاديث السمر!

كما انتقد مشروع الجابري مثقفون كثر خاصة في بلاده المغرب، ربما عملاً بالمثل الشعبي الذائع “زامر الحي لا يُطرب”! حيث انهال عليه النقد من منطلقات مختلفة، وعلى أيدي مثقفين كبار مثل بنسالم حميش في كتابه “معهم حيث هم”، وكمال عبداللطيف الذي اتهمه بالتوفيقية أو تبني العقل التوافقي. كما وصف طه عبدالرحمن قراءته للتراث بأنها “تجزيئية وليست تكاملية”، لأن “قراءة الجابري وغيره من المثقفين المتحزبين يغلب عليها الاستعجال النضالي”! وكذلك انتقده إدريس هاني في كتابه “محنة التراث الآخر”، هذا طبعاً دون إغفال تعقيد الجيرة الفكرية الصعبة بين مشروعه النقدي ومشروع المفكر المغربي الشهير الآخر عبدالله العروي!

أما منتقدو الجابري العرب فهم أيضاً أكثر من أن يحصوا، وإن كان من أشهرهم المفكر السوري جورج طرابيشي في كتابه “نقد نقد العقل العربي”، الذي ركز على ما اعتبره عدم اتساق داخلي في البنية التحليلية للمشروع الجابري، حيث ارتكزت في “البنية” و”التكوين” على ثلاثية (العرفان والبيان والعرفان)، وحين لم يسعف ذلك التصنيف في “العقل السياسي” استعاض الجابري عنه بتصنيف ثلاثي آخر هو (القبيلة ، والغنيمة ، والعقيدة)! وكذا انتقده أيضاً المفكر التونسي فتحي التريكي، واللبناني “علي حرب” اللذان أخذا عليه استخدام كلمة “العقل العربي” من الأساس، وقد فضل الأخير خاصة عليها كلمة “الفكر”، على اعتبار أن العقل الإنساني مشترك وواحد، وإن تعددت صوره… الخ.

على أن موجة انتقاد الجابري وأعماله بلغت الذروة عند المفكر السوري طيب تيزيني في كتابه “من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي”! وكذا عند المفكر الفلسطيني فهمي جدعان في كتابه: “الطريق إلى المستقبل”، وأخيراً عند المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري الذي يقول -ختاماً- إن مشروع الجابري: “نقد العقل العربي أشبه ما يكون ببناء معماري فسيح، له واجهة زخرفية جذابة، وأروقة تبهر القادمين إليه، لكنه من الداخل لا يضم إلا القليل من الغرف الصالحة للسكن. أعني أن مقدماته وتحليلاته جذابة وشائقة، أما نتائجه الحقيقية فهي موضع نظر، ويتصف بعضها بالهشاشة المعرفية والتنظيرية التي لا تمثل بناء يذكر في الفكر العربي”!

الفلسفة العربية و”عُقدة ساعي البريد”!

وحتى أكون منصفاً مع الطالب صاحب السؤال “الفصيح” الذي ذكرته في البداية، ربما يتعين عليَّ أن أذكر أيضاً سؤالاً آخر ربما يكون من ذات النوع طرحتُه قبل سنتين تقريباً في محاضرة مشتركة ألقاها المرحوم الجابري، مع مفكر عربي آخر، في قاعة ابن ماجد بالمجمع الثقافي في العاصمة أبوظبي، حيث طرحتُ سؤالاً مؤداه: متى يتخلص المشتغلون العرب بالدرس الفلسفي من “عقدة ساعي البريد”، فيتخلون عن الاكتفاء بموضة ترجمة آخر المفاهيم والنظريات الغربية المعقدة والتسابق للترويج لها في المشهد الفكري والثقافي العربي؟ متى يبدع العرب نظريات ومفاهيم فلسفية جديدة، بعيداً عن النظريات والمفاهيم الغربية؟ وكان مكمن الحرج -غير المقصود- في هذا السؤال أن معظم أعمال المفكر الآخر، الجالس إلى جانب الجابري، هي أساساً ترجمات لنظريات مدرسية غربية، بحيث يمكن وصفه بأنه مفكر- مترجم، إن جاز التعبير! وقد تولى المرحوم الجابري -الذي يعرفني لماماً لأسباب مهنية- الرد بعبارات راقية تعتذر ضمناً عن السؤال وإن كانت لا تضرب صفحاً عنه، بل تجيبه بكيفية محتشدة يكتنز فيها اللفظ ويتسع المعنى.

وعلى ذكر تعريب الفلسفة يتميز الجابري أيضاً، بين نظرائه المغاربيين خاصة، بأنه ربما يكون هو المفكر الوحيد الذي “يفكر باللغة العربية”، إن صح التعبير، فقد ظل النص العربي دائماً هو المتن في أعماله، وظلت المدونة الغربية دائماً هامشاً، على عكس غلبة الثقافة الفرانكوفونية -الناطقة بالعربية أحياناً- على أعمال واهتمامات وطرائق تفكير معظم المثقفين المغاربيين الآخرين.

وعلى ذكر جدل العروبة والفرانكوفونية مغاربيّاً يجدر بالتذكير هنا أن بعض من سموا أنفسهم ممثلي “جمعيات أمازيغية مغربية”، انتهزوا مناسبة تكريم “اليونسكو” للجابري بصفته “أحد أكبر المتخصصين في ابن رشد”، للاحتجاج على هذا التكريم، معتبرين الجابري في رسالة احتجاجهم تلك: “أحد المنظّرين الأساسيين لإبادة اللغة والثقافة الأمازيغية”، محيلين -للتدليل على مزاعمهم- على كتاب الجابري القديم “أضواء على مشكل التعليم في المغرب” الصادر عام 1973. كما اتهموا الجابري بـ”الترويج المبالغ فيه للإيديولوجيا العُروبية، حتى أضحى من المدافعين المتشددين عن الأنظمة العربية العنصرية الدموية”! والأكثر تسلية في رطانة “دعاة الأمازيغية باللسان والفرانكوفونية بالوجدان” أولئك هو عدم إشارتهم، ولو بكلمة، إلى أن هذا الجابري “العروبي” الذي يتهمونه بالتنظير لـ”إبادة” الأمازيغية هو نفسه أمازيغي أصلاً، حيث ولد في قلعة أزناكة بمنطقة افكيك، في عائلة من أصول معروفة بما يغني عن الاستطراد!

كما ختم الجابري، رحمه الله، أعماله الفكرية أيضاً بإنجاز قراءة في القرآن الكريم، مثلما كان علماؤنا الفطاحل القدامى يفعلون، وهي قراءة انتقدها بعض المفكرين مثل المفكر العراقي طه جابر العلواني، واللبناني رضوان السيد. ورأى أيضاً بعض القراء -وأنا منهم- أن بعض منطلقاتها لم تكن مناسبة. وأن القرآن الكريم في غنى عنها، كما أن قيمة الجابري الفكرية ومنجزه المعرفي في غير حاجة إليها كذلك. وختاماً، وكائناً ما كان الموقف من الجابري وقراءته تلك في القرآن الكريم، فإن مما يحسب له فيها، على كل حال، شرف المقصد وفضل التجديد وأجر الاجتهاد، بل الأجران معاً، إذا حُمل الحديث الشريف المشهور على تأويل القاضي العنبري الذي يرى أن كل مجتهد مصيب.

الحسن ولد احريمو
صحفي موريتاني

ould_mokhtar@yahoo.fr

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button