مقالات

بوط العبد / محمد المختار ولد احمين اعمر

على إثر التطورات الأخيرة حاورت أغلبية أطر “الحراطين”، موالاة ومعارضة، مستقلين ومواطنين عاديين وجلهم مفعم بالوطنية، الممزوجة بالمرارة. فلا هم يساومون على حساب الوحدة الوطنية والسلم الإجتماعي ولا هم راضون عن تعاطي الأنظمة عبر جميع مراحل الدولة مع قضيتهم، كمكون أساسي له وزنه وخصوصيته.

-يشعرون جميعهم بالظلم والتهميش والإقصاء، ويدركون تماما أن المستقبل غير واعد، بل وأكثر من ذلك ينطوي على مخاطر جمة لا يمكن تداركها. وقد بدأت بالفعل تداعياته تظهر على السطح.

-ترعرعوا جميعهم في أوساط قبلية “بيظانية”، وتموقعوا كلهم في مناطق جهوية، حيث كانت القبيلة حاضنة، وتلاشى دورها التكافلي كما كانت الجهة فضاء رحبا يكفل قدرا ولو يسير في إطار التعاطي بين الأفراد والمجموعات ليتلاشى مفهومه هو الآخر.

-أنشؤوا حركة “الحر” في السبعينيات ليعبروا من خلالها عن خصوصيتهم ويضمنوا ما أمكن من حقوقهم في إطار دولة يفترض أنها للجميع، لتمارس حركتهم تلك نشاطاتها في السر برهة من الزمن وتختفي بعد ذلك، دون الوصول إلى المبتغى.

-مارسوا الديمقراطية كوسيلة تعددية تضمن للفرد حقه وللجماعة مصالحها على أساس ثقلها في الساحة السياسية، فوجدوا أنفسهم أمام عشر برلمانيين من أصل 151، و15 عمدة من أصل 216 وأربعة وزراء من أصل 40 إلى غير ذلك من الغبن.

-أنشؤوا منظمة تعنى بنجدة العبيد في الثمانينات، لتعيد صياغة الخطاب وتضفي عليه صبغة أكثر تطرفا وعنصرية، سبيلا إلى إيصاله للنظام في تلك الفترة، لكن هذه الحركة قوبلت بالرفض في الداخل وهوجمت من الخارج، لتستسلم في النهاية كشقيقتها الأكبر.

-في نفس العقد الزمني وبعد تلاشي حركة الحر وأخوك الحرطاني تبنى مسعود ولد بلخير نفس الخطاب المتشدد والمتطرف فجاءت حركة الناصريين في ثوب الدفاع المدني ومدت خراطيم المياه لإخماد الحريق، وتجاوز المرحلة.

-وقبل هذا وذاك وخلال فترة الإستعمار حاول الفرنسيون بعد فشل البندقية أن يغزو البلد ثقافيا، وفتحوا المدارس لكن شيوخ القبائل والأمراء كرها للغة الفرنسية والنصارى، وليس حبا للعبيد ولا أبنائهم أرسلوا الحواشي بما فيهم العبيد بدلا من أبنائهم، ليجد بالصدفة بعض هؤلاء فرصة للتعلم أفرزت نخبة لا تتجاوز أصابع اليد.

-وبعد الإستقلال مباشرة فهم “البيظان” و”التكارير” قيمة المدرسة النظامية، ليدخلوها أفواجا على حساب الحراطين والفلان، ولم تكن الدولة يوما من الأيام سببا في حرمان هؤلاء من التعلم، لكنها لم تقم بدورها كأم وتركت التعليم اختياريا لتنفرد به، شريحتا البيظان والزنوج، نظرا لقدراتهما السياسية والمادية على الولوج إليه، تاركين الشرائح الأخرى كمواطنين من الدرجة الثانية.

ولما ظهرت الدولة الحديثة بمؤسساتها إحتلت الفئتان كافة المناصب الإدارية، والسياسية وبدؤوا بإنشاء المؤسسات والمصارف والسيطرة على مفاصل التنمية، ليجد الحراطين أنفسهم أيضا أمام إدارات مكتظة لا مكان فيها إلا لحامل شهادة أو صاحب وساطة قوية وعادة ما تكون خلفيتها قبلية، وفي الحد الأدنى سياسية.

في حين لم يتموقع من الحراطين سوى الأقلية التي جاءت بها الأقدار، وإكتوت بنار خلفيتها الكثيف والجائع.

ليستمر القطار دون توقف ويبتعد هؤلاء عن أولئك ابتعاد السماء من الأرض، دون إلقاء حبل نجاة للمعاقين والمقعدين وذي الاحتياجات الخاصة.
حاولت الحكومة الموريتانية بعد الإستقلال الإنتباه للظاهرة، لتترك أثرا في الوثائق ليس إلا، فأصدرت تعميما سريا سنة 1966، يقضي بحث السلطات الإدارية والأمنية على التعاطي مع ظاهرة العبودية بشيء من الصرامة، وأصدرت تعميما آخر سنة1969 يحمل نفس المضمون ويكتسي نفس الصبغة السرية، ليبقى الحال على حاله وتتسع الهوة وتتعالى الأصوات.

في سنة 1981 قرر نظام ولد هيداله تجريم العبودية وطبق الشريعة الإسلامية، ولم يجني هؤلاء سوى قطع الأيادي بذريعة تجريم السرقة.
ثم جاء نظام ولد الطايع كمنقذ وقبل نهاية الثمانينات حاول استخراج البترول عبر آبار على ضفاف المحيط والنهر، فدفعت فرنسا بحركة “افلام” للإطاحة بالنظام وزعزعة الإستقرار، وتجسد ذلك من خلال الإنقلاب الفاشل الذي خطط له الزنوج بدعم وتنظير من طرف الفرنسيين وبالتعاون مع المعارضة السينغالية آنذاك.

وبعد فشل تلك المحاولة عاود الفرنسيون الكرة مرة أخرى، وأشعلوا نار الفتنة بين الجارتين، لخلق شرخ بين العرب والزنوج وهو ما قد حصل من أحداث 1989 التي مازلنا ندفع ثمنها إلى اليوم.

ولتقوية الصف الداخلي قرر ولد الطايع منح الحراطين عدة وظائف يعتبرها بعضهم ثمرة نضالهم، بينما يعتبرها آخرون تكميما للأفواه لتعزيز وحدة وطنية هشة منذ النشأة الأولى.

لم تشفع لولد الطايع إصلاحاته ولا علاقاته مع اسرائيل ولا حتى تقربه من أمريكا، لأن الموضوع كان مرتبطا في جميع تفاصيله بالذهب الأسود.
ففي يوم من أيام 1995 إستدعاني معاوية ولد سيد أحمد ولد الطايع، لإبداء رأيي حول قضية المبعدين ووضعية الحراطين وكنت معارضا للنظام وصارحته آنذاك بأن “الفلان” ظلموا وسلبوا وهجروا قسرا.

وأن الحراطين في وضعية لا تتحمل المزيد حيث قتلوا ونكل بهم في السينغال وهجرا بالآلاف لينضاف مشردون على الفئة الأكثر فقرا وبؤسا.
كان ولد الطايع حينها على علم من أن جهات أجنبية، قد تبنت تسليح المبعدين لخلق جبهة مسلحة على الضفة الأخرى، وكان يدرك أن المعارضة السينغالية بزعامة عبد الله واد كانت الظهير الأبرز ليس فقط للدفاع عن ملف المبعدين وإنما أيضا لإحتلال الضفة الموريتانية بواسطة الجبهة التي يراد تسليحها.
وفي تلك الاثناء وصلت معلومة مصدرها ضابط سينغالي، ومتلقيها ضابط موريتاني مفادها أن باخرة أجنبية تحمل مواد غذائية للمبعدين ستتوجه إلى السينغال، وعلى متنها إضافة إلى تلك المواد ترسانة من الأسلحة الخفيفة، موجهة إلى المبعدين الموريتانيين، ليشتد الإرتباك ويدب الخوف في مفاصيل النظام.
وبما أن النظام الموريتاني كان ضحية لمؤامرة أطرافها أربعة: فرنسا، الزنوج، المعارضة السينغالية، وبعض السلطات الوطنية، والنظام السينغالي إستجاب لضغط فرنسا وضغط معارضته من الداخل، إضافة إلى حجم المسفرين إليه وتجفيف منابع أرزاقهم، ظل خيط يربط النظامين لم ينقطع. وكان سببا في تجاوب السلطات السينغالية مع السلطات الموريتانية واعتراض الباخرة وتفريغ شحنة الأسلحة قبل وصولها لأيادي المبعدين الموريتانيين.

منذ هذه اللحظة جاء ميلاد رابطة الأخوة والأصالة، بمبادرة مني شخصيا وهي المنظمة التي إهتمت بوصول “الفلان” التاريخية لتعزز الروابط عبر وشائج القربى وتخلق تأمينا إجتماعيا للفلان، سبيلا إلى عودتهم الآمنة.

واستمرت أنشطتها طيلة ثلاث سنوات مدافعة عن حقوقهم، حتى فتح النظام 12 ممرا للعبور بين روصو وكيهيدي، لتبدأ العودة الطوعية، تدريجيا وبالآلاف.
لم تحاول فرنسا الإطاحة بالنظام ولا زعزعة الإستقرار بواسطة الحراطين وقد فشلت في بلوغ أهدافها بالشكل الذي تريد مع أن الوتر كان حساسا وعزف عليه فنانون كبار. لكن عندما يقول المرحوم المختار ولد داداه الرئيس المؤسس في مذكراته: “أن قضية الحراطين ستقود موريتانيا إلى نزاع مسلح يدمر البلاد، أو إلى تغيير مجتمعي واسع”، يصبح لزاما علينا من باب الحرص على الوطن، دق ناقوس الخطر لإنتشال بلادنا من كارثة أكدها أبو الأمة وصانع استقلالها، حيث لا احد أدرى منه ولا أكثر حرصا على الجمهورية. خاصة وأننا نعلم أنه لم يبق باب إلا وطرقه هؤلاء كما لم يبقى طريق إلا وسلكوه حتى تعبوا ويئسوا وتعفنت في النهاية قضيتهم في غياب الأطباء والدواء، لتنبعث منها الروائح الكريهة التي نشتمها اليوم.

وبما أن القضايا المصيرية لا تموت، تجرأ بيرام ولد الداه ولد اعبيدي على حمل تلك الرائحة الكريهة، وتوزيعها بعدالة حتى يصاب الجميع بالزكام، وقد أضاف عليها نسبة من “إبطه” حتى يصاب أصحاب الحساسية بالصداع بعد الزكام، ويتجنب الآخرون مجرى الرياح.

وبيرام هذا مواطن موريتاني من مواليد اترارزة، رئيس منظمة لها جمهور، حائز على جائزة دولية في مجال حقوق الإنسان، مرشح لأعلى منصب في الدولة وحصد زهاء 61128 صوت أي أكثر من 8% في الإستحقاقات الأخيرة. لا يمكن تهجيره ولا نزع جنسيته وإذا كان البيظان قد أدخلوا على قاموس “الحسانية” المثل الشهير ” بوط العبد”، فإن العبد الذي تنبؤوا به هو بيرام بذاته. و”بوط العبد” لمن لا يعرفه من الجيل الجديد، من تركه شينة ومن قطعه يموت.

-سجن الرجل على خلفية “المحرقة” وأطلق سراحه دون معرفة الأسباب

-لم تصدر فتوى ولا نص قانوني يتيح للسلطات القضائية فرصة تجريمه حتى يصبح ضحية تصرفات مدانة شرعا وقانونا
-لم تمنع حركة “إيرا” من مزاولة أنشطة دون ترخيص، بل وأكثر من ذلك فتحت إضافة إلى مقرها المركزي مقرات في الداخل
-حصل بيرام على شهادة تبريز نوهي وثيقة قانونية تجب ما قبلها وتبرئ الحاصل عليها من كافة السوابق

-حصل على تزكية 100 مستشار بلدي وعمدة من مختلف ولايات الوطن

-تمت تبنيه من طرف أعلى هيئة دستورية في البلد كمرشح لرئاسة الجمهورية، وهو المنصب الذي يعادل رتبة أمير المؤمنين في دولة إسلامية، لإبعاده عن الشبهات والأوصاف التي يحلو للبعض نعته بها.

واليوم أحيل بيرام وزعامات “إيرا” إلى السجن، ومن المتوقع أن تتم محاكمتهم، لكن ما الذي سنجنيه نحن من محاكمة بيرام؟ هل سيكف عن الإساءة عن الأئمة؟ هل سيعتذر للمسلمين إحتراما لمشاعرهم، هل ستتبخر “إيرا” وخطابها المتطرف؟

لن يحدث شيء من ذلك على الإطلاق، بل سيمنح النظام منبرا إعلاميا وطنيا، ودوليا للحركة وسيزداد بيرام إحتراما وقدسية بدليل أن أصل المشكلة قائم وكامن في وضعية الحراطين كشريحة بالغة الأهمية، طالها الظلم والتهميش تاريخيا وتجاهل الجميع نداءاتها المتكررة، عبر معتدليها ومتطرفيها.

لقد فشلت فرنسا في الثمانينيات لكنها لم تغادر ودخلت إسرائيل وأمريكا على الخط ولم يعد الذهب الأسود مصطلحا يعني، البترول وحده، بل أصبح بالنسبة لهؤلاء يعني الحراطين أيضا، لأنهم يدركون أن ورقة الزنوج حرقت وورقة البيظان مكلفة، وورقة الحراطين في ظل وضعية كهذه مربحة.

لا أحد إطلاقا من الفرقاء يريد لدولته ومجتمعه إلا الخير، لكن ينبغي وفورا أن نؤسس من جديد دولة العدالة والمساواة قبل فوات الأوان، وكبادرة حسن نية فقد صلى رئيسنا على أرواح شهداء إخوتنا الزنوج وصلى رئيس فرنسا على أجدادهم الأسبوع الماضي، فليصل رئيسنا أيضا على أرواح أجداد “العبيد” ونصلي نحن نيابة عن أسلافنا على أرواح شهدائنا السابقين، وشهدائنا في أحداث 89 وفي ذات السياق أطالب بـ:
-إطلاق سراح قيادات “إيرا” وترخيصها طبقا للقانون

-تحديد يوم الفاتح يناير 2015 يوما وطنيا للإعتذار للعبيد

-تنظيم أيام تفكيرية حول قضية “الحراطين” والأرقاء ومخلفات الرق، في إطار وحدة وطنية شاملة

-أدعو كافة المستعبدين في الجمهورية الإسلامية الموريتانية بالإعلان عن وضعيتهم الإسترقاقية أمام مراكز الشرطة وألوية الدرك الوطني والإتصال بأرقام الهواتف التالية: 46050326،22350326

-أناشد ميثاق الحراطين وكافة المنظمات النقابية والحقوقية والأحزاب السياسية والشخصيات المستقلة بتبني يوم 1-1-2015 كيوم فاصل يؤسس لدولة العدالة والمساواة.

-أطالب السلطات الإدارية والأمنية والقضائية بتطبيق القانون والتعاطف مع ضحايا الإسترقاق، إن أعلنوا عن وضعياتهم في مختلف أرجاء الوطن.
-أدعو ساكنة أوجفت بالإستعدادات اللازمة يوم 1-1-2015 ليبدأ التحرير والتغيير من عندهم

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button