
أنباء انفو- في رواية العيون الزرقاء للصحراء، الصادرة عن دار “إليزاد” والفائزة بجائزة “ناتور نوماد”، لا يقدَّم القارئ النقدي على طبق من ذهب حكايةً تخفّف قسوة الواقع، بل يُلقى مباشرة في قلب صحراء موريتانيا العارية من الوهم.
أبٌ مكلوم، سيدي محمود، يترك أبناءه الأربعة، جميعهم عميان، في فضاء مترامٍ بلا حدود.
يقول لهم وهو ينصرف: “امشوا، امشوا وسوف ترون” جملة متناقضة، حداثوية في قسوتها وسخريتها، تقلب العلاقة بين البصر والبصيرة، بين الرؤية المادية والرؤية الروحية.
التيه كرمز للحياة الموريتانية
الرحلة التي يخوضها الأطفال ليست مجرد مغامرة روائية، بل استعارة للوجود في بلد يعيش منذ عقود على حافة التناقضات.
موريتانيا، الغنية بالمعادن والحديد والذهب، هي ذاتها موريتانيا الفقيرة، حيث قطار ضخم، يوصف بأنه “الأطول في العالم”، ينقل ثرواتها عبر الصحراء، فيما سكان القرى على جانبيه يكافحون لتأمين أبسط ضروريات الحياة. الطفل بابا، وهو يمشي بمحاذاة القطار، يختزل هذه المفارقة: العمى لا يمنعه من البقاء على قيد الحياة، كما لا تمنع الثروات البلد من الغرق في الهشاشة.
البحر كخديعة
حين تصل مريم إلى الساحل، لا تكتشف زرقة البحر الشاسعة، بل غابة من النفايات: بلاستيك، معادن صدئة، بقايا حضارة تُلقي بأوساخها في أحضان الطبيعة. هنا، يتقاطع السرد مع مشهد واقعي يعيشه الموريتانيون يومياً: بيئة تُنهكها الفوضى وغياب الدولة، وشواطئ تختنق تحت ثقل التلوث. البحر، الذي في المخيال الشعبي رمز للخلاص، يغدو في النص مرآة للخيبة.
الذهب.. سراب يلتهم الأرواح
زينب، الطفلة ذات الأعوام الستة، تجد نفسها في “شامي”، حيث يطارد الناس حلم الذهب. غير أن الرواية ترسم مشهداً كاريكاتورياً قاتماً: رجال يحفرون بأيديهم، يغرقون في الرمل، يبحثون عن غرامات لا تساوي أرواحهم. هذه الصورة تقرأ بعمقٍ التحولات الاجتماعية الموريتانية: اقتصاد ريعي، أحلام قصيرة المدى، وواقع يُحوّل البحث عن الثروة إلى انتحار بطيء.
الموسيقى كملاذ
أما محمد الأمين، الأصغر، فيعثر في تمشكط على جده، في حضرة موسيقى «”الآردين” التي تعزفها النساء. وكأن النص يقول إن الخلاص لا يأتي من الخارج، بل من العودة إلى الجذور، إلى الموسيقى التي تشكّل ذاكرة جماعية تتجاوز الجفاف والفقر. المفارقة تبلغ ذروتها حين يُحلّق الطفل الأعمى فوق الصحراء في مروحية عسكرية: من لا يرى بعينيه، يرى بعين أخرى، أعمق وأصدق.
رواية كصرخة ضد النسيان
في نهاية المطاف، العيون الزرقاء للصحراء ليست مجرد رواية عن أطفال عميان، بل نص مفتوح يقرأ موريتانيا ذاتها: بلدٌ يتأرجح بين ثروات هائلة وفقر مدقع، بين قسوة الطبيعة وحنان الموسيقى، بين يأس يُشبه العمى وأمل يولد من عمق التيه.
من الأدب إلى الواقع
هذا النص، وإن بدا فانتازياً، يسلط الضوء على حقائق يومية يعرفها الموريتانيون جيداً: هشاشة البنى الاجتماعية، تلوث المدن والشواطئ، استنزاف الثروات من دون انعكاس مباشر على حياة السكان. من خلال مأساة أربعة أطفال، تكشف الرواية مأساة بلد بأكمله، بلد لا يزال يبحث عن بصره وسط العمى العام، وعن بصيرته وسط سراب التنمية.
* رواية كريستين برغونيو (Christine Bergougnous)، وهي إنسانية فرنسية مستقلة (humanitaire indépendante) عاشت في موريتانيا لأكثر من عشر سنوات.
عملت في مجالات طبية وإنسانية، وساهمت في تنظيم عمليات جراحية كزراعة الكلى، جراحة القلب، وعلاجات لضحايا الحروق، قبل أن توثق تجربتها ورؤيتها لموريتانيا في رواية “Les yeux bleus du désert – العيون الزرقاء للصحراء”، الصادرة عن دار إليزاد (Éditions Elyzad).
قراء – إعداد -متابعة : الشيخ أحمد أمين


