أزمة البنوك وسوء تسييرها هو أحد أكبر مسببات الفقر في موريتانيا / للشيخ سيدي محمد
عرفت بلادنا تطورا هاما في مجال البنوك منذ إنشاء العملة الوطنية (الأوقية) سنة 1973م، حيث تمرتنت البنوك الموجودة آنذاك، وأنشئت بنوك جديدة أخرى، إلا أن سياسة الاقتصاد هذه والعمل على جعلها أداة فعالة لتطور النمو الاقتصادي في البلد لم تؤت أكلها بسببين اثنين هما:
أولا: أزمات الإفلاس المتتالية التي عرفتها البنوك.
ثانيا: عدم جدوائية سياسة القروض البنكية التي تنبني عليها هذه المؤسسات.
أولا: أزمات الإفلاس المتتالية التي عرفتها البنوك.
لم تلبث البنوك التي أنشئت والتي أخذت صبغة موريتانية أن انهارت، وشكلت أزمات اقتصادية متتالية في مجال تسيير الاقتصاد الوطني. وكان أغلب ما في الأمر أنه وقع تلاعب واسع النطاق في هذه المؤسسات المهيمنة على الاقتصاد. فالبنك الليبي الموريتاني –مثلا- (بنك شنقيط حاليا) الذي مولته الجماهيرية الليبية في السبعينيات تم إفلاسه ثلاث مرات متتالية، وإعادة تمويله من جديد من نفس الممول. ويحكى -فيما يحكى- من أمور تتداول في هذا المجال أن القروض التي أعطيت آنذاك كانت في أغلبها بدون سندات حقيقية، حتى أن أصحابها تحايلوا في مواجهتهم للقضاء بأن يبنوا قبورا منقوشا عليها أسماء زبائن البنك. وأوقف القضاء على هذه القبور الزائفة. والحديث في هذا المجال كثير، فهناك من هرب بالمال، وهناك من أخذ القروض على وثائق مدنية مزورة، والحديث في هذا المجال يطول.
أما البنك الدولي لغرب إفريقيا (B.I.A.O) والبنك العربي الإفريقي للتنمية (B.A.A.D) واتحاد البنوك التنموية (U.B.D) ، فقد أغرقت بالقروض الزائفة موجهة إلى تمويلات لا أساس لها من الصحة في خدمة مشاريع ومؤسسات
زائفة وجلب بواخر في إطار سياسات الاقتصاد البحري المتعاقبة منذ انقلاب 1978م.
وتدخلت الدولة مرات عديدة بشأن تصحيح هذه الأزمات المتتالية. التي آخرها النصوص القانونية الجديدة المنظمة للبنوك في التسعينيات من القرن الماضي، وكان يراد لهذا التنظيم القانوني الجديد أن يجعل من البنوك أدوات تنهض بالاقتصاد الوطني إلا أن سوء تسيير القروض الذي لا يزال مستمرا إلى اليوم أدى إلى فشل هذه السياسات.
ثانيا: عدم جدوائية سياسة القروض البنكية التي تنبني عليها هذه المؤسسات.
إن القروض البنكية مبنية في أغلب أحوالها على الائتمان العقاري، الذي يتم فيه رهن الملكية العقارية لدى المؤسسة البنكية (Hypothèque du T.F). وهذه العملية تؤول في أغلب أحوالها إلى انتشار الرشوة من أجل تسريع عملية الرهن هذه.
كذلك فإن جعل القرض البنكي مرتبطا ارتباطا قويا بالائتمان العقاري هو أحد أكبر مسببات الفقر في موريتانيا. فكيف ذلك إذن؟
سياسة القروض بهذا الشكل وجهت الاقتصاد نحو اتجاه تمييزي عن المجالات الاقتصادية الأخرى المؤلوفة، كالزراعة والتنمية الحيوانية والواحات والخدمات الأخرى المتعددة. وبالتالي أصبح الاقتصاد يدور في حلقة مفرغة بين البنك ومؤسسات البناء العقارية.
كان هذا سببا رئيسيا في تفقير الشعب الموريتاني منذ الاستقلال، وذلك للأسباب التالية:
1- جميع الأدوات المستخدمة في البناء هي مستوردة من الخارج وتستنزف قدرات الدولة في العملات الصعبة؛ كالإسمنت، والحديد، والخشب.
2- البناء العقاري يستخدم يدا عاملة أجنبية بنسبة 80% (سنغاليين، صينيين، ماليين، غينيين ..الخ) وتهمش اليد العاملة الوطنية بصفة نهائية.
إن تركيز النشاط الاقتصادي الوطني على مجال واحد من دون غيره من المجالات، ستؤول لا محالة إلى تتمدد العاصمة إلى ما لا نهاية، حتى تعانق يوما ما مدينة الشامي الجديدة (على بعد أكثر من 200 كيلومتر شمال العاصمة).
ولهذه السياسة أيضا انعكاسات أخرى مضرة بالاقتصاد الوطني كالمضاربات في المجال العقاري والمالي، بحيث تساهم في نمو السوق السوداء في العملات، وانهيار العملة الوطنية الذي يؤدي لا محالة إلى صعود الأسعار وانخفاض القوة الشرائية باستمرار لدى شرائح الشعب الواسعة.
إن موريتانيا بلد غني بثرواته الطبيعية وبمعادنه النفيسة وبأراضيه السياحية وشواطئه الغنية بالأسماك، كل هذه الثروات الثمينة ذهبت أدراج الرياح بسبب أزمات البنوك وعدم فعالية سياسة القروض المتبعة. وعليه، فقد حان لنا جميعا (الدولة-والفاعلين والأفراد) أن نعالج هذه الوضعية ونعمل على استراتيجية تغير مضامين البنوك، وسياسة القرض بها.
والمسؤولية –بطبيعة الحال- على البنك المركزي بالدرجة الأولى الذي يجب عليه أن يتدخل بسرعة في هذا المجال بحيث يحدث خطوات جديدة ومتعددة تتمثل في القرض السليم والإسلامي قبل كل شيء. لأن البلاد لن تتجاوب بصدق وأمانة إلا مع سياسات اقتصادية سليمة من الربا والغش والتزوير. وعلى الدولة والممولين أن يسهموا بدورهم في هذا النطاق بحيث توجه التمويلات إلى المناحي الاقتصادية المجدية في الجمهورية الإسلامية الموريتانية.