هل لثنائية الغرب والإسلام أي وجاهة جدّية؟/بدي ولد أبنو
” إذا كان الشرق هو مكان الأصل، فإنه موْقعٌ خارج الجغرافيا” جورج فافيي (تعليقا على الديوان الغربي الشرقي للشاعر جوتيه).
ـ1ـ
تنبني، كما هو معروف، الأطروحة المركزية لساميل هانتغتون في كتابه صراع الحضارت، كما نقلَها بشيء من التعديل عن أستاذه برنرد لويس، على أن التاريخ لم ينته لا مع هيغل ولا مع الكساندر كوجيف ولا مع تلميذهما عن بعد (وتلميذ هانتغتون عن قرب) فرانسيس فوكوياما : فنهاية الحرب الباردة بالنسبة له لم تُغير شيئا كثيرا في المواجهة الأبدية بين الهويات كـ”جواهر” فوق التاريخ. “صراع الحضارات لم يزدد إلا حدّة” في رأيه لاسيما بين الغرب والاسلام.
هل يعني ذلك أن مفهوم “الغرب” مازال يحتفظ ولو عرضاً بدلالة دينية؟ أي هل يعني ذلك ما يلحّ عليه برنرد لويس ـ ضمنيا أو صراحة ـ من أن ا”لغرب” و”المسيحية” هما مفهومان متطابقان؟ وهو ما “يخوّله” على سبيل المثال أن يعتبر أنّما يسميه “الحنق الاسلامي” على الغرب يجد جذوره فيما يفترض أنه “مواجهة دينية قرسطوية” تلتْ ظهور الاسلام وماتزال مستمرّة (مثلا مقالته: “جذور الحنق الاسلامي” The Roots of Muslim Rage). وهو التفسير المتكلَّف الذي يحاول لويس باستمرار أن يسقطه على عبارة النقاش الكبير (the great debate) التي استعملها المؤرخ أدورد غيبون في سياق الحديث عن ظهور الاسلام في كتابه الشهير “تاريخ تقهقر وسقوط الامبراطورية الرومانية” ( The History of the Decline and Fall of the Roman Empire).
ـ2ـ
إذا اعتبرنا مع كثير من المؤرخين أن مفهوم الغرب وُلد مع كارل الكبير (شارلمانيْ) فإن ولادته كانت تعني مستوى ما من تجاوز ـ أو تأجيل ـ صراع الفضائين اللاتيني والجرماني. وذلك قبل أن يأخذ هذا الصراع بمعنى ما، سبعة قرون بعد كارل الكبير، شكْـلَ الحروب الدينية (البروتستانتية /الكاثوليكية) ثمّ شكْـلَ صراع السكلارية و”العلْمنة” الذي مازال بشكل ما مستمرا. صحيح أن مملكة شارلماني كانت في مواجهة عرضية مع أمويي الأندلس. ولكنها كانت تعتبر نفسها حليفة للعباسيين في بغداد (رسائل شارلماني إلى هارون الرشيد) ولممثليهم في اسبانيا (إمارات برشلونة وسرقسطة ووشقة). أكثر من ذلك ظلّ شارلماني، بحماسه الديني الكاثوليكي المعروف، يَعتبر تحالفَه مع العباسيين موجها ضد الأرثودكسية البيزنطية (يتعلّق التحالف مثلا بحماية الحجاج الكاثوليك إلى القدس من اليزنطيين إلخ). وهو ما يعطي مفهوم الغرب الكارولونجي معنى أكثر ثخونة حين نعيد إلى الأذهان إصرار شارلماني على أن لا يكون فقط وريث الجرمنة ولكن أيضا وريث ضحيتها الأمبراطورية الرومانية الغربية. تماما كما أن الأرثوكسية البيزنطية تُمثلُ استمرارا وقطيعة معا للامبارطورية الرومانية الشرقية. بعبارة ثانية فإن ميلاد مفهوم الغرب كان في هذا الأفق، سلبا وإيجابا، نتاج صراعات مسيحية داخلية على امتلاك “المعنى” أكثر مما كان تعبيرا عن صراع مسيحي إسلامي.
ـ3ـ
لنتذكر هنا دلالة إحدى المبادرات التي اتخذتْها الكنيسة الكاثوليكية سنة 2007 في أوج الجدل الذي احتدم غداة خطاب البابا بندكت السادس عشر في راتسبون أواخر 2006 (والذي أثار نقاشات مركّبة حول ثلاثية الاسلام والمسيحية والعقل من جهة وحول ثلاثية الكاثوليكية والأرثودوكسية والاسلام من جهة ثانية). فقد أعلن حينها الكليروس الكاثوليكي نزْعَ صفة الكنيسة الغربية عن الكنيسة الكاثوليكية كما أعلن حذف تسمية “بطريرك الغرب” كأحد ألقاب البابا التسعة. فقد اعتبر الفاتيكان حينها أن الغرب قد “أضحى كلمة ميتة وبلا معنى”.
بقدر ما قد يُفهم من هذا القرار البابوي أنه محاولة للتقارب مع مسيحيي الشرق بقدر ما يمثل انفتاحاً على الشرق عموماً والشرق الإسلامي منه بشكل أخص. وذلك في ظلّ التزايد المذهل لاستعمال ثنائية “الغرب والإسلام” كبديل عن ثنائية “الغرب والشرق” وكمنافس جدي لثنائية “الشمال والجنوب”. فالسؤال ما زال مطروحا عن وجاهة ثنائية الغرب والإسلام مادام طرفاها لا يحيلان – في المستوى المباشر على الأقل – إلى أرضية دلالية تسمح بمقارنتهما تقارباً أو تعارضاً. إذ يبدو الأمر وكأنه معارضة دين بمنطقة جغرافية. خصوصاً أن المنطقة الجغرافية المعنية تضم أقليات إسلامية متزايدة تمثل مكوِّناً جديداً / قديما من مكونات الغرب. والقرار البابوي يأتي تحديداً كمحاولة لإلغاء الخلفية الدينية التي ظلتْ تغذي الغموض والتجاذب اللذين يعرفهما مفهوم الغرب. فالغرب يشير من وجهة نظر الفاتيكان وبحسب نص بيانه سنة 2007 إلى “سياق ثقافي لا يختصر مرجعيته على أوربا الغربية بل يضم الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلاندا.” الغرب الحالي إذن تجاوز بكثير الحيز الجغرافي المعني، راهنيا وتاريخيا، بالكنيسة الكاثوليكية.
ـ4ـ
خلْفَ تعقيد مفهوم الغرب تقف إشكاليات مركّبة مرتبطة أساسا بالتحولات الجيوستراتيجية الحالية. وهو ما يفسرّ بمستوى ما عودة الأدبيات التي تحاول صياغة سرديات جديدة (أو مستعادة بهدف استثمار جديد) تتجاوز مفهوم غرب امبراطورية شارلماني (الكارولينجية) دون أن تلغيه (لنتذكر مثلا كتاب الفرنسي فيليب نمو “ماهو الغرب Qu’est-ce que l’Occident ?” سنة 2004 والنقاشات التي دارت حوله خصوصا بعد ترجمته السريعة إلى الانجليزية وصدوره في الولايات المتّحدة سنة 2005). إنها تبحث عن رسم إيديولوجي لمفهوم “الغرب” ينسجم مع المتطلبات الدعائية للمرحلة الحالية. هذه المحاولات تجمعها غالبا الرغبة في دمج جنوب وشرق المتوسّط في سردية ميلاد الغرب ونفي هذا الجنوب وهذا الشرق في نفس الوقت. هذا الدمج الإلغائي يقف على مجموعة من الاختزالات المتضافرة التي أصبحتْ جزءا من لامفكرٍ فيه يُـبنْين جزءا من الصور النمطية التي تستنْـفرها الدعاية السائدة. لا يتعلّقُ الأمر فقط بالأطلسية التبريرية ولكن كذلك بالعديد من التيارات الانكماشية في العالم الاسلامي التي تتوهم أنها منتجة لخطاب هي فقط أحد مستهلكيه. لنعد إلى ذلك في حديث لاحق.
* مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل