حوض السنغال :الإرادة السياسية قهرت هواجس الخوف
آنباء انفو- تبرهن الإرادة السياسية جددا قدرتها على بناء تعاون إقليمي قابل للحياة في ظل الاضطرابات المتشعبة،لتتخذ من المياه ذراعا سياسيا واقتصاديا و اجتماعيا لاستقرار أي إقليم.
في التجربة الثالثة لمبادرة «السلام الأزرق» المائية ،التي يرأسها الأمير الحسن بن طلال ،وكانت أطلقتها مجموعة الاستبصار الاستراتيجي الهندية للأبحاث عام 2010، في سعي لتحويل المياه من أداة للحرب إلى أداة للسلام ،وبدعم من الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون، ووزارتي الخارجية السويسرية والسويدية،إطلع 20 خبيرا في السياسة والمياه والإعلام من الأردن و تركيا ولبنان و العراق،على تجربة للتعاون في حوض نهر السنغال (OMVS )،ضمن تجارب دولية في إدارة الأحواض المائية العابرة للحدود.
وبعد زيارتين سابقتين إلى نهري الراين في أوروبا و ميكونج في أسيا ،كانت الوجهة إلى غرب أفريقيا، لتكون برهانا أخر على قدرة السياسة في توطين الاستقرار،وعدم اتخاذ المصادر المائية وسيلة للحرب، على الرغم من مشاكل الفقر والصراع والعنف في المنطقة.
و شكل حوض نهر السنغال الطبيعي المشترك بين أربع دول- موريتانيا و مالي و غينيا و السنغال- نقطة التقاء على تبادل المصالح والمنافع في كثير من مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية،متجاوزا طيبوغرافيته الطبيعية أن يكون فاصلا بين الدول.
فالسكان القاطنون على ضفتي النهر في السنغال و موريتانيا على سبيل المثال ينتمون لأجناس عربية وافريقية تتلاقى بشكل كثيف, بل وأحيانا تشكل نفس العائلات التي انشطرت إلى نصفين أحدهما موريتاني والآخر سنغالي, هذا بالإضافة لتشابه أنماط وأساليب الإنتاج بين الجماعات القاطنة ضفاف النهر فنجدهم يزرعون نفس المحاصيل.
وعلى مدى خمسة أيام في السنغال شرع المشاركون من الشرق الأوسط في التعرف على ما تحقق من تعاون في إدارة المياه العابرة للحدود من قبل الدول المطلة على حوض نهر السنغال ،إضافة لإطلاق تقرير»محاصصة التعاون المائي» من قبل مجموعة الاستبصار الاستراتيجي.
في التجربة السنغالية ،وان كانت لا تصدر للشرق الأوسط، إنما يستفاد منها العبر،تأكد للزائرين،أن العالم يسير ولا يتوقف عند احد،ففي الوقت الذي غرقت وما تزال،منطقة الشرق الأوسط ، في صراعات سياسية متجددة،كانت هذه الدول الأفريقية ،تنبهت إلى أهمية تعزيز العلاقات بين الدول المتشاطئة لنهر السنغال واستخدام المياه كأداة لبناء التنمية في مجالات اقتصادية واسعة مثل التجارة والنقل والزراعة والملاحة.
وكان من اللافت للنظر الملكية المشتركة للبنية التحتية للمياه في الحوض والشمولية والانتظام في جمع البيانات، وصيغ تقاسم التكاليف لتبادل المنفعة من خلال الهيئة.
وضمن الهيكل التنظيمي للهيئة تُتخذ القرارات على مستوى رؤساء الدول والحكومات ومجلس الوزراء في كل دولة والمفوضية السامية، وهناك ثلاث شركات تتولّى إدارة حوض النهر وهي وشركة الملاحة النهريةSOGENAV،وشركة سد دياما SOGED وشركة سد ماننتالي SOGEM.
وتبرز أهمية تجربة «السنغال»في أهمية تحويل عقلية هاجس الخوف من الخسائر المحتملة والالتفات للمنافع ،مع عدم الإفراط بالمصلحة الوطنية والأمن القومي.
وفي غرب أفريقيا، هناك قلق مماثل حول الأمن القومي والمصلحة الوطنية،ومع ذلك، فإن صناع القرار في غرب أفريقيا في بلدان (OMVS ) استطاعت من خلال الحوار و المفاوضات في المياه العابرة للحدود الاتفاق على كيفية إيجاد المنافع للجميع ،وليس تجنب الخسائر لكل طرف.
كما من المهم الالتفات إلى أن بلدان OMVS،تنظر للبيانات والمواد العلمية نظرة تشاركية بعكس منطقة الشرق الأوسط،حيث تعتبر البيانات رصيدا استراتيجيا لا يفضل تشاركها.
وفي أهمية الالتفات إلى المنافع بدلا من الخسائر،فقد أمنت هيئة حوض السنغال القروض الميسرة وليس المنح لتلبية 80-85 في المائة من تكلفة المشاريع،إضافة للمساهمات من الدول ذاتها.
وتجسد تجربة حوض السنغال أهمية قضايا المياه لدى المسؤول السياسي الأول في تلك الدول،إذ أن هيئة حوض السنغال كانت بمبادرة من قبل رؤساء الدول ورؤساء الحكومات.
وعلى العكس تماما في الشرق الأوسط،إذ تترك العلاقات المائية العابرة للحدود إلى حد كبير للوزراء والمسؤولين في وزارة المياه،ولا انخراط نشط وشخصي لرؤساء الدول والحكومات،لتعزيز التعاون في مجال المياه،وبالمحصلة فان الافتقار لقوى الدفع السياسية لا يحدث تقدما في التعاون.
برنامج الجولة
في اليوم الأول من الزيارة الميدانية، زار المشاركون سد Diama ( دياما) والذي يبعد نحو 300 كيلومتر عن العاصمة دكار و يمتد على الحدود بين السنغال وموريتانيا.
و تم بناء السد عام 1986 لمنع تسرب المياه المالحة من المحيط الأطلسي إلى نهر السنغال، ولعب السد دورا حيويا في تطوير الزراعة المروية مثل الأرز وإنشاء ممر ملاحي بين مدينتي سانت لويس في السنغال و نواكشط في موريتانيا.
وقبل بناء السد،تعرضت دلتا نهر السنغال للتقلبات الموسمية،أعاقت الأنشطة الاقتصادية وتوفير مياه الشرب.وبفضل السد نمت الزراعة المروية، ويسمح للمزارعين في المنطقة بثلاث فترات للإنتاج مقابل واحده فقط قبل إنشاء السد.
وساعد بناء السد على تطوير الناتج الزراعي واستعادة البيئة الطبيعية في المنطقة و تعزيز مستويات معيشة السكان،كما ساعد بنائه على توفير الإمدادات المائية للشرب للمدن الكبيرة مثل سانت لويس، وريتشارد تول، داجانا، روسو، بودور، وداكار ،
كما أنشأت اثنين من المتنزهات الوطنية الشهيرة: Djoudj بارك في السنغال (وعدته اليونسكو موقعا للتراث العالمي) وDiawling بارك في موريتانيا.
وفي اليوم الثاني جال المشاركون في محطة معالجة مياه( كورمومار سار) والتي تقع على بعد حوالي 230 كم من العاصمة داكار وعليها تعتمد نصف إمدادات مياه الشرب للعاصمة.
وحظي المشاركون بفرصة للتفاعل مع المزارعين في منظمتهم الخاصة،التي تأسست لمساعدة البرنامج الوطني على الاكتفاء الذاتي في إنتاج الأرز في السنغال بحلول عام 2017 مع أهمية الإشارة لوجود مثيل لها في باقي دول حوض النهر.
وأطلقت مجموعة الاستبصار الاستراتيجي (SFG) تقرير محاصصة التعاون المائي» في مقر OMVS في داكار واتخذ من تجربة حوض نهر السنغال آلية هامة للاسترشاد المستقبلي لدول الشرق الأوسط في التعاون المائي.
صيدم: تجربة ناجحة يحتذى بها
ويقول المدير التنفيذي للعلوم التطبيقية / الجمعية العلمية الملكية محمد صيدم»في حين أن الدول الأربع المتشاركة في إدارة حوض نهر السنغال ما زالت تعاني من وطأة الفقر إلا أن وجود هذه التشاركية في إدارة الحوض منذ عام 1972 حالت دون شك من تفاقم حدة الفقر».
ويضيف» علاوة على تلافي النزاعات التي كان من الممكن أن تبرز بين هذه الدول على غرار تلك الواقعة في أحواض مشتركة أخرى من العالم،لا بد من الإشارة إلى أنه ما كان لهذه الدول من الاتفاق والانسجام في إدارة الحوض لولا الإرادة السياسية العليا لهذه الدول».
ويزيد»يتجلى نجاح إدارة منظمة حوض نهر السنغال في حقيقة إنشاء شركات مملوكة لهذه الدول مجتمعة (السنغال وموريتانيا و مالي)، فهنالك شركة معنية بإدارة وصيانة و تحديث سد «دياما» وأخرى بتشغيل وصيانة وتحديث المنشئات المعنية بإنتاج ونقل الكهرباء المولدة من المحطات الكهرومائية، وثالثة معنية بإدارة الملاحة في النهر وما يتبعها من أنظمة نقل بري ذات علاقة بسد «ماننتالي» وسد «دياما» وسدود أخرى».
ويرى»أن الإدارة والُملكية المشتركة لحوض نهر السنغال تُعد مثالاً ناجحا يمكن أن يكون ملهماً يحتذى به في أحواض أنهر أخرى من العالم، إلا انه من غير المؤمل استنساخه لاعتبارات متعددة، ربما أبرزها في حالات وجود نزاع بين الأطراف المتشاطئة ناتج عن مطالبة إحدى الأطراف باسترجاع ما تعتبره حقوق مغتصبة من الطرف الأخر».
وينهي حديثه» تعتبر الزيارة إلى حوض نهر السنغال الأفريقي فريدة من نوعها وغنية بخبرات متنوعة من دول عدة من ثلاث قارات، فإضافة للبعد الإفريقي جاءت المبادرة من منظمة مدنية من آسيا مولتها منظمة سويدية في أوروبا لتقوم بها مجموعة مهنية من صحفيين وسياسيين وخبراء مياه من باحثين وأكاديميين من الأردن ولبنان وتركيا والعراق. «
الزعبي:الإرادة السياسية مجددا
وتقول عضو اللجنة العليا لمبادرة السلام الأزرق ميسون الزعبي»أن تجربة هيئة حوض نهر السنغال تؤكد أهمية وجود الإرادة السياسية الحقيقية لدى صناع القرار للتعاون الإقليمي والالتزام بمتطلبات هذا التعاون، باعتبارهما العنصر الأكثر أهمية في التعاون في مجال المياه العابرة للحدود.»
وتلفت» الرؤية المشتركة بين السياسيين من أجل التنمية على المدى الطويل للحوض واعتماد الناس على هذا الحوض ترجم إلى منفعة كبرى لجميع أصحاب المصلحة.»
وتشير إلى أهمية ما أثبتته التجربة السنغالية»من أن تبادل البيانات أمر ضروري لبناء الثقة والإدارة المستدامة للموارد المائية المشتركة».
ومما تعتبره عامل نجاح هام في حوض السنغال»نهج التنمية بين القطاعات الذي ساعد الهيئة إلى حد كبير في تحقيق أهدافها المتمثلة في الإدارة المستدامة لموارد المياه المشتركة لتحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة للحوض عوضا عن التآزر بين قطاعي المياه والطاقة الذي سمح لهذه الدول تطوير الطاقة المائية من أجل مصلحة جميع الأطراف المعنية.»
وتنبه»إلى أن تقاسم الأدوار بين القطاعين العام والخاص كل حسب اختصاصه،شكل دعامة هامة، فأعطيت الهيئة كونها تمثل الحكومات في الدول الاربعه دور حماية المصادر الطبيعية وضمان ديمومتها من خلال وضع استراتيجية الإدارة المتكاملة لحوض نهر السنغال مما يضمن العدالة في توزيع الحصص المائية،و الموافقة على المشاريع الكبرى المشتركة على أساس التشاركية في الكلف والمنافع مع الحفاظ على النظام البيئي، أما الخدمات فأعطيت لشركات خاصة تدار من قبل القطاع الخاص كونه الأكفأ مع وجود برامج مراقبة وتقييم وتغذية راجعه.»
وتلفت إلى وجه الشبه و التشاركية في الرؤية بين التجربة وما تطرحه مبادرة السلام الأزرق من حيث اعتمادها مبدأ الدوائر التشاركية.
وتقول» بدأت التجربة السنغالية بالدول المستعدة للتشارك- السنغال و موريتانيا ومالي- ولم تصر على اشتراك بقية الدول المتشاطئة وراهنت على نجاحها كمحفز للدول الأخرى بالانضمام «.
وتزيد»هذا ما حصل فعلا مما جعل دولة غينيا تنضم للهيئة حديثا، ونحن في مبادرة السلام الأزرق بدأنا بالدول التي ممكن جلوسها على طاولة واحدة ونهدف إلى تحقيق النجاح بإذن الله وعندها ستطلب بقية الدول الانضمام لنا. «
حوض نهر السنغال
نهر السنغال يجري في أقصى غرب قارة أفريقيا وهو يحتل مرتبة مميزة في قائمة أطول الأنهار الأفريقية وأشهرها وكان يعرف قديما عند المؤرخين العرب والمسلمين بنهر صنهاجة.
يمتد حوض النهر الذي ينبع من هضبة فوته جالو في غينيا عبر 4 دول أفريقية, غينيا, مالي, السنغال, وموريتانيا, ثم يصب في نهاية رحلته بالقرب من مدينة سانت لويس في المحيط الأطلسي،وتبلغ مساحة حوضه حوالي 340 ألف كيلومتر مربع، قاطعا مسافة 1790 كيلومترا.
وتعد موريتانيا والسنغال الدولتين الأكثر اعتمادا على مياه النهر،الذي يتغذى من رافدين أساسيين هما نهر بافينج ونهر باخوي ،وتم تشييد سدّ اخر لاستغلال مياه النهر بالإضافة إلى دياما هو سد ماننتالي.
– صحف