حول المحاظر والمعاهد .. بعيدا عن السياسة/ عثمان جدو
يمكن القول أن *المحظرة* على طبيعتها مؤسسة أهلية تعليمية تقليدية تدرس علوم الدين خدمة للدين لا غير وتبتعد مطلقا عن الشبهات المالية ،أما *المعهد* فهو مؤسسة تعليمية عصرية لها طبيعتها التي يحددها القيمون عليها تبعا لمشاربهم الفكرية أو السياسية أو الدينية ، وتختلف طبيعة الاعتمادات المالية
لهذه المؤسسة باختلاف الطبيعة والأهداف والغايات ،لكن هذه الاعتمادات عادة ماتكون هي الموجه الأساسي لها فكريا وتنظيميا وتعليميا ؛خاصة إذا كانت مقدمة من جهات خارجية لها أغراض إيديولوجية .
ومما لاشك فيه أن *المحظرة* منشأة مقدسة يحترمها الموريتانيون سادة ومسودين رؤساء ومرؤوسين ،ولقد دأبت الدولة على رعايتها ورعاية القيمين عليها ،وجسدت ذلك في اعتماد مخصصات مالية سنوية لهذه المحاظر الأهلية الأصلية وسنت رواتب لأغلب مدرسيها إضافة إلى استحداث رواتب لأئمة المساجد في سابقة معروفة ومشهودة ، وتوجت هذا الاهتمام الرسمي ب*المحظرة* بتجسيد وجود هذه *المحظرة*عالميا من خلال فناة “المحظرة” التي تتزين شاشتها بمشايخ تلك *المحاظر* المعروفة والمألوفة ، ولا يمكن للدولة أن تغلق منها واحدة أو تضايق وجودها أو تمنع مرتاديها من ارتيادها ؛ مع أن هناك من يصرون دائما على خلط الأمور وقلب الحقائق لأغراض سياسية ؛دفعت بهم إلى إلباس *المعهد* ثوب *المحظرة* ، ومعروف أن هذه *المعاهد* أنشأها منشئوها بتمويل موجه وبأفكار موجه خدمة لأجندات خارجية لا تخفى على ذي بال ، مهما اتخذ القرآن ستارا لذلك وعلومه قناعا ،فالارتهان الفكري للقيمين على هذه *المعاهد* بفعل تحكم التمويلات في الميول والنيات ..
إن هذه *المعاهد* لم تكن يوما تتمتع ببراءة *المحظرة* الشنقيطية ونزاهتها وربانيتها بعيدا عن التزلف السياسي والارتهان الفكري والتبعية المالية المتحكمة في البرمجة والتوجه والتسيير ، ومما يزيد التفريق بين الإثنين وضوحا ؛أن المحاظر تعطي الإجازة على طبيعتها التي توارثتها الأجيال الشنقيطية وهي تقدير علمي مهاب ومصان ،أما هذه *المعاهد* فهي تعطي شهادات بمنتهى السهولة يكتب عليها بوضوح أنها تعادل [شهادة البكالوريا] مثلا التي يصعب وأحيانا يستحيل على كثيرين الحصول عليها ، ويمكن تصور ما سيكون للأمر من إرضاء نفسي وانجذاب سياسي من وإلى ..!
لقد ثبت في الماضي القريب أن هذه العبارات التي تجعل إفادات وشهادات هذه *المعاهد* التي لم ترخص بعد تعادل [شهادة البكالوريا] هو الذي استفسرت عنه بعض الدول المجاورة التي طرقت أبواب “جامعاتها” من طرف حاملين لهذه الإفادات والشهادات ؛فكان رد “الحكومة” على ذلك بنفي التعادل مع [شهادةالبكالوريا] إذ لا تعادلها شهادة ولا إفادة ممنوحة على أرض الوطن من أي *معهد* كان ، مع أن هذه *المعاهد* محل النقاش فتحت أصلا دون الرجوع إلى الدولة وأخذ “تراخيص” من “الوزارة الوصية” رغم سهولة الأمر أصلا وأهمية ما يترتب عليه من تنظيم قانوني .. وبالرغم من انفراط عقد التواصل بين “الوزارة” وهذه “الهيئات” وعدم الرجوع إليها في هذه الأمور التي تخضع لوصايتها في الوقت الذي ترتبط فيه هذه *المعاهد* بجهات خارجيه تتحكم في قراراتها وتوجيهها ومصائرها..!
من هنا يتضح أن *المحظرة* بطبيعتها الأهلية التقليدية *مقدسة* ويتضح أيضا أن دورها منحصر في تدريس علوم الدين بدءا بالقرآن وعلومه والمتون الفقهية وتعطي الإجازة بطريقة معروفة ومألوفة وقديمة قدم “شنقيط” العلم “شنقيط” المنارة والرباط ولا تمولها جهات أجنبية ولا يغذيها فكر وافد على هذه البلاد ، إنما تستمد قدسيتها وتغذيتها الروحية وتبعيتها الفكرية من التربة الشنقيطية التي سقيت بغسيل ألواح علماء شنقيط اللذين عرفوا بخدمتهم للعلم وإيمانهم به بعيدا عن السياسة والتسيس والتسييس .. ويتضح كذلك أن *المعهد* مؤسسة عصرية طبيعتها إدارية وتوجه توجيها يتحكم فيه عاملي “التمويل” و “الإشراف” على الأقل،ومن الصعب بل من المستحيل أن تنفق أموال وافدة من خارج البلاد على *معاهد* دون أن ترسم لها خطوط فكرية وتوجهات إيديولوجية لا حيد عنها ولا اعتذار ، وسيظل القيم على تلك المعاهد مقيدا باتباعها ملزما بتقليد ما أريد له تقليده محاكيا موجهه إلزاما والتزاما .. وطبعا كما هو معروف أن التلميذ يقتفي أثر شيخه غالبا إن كان ذلك في ظروف طبيعية تحركها رياح العفوية فما بالك بها إن أريد لها إتقان الاقتفاء ووضع الخطا تماما فوق الخطا ..!
إن المتتبع لحال بلادنا اليوم لن يفوته أنها تعيش على صدى إذاعة القرآن الذي يصل كل مواطن في بيته سواء كان في المدينة أو الريف في المتجر أو المزرعة أو خلف قطعان الماشية في البراري ، كما لن تفوته نعمة قناة ^المحظرة^ التي يشع نورها في أصقاع العالم ،فلقد أضافت هذه القناة إلى العلوم والمعارف العالمية إضافة كبرى فصار طلابها عن قرب كثر وإن أبعدهم المكان عن مركز إطلاقها ومقراتها فسهل علي الصيني المسلم والفلبيني والأندنوسي وغيرهم قبل العربي والإفريقي تصحيح معتقدهم والنهل من علومها الغزيرة في بيوتهم وعلى أسرتهم بأسلوب شنقيط ومحظرة شنقيط وعلماء شنقيط .. ومما لا جدال فيه اليوم أن أكثر المعرفين ببلادنا تأثيرا وإصابة للهدف النبيل ؛هي قناة “المحظرة” التي اكتسب الوطن من خلالها شهرة عالمية تفوق جهد السفراء والتجار ورجال الأعمال القدامى والجدد ؛فجمعت ماحققه رجال العلم في سالف الزمن لهذا الوطن وزادت عليه بما طرأ بعده وأوصلته إلى حيث لم يتسن لهم الوصول إليه بفعل ذيعان صيتها وغزارة علومها وتوفرها وكثرة انتشارها وتزايد المحبين لها والمتابعين ، هذا بالإضافة إلى المصحف الشنقيطي الذي طبع لأول مرة بجهد وطني خالص وتعرفون كم للأمر من قيمة معنوية وتعبدية وكم ينال به من القرب إلى المولى عز وجل ، ومن الصعب أن يتم إقناع المواطن العادي -بعيدا عن السياسة- أن حكومة باشرت هذه الأعمال الإسلامية التي لم يسبق لها مثيل أنها حكومة تحارب القرآن أو تضيق علي الدين ، ومن الصعب أن نفهم أنها هي التي اقترن اسمها مع هذه المنشآت الدينية ثم يرتبط اسمها مع نقيض ذلك..!
إذا الرمز السري في القضية هو اختلاف طبيعة *المحاظر* الخالدة التي لم تستهدف و لايمكن لكائن من كان أن تسول له نفسه مضايقتها أحرى إغلاقها وبين *المعاهد* المسيسة والموجهة والخارقة للقانون والتي طلب منها فقط أن تسلك مسلك القانون والابتعاد عن تمييع الدولة وإذابة رمزيتها في عدم التبعية للوزارة الوصية ..!
إن المتتبع للأحداث العالمية اليوم يدرك مدى إلحاح استحداث نظم وترتيبات مع التحري والدقة في التفتيش والمتابعات .. لقد كسر الإرهاب كل الأسوار وتجاوز كل الحدود وفك كل القيود وخرق كل الستائر وأسقط كل الأبواب ؛فعمت البلوى بالفتن والاقتتال..وحال دول الجوار يجيب على كل استفهام وسؤال ويجعل الحزم و الحيطة أولى.
أخيرا علينا جميعا مهما كانت الدواعي والأسباب أن نتجاوز المرحلة ونفك لغز المشكلة ؛فكلام الله أسمى من توجهات الأحزاب وتوظيفاتهم،وعلى الحكومة أن ترعى ذلك بحل المشكل وفق السبل القانونية بدءا بترخيص *المعاهد* التي تتمتع بالأهلية القانونية لذلك وعليها بعد ذلك أن تراقبها وتفتش في تمويلاتها وطبيعة صلاتها بالخارج ؛ فكلام الله أرفع وأعز وأجل من الجميع .