مقالات

مجرد سؤال؟

يبدو أن الواقع الجديد في موريتانيا يزداد مع الأيام قتامة، وتنسد الآفاق أمام المخارج المنطقية من تبعاته، فالمشهد ملتبس وممتلئ بالمفارقات الغريبة التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ السياسي، حيث الجيش يهتف بالديمقراطية، ويبرر بها انقلابه على رئيس منتخب في انتخابات نزيهة ، وحكومة منبثقة من البرلمان، والمعارضون لتصرفات العسكر لا يخفون أن الدافع وراء جبهتهم هو صون الربيبة السليبة، ومن السوابق العجيبة أن يتآخى الجيش وشراذم النواب، ويتعانق العساكر وزعماء الأحزاب المعارضة لهم قبل6/8 في وقفة حميمية تمجد الانقلاب، ومن النوادر في تاريخ الإطاحة بالنظم كلها أن يُقلب أمرُ دولة رأسا على عقب، ويعطل دستورها، ويُشغل العالَمُ تأييدا وتنديدا بسبب إقالة شخص من منصبه!!!!!!!!!!

تلك المفارقات، وذلك الالتباس يحتمان على معتزل الكتابة، والعاكف على الدرس، ومن أنس بالخلوة مع الذات أن يسهم بحبره، ويقتطع من حصص محاضراته، ويخالط المجتمع، تنويرا لمن تشغلهم تفاصيل الحدث وحيثياته اليومية عن النظر إلى تداعياته ببال خال، وعقل متزن، وتفكير غير مشوش، إسهاما منه في تقدير الأمور واقتراح الحلول، ولْيغفر له القارئ نقص الحرفية، والصراحة في الطرح، ووضع النقاط على الحروف، فمن يعرفه يعلمه باحثا عن الحقيقة، ولوعا بالمراجعات الصائبة، أبعد ما يكون من ولاية سيدي، وسلطان الجيش، وفي هذا المقال سأثير جملة من القضايا، يتبع كل واحدة منها سؤال ملح، لعل الإجابة عليه توضح جزءا من الصورة الغامضة.

لم يكن سلوك الجنرال مفاجئا لذوي الدراية بطبيعة العسكريين الموريتانيين، إذ ما من جيل منهم إلا باشر انقلابا، أو دبره، أو كتم أمره، أو صفق له بعد نجاحه ارتماء في أحضان القائمين به، وليس بغريب أن ينصاع العساكرة لأوامر قادتهم – وإن لم يمثلوا لهم قدوة حسنة في رفضهم قرارَ الإقالة- مبدين انسجاما في السلك العسكري، انسجامٌ يُحيِّيه كل ذي حكمة، ويوصي بترسيخه وتعزيزه عقلاء المجتمع، وما سوى ذلك يعنى انفراط العقد والانزلاق إلى غير رجعة.

ولست أدري ما إذا كان العارفون بالمؤسسة العسكرية يشاطرونني الرأي في أنها لم تنطبع بطابع المرفق العمومي، فلم تُفْتح أبوابها أمام الجميع، ولم تقدم في المناهج التعليمية، ولا وسائل الإعلام بشكل يجعل الانتساب له واجبا وطنيا، ويعلى شأن الخدمة بها، فيصورها ضرورة يفرضها الدين، وتمليها المصلحة، وبرهان ذلك أنه لم تزل الرتب العليا بهذا القطاع حكرة على بعض القبائل، والنصيبُ الأوفر منها وقفٌ على جهات محددة، وفي المقابل توجد عدة ولايات من الوطن ليس بين أبنائها ضابط واحد في القوات المسلحة، وكم قبيلة لا تزال تعد العمل بالجيش خفة ونزقا، وترى في لبس ذويه تشبها بالنصارى والأعاجم إذ الغالب على منتسبيه أن يرطنوا في لسانهم، ويعجموا في خطابهم، ومن شرائح الزوايا من تتوارث معتقدا مفاده أن الجندي إما ظالم أو عون له، وعمله يغلب عليه تخويف الناس وترويعهم، ولعل ذلك ناتج من التصاق التجبر والاعتداء في أذهان العامة بأصحاب ” اتريات” فمتى يعقل المشرفون على تسيير هذه الهيئة حساسية تلك الثغرة، ومخاطر انحراف ذلك المسار؟؟ لِيعملوا على سدها، ولِيبذلوا جهدهم في تصحيحه.

ليس غريبا أن ينقلب عزيز على رئيسه فهو من أتى به بعد أن قدَّر صلاحيته لقيادة البلاد وفق عقد وصفقة؛ ما تضمنا من تفاصيل لا أعلمه أنا ومن على شاكلتي، ولعل معرفته به أملت عليه وضع حد لصلاحياته، وبطبيعة الحال هنالك جملة أسباب للإطاحة نحيل القارئ لبعض منها تم تناوله في مقال نشر بموقعي “أنباء انفو” ووكالة أنباء انواكشوط تحت عنوان: الخلفية الخفية لانقلاب 6\8 بتاريخ 10\8\2008

ولا عجب أن يجد المنقلب من يستجيب لنداءاته، ويحمل صوره متظاهرا في الشارع، ولا مفاجأة في حظوته بمن يستخدم بيانه وإمكاناته الإنشائية والخطابية فينتقي الجمل، ويسك مصطلحات الثناء عبر الأثير وفي الشاشات، مسيلا مداده بالصحف والمجلات، فالكثرة الكاثرة من سحرة البيان حِلْفٌ للفقر، وكأن قدرها ألا تعرف استقلالا ماليا عن الحاكم، وأن تظل دون أمان على عيشها، وفوق هذا وذاك فإن أهل البدو يقيمون للسلطان من الوزن ويحفظون له من الذمة والعهد ما ينسيهم تقصيره في حقهم، وهم على استعداد دائم لتقديم ” لغرامة” اتقاءً لشره، أما أن يحاسبوه على سلوكه، ويعدوا عليه صغائر الإخفاقات، ويهتفوا بسقوطه عند الكبائر منها فذلك شأن أبناء الدولة المدنية.

من المفهوم أن يهتف الأعوان، ويبتهج الأنصار، ويهرع الرعاع، وينساق ضعفاء الإدراك السياسي، وتنطلي الحقائق على أصحاب النفوس الضعيفة تحت وطأة الضغط من باعة المواقف وتجار الأزمات، وقد يستساغ مثل ذلك من أرباب المال، ووسطاء الاستثمار، والقائمين على تصريف الأحوال؛ خوفا من أولئك على ثرواتهم، وخشية من هؤلاء على جاههم ونفوذهم.
أما وأن يصدر التسبيح والتهليل بحمد العسكر وشكرهم على انقلابهم من زعيم المعارضة، أو أن يكون أولَ المسارعين إلى إضفاء الشرعية على “خطوتهم التصحيحية” و” ردة فعلهم على انقلاب سيدي على الديمقراطية” رئيسُ أقدم الأحزاب وأكبرها فذلك شجاً في حلق المنطق وطعنةٌ لأدبيات المجتمع المدني.
أن يتفهم أحمد ولد داداه الدوافع “العزيزية” وأن يجدها مناسبة بل ضرورة لإنقاذ البلد الذي تعطلت مؤسساته الدستورية في نظره، وشُل فيه الاقتصاد، وتوقفت عجلة الإعمار والتطوير، وتباطأت وتيرة البناء والتشييد، فذلك ما يحز في النفس ويستدعي خيبة الأمل فيمن ينظر إليه كرمز من رموز السياسة، ويعد داعية للثقافة الحزبية سبيلا وحيدا للوصول للسلطة.
ألم يكن حريا بمن منحه الشعب الموريتاني ما يزيد على خمسي أصواته ألا يعترف بالانتخابات أصلا، لأنه يعرف ما شابها، وما الشر الذي كان يخافه من الرفض؟ إن هو إلا حكم العسكر، وها هو يسبح بحمدهم في الداخل والخارج، ذلك من جهة، ومن جهة ثانية فإن المثقف الموريتاني ينزه زعيم المعارضة أن يفوت عليه من كان يدبر الأمور طيلة 16 شهرا الماضية، فمن الذي كان يمنح ويمنع، ويهب ويعتصر؟ ألم تكن ساحة القصر ذاته خارجة عن سلطة السيد الرئيس؟ وليس للزعيم أن ينكر أن ما كان بيد زميله “سِيدِ” من الصلاحيات كالاجتماع بقادة الأحزاب، والاستماع لهم، والبشاشة في وجوههم، وحسن توديعهم قد خصه بنصيب وافر منه، ومن الإنصاف القول: إن سيد تحرك إيجابيا فيما أتيح له، فأعاد المبعدين، وأصدر قانون مكافحة الرق، ومن أجل الهوية الإسلامية أعاد عطلة للجمعة بدل السبت، وواظب على صلاة الجمعة كبادرة للتقرب من العامة، وافتتح جامعا بالقصر، ولم يقف مانعا دون محاربة أوكار الزنا وشرب الخمور التي كانت ومازالت منتشرة في البلاد، ولم يكن يجرؤ أحد على المساس بها، ومما يحسب له على الصعيد السياسي أنه رخص الأحزاب التي لم تكن يتوقع ذووها أن تر النور، كما فتح باب الحريات العامة على مصارعه، فأصبح محبو النقد في حِلٍّ منه تجاه الرئيس ودأبوا على التهكم به وبمن حواليه.
أما وقد مثلت تلك التصريحات حصائد لسانه، فإني سائل عن الذي ينتظره راعي التكتل من الجنرال تفصيلا؟؟
على المستوى الشخصي لا أجد عسرا في تفهم الموقف المفاجئ لمن يصنف الحارسَ الأكبر للمشروع الديمقراطي – ولست ممن يرى الديمقراطية الأسلوب الأمثل في الحكم، بل أعدها أوفق ما هو قائم- فولعُه باسترداد ما يعتقده إرثا، واختطافُ ” أهل الساحل” للمعاني التي يعز على الشيخ السبعيني إلا أن تظل في وهاد ” بتلميت” وبين رمال “إكيدي”، والإنهاكُ المادي والنفسي، والخوفُ من انطفاء الشمعة قبل التسجيل في نادي الرؤساء، كل ذلك سهل علي استساغة موقفه، فأصبح الإنصاف يدفعني لافتراض مفاده أن “الشيخ أحمد” أعيته الحيلة، واستنفد طاقاتِه، فلم تبق لديه وسيلة لدخول القصر الرمادي إلا أن يسلم مقاليد الأمور للمنقذين، لعلهم يجدون له مخرجا من هواجسه، ومدخلا إلى قلوبهم، غيرَ ناسٍ أن يرطب لسانه بقوله تعالى: رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق”

أما الذي يعجز الذهن عن استيعابه؛ وفقا لأدبيات الشباب من الجيل المعاصر، وأرباب الثقافة، وحملة الشهادات، فهو موقف المحيطين بزعيم المعارضة من مراهقي الساسة، و براعم النواب، فالذي يتبادر للذهن أنهم مدينون للديمقراطية التي جعلت منهم أعيانا ورموزا، وأجلستهم على قدم واحد مع من هم في أعمار أجدادهم، وقد شغلوا الرأي العام – طيلة الفترة التي تعطلت فيها الحياة الدستورية في نظر الزعيم- بما أبدوه من استماتة وصراحة في نقد الوزراء، وتظاهر بحمل المسئولية، وحرص كبير على أداء الأمانة، ولن ينس لهم المشاهد حلقات نقاش الميزانية، فما الذي دهاهم؟ أليس في هذا الحزب -الذي وُلِدَ مع دستور العشرين يوليو- رجل رشيد يتمتع بالجراءة ليعلن موقفا مخالفا لما باركه زملاءه في مكتب الحزب وفي الغرفتين؟ أليس داخل هذا الحزب يتعايش الرأي والرأي الآخر؟ أم أن الأمر أشبه بثكنة عسكرية تتلقى الأوامر، وربما كان ذلك السرَّ الدافع وراء تقبلهم، وسرعة استجابتهم لما قام به الجنرال؟ وليس من قبيل المبالغة القول: إن ترحيبهم سبق أصحاب البزات العسكرية.
كَمْ كان المتابع يتمنى أن يسمع أن الحزب عقد جلسة عامة للتشاور في تعيين بعض أعضائه داخل الحزب، أما إعطاءُ الرأي في القضايا المصيرية، وأخذُ موقف في الأحداث الكبرى مثل الذي حدث في موريتانيا، فلا يمكن لأي حزب نامٍ في ديمقراطية إفريقية أن يُقدم عليه إلا بعد ترو طويل وتشاور عميق، ومن نافلة القول التذكير بأن الديمقراطيات المتقدمة لا تعرف ما بُلينا به، ويكاد يكون غير وارد في قوامسيها، ولم تبوب له في المواد المنظمة للظروف الاستثنائية.

ولا يستبعد بعض المراقبين أن يكون تعامل الحزب مع الأزمة قد صيغ من طرف جهات ذات دهاء وتخطيط عميق، تريد أن تنهيه سياسيا، قطعا للطريق أمامه حتى لا تقوم له قائمة، فلينتبه لذلك بنوه الكرام، وأتباع زعيمه، وليربعوا على أنفسهم، أما السؤال الملح لهؤلاء النخبة؛ شيبا وكهولا، فعن مصدر ثقتهم في العسكر هل هو عرفانهم بشخص الجنرال؟ أم هي ثقة عامة في أفراد الجيش؟ أم مجموع ذلك؟ وما ذا لو انقلب ضباطٌ غدا أو بعد غد، وأودعوا الجنرال في “اجريدة” فهل ستكون خطوة مباركة من السهل علي المتكتلين هضمها وتفهمها، أم أن ذلك السلوك سيكون ناشزا وشاذا وخارجا على الأعراف، هدفه تعريض البلد للمجهول؟ مجرد سؤال.

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button