العرب بين ضعف ذاكرة.. ونوم
قوة الذاكرة مؤشر أساسي على الحضور والوعي وعلى الصحة العامة وبالمقابل فإن ضعفها يؤشر إلى بداية الضعف أو على الأقل اختلال التركيز وعدم الاهتمام وهذا يؤدي كنتيجة حتمية إلى أن يختلط على الإنسان ترتيب أولوياته واهتماماته.
ومن اختلت أولوياته مشى على غير هدي فأخر ما يجب تقديمه وقدم ما يمكن تأخيره..ولكن مصيبة العرب أنهم لم يقدموا, حتى ما يمكن تأخيره فضلا عن أن يقدموا ما يجب تقديمه, إذ أن ذاكرتهم ضعفت لدرجة أنها تآكلت أو تلاشت لأنهم أوقفوا قراءة التاريخ ,ربما لقناعتهم بأنهم لن يفهموا إذا قرؤوا, كما يقول عنهم موشي ديان ..
والشواهد كثيرة ….
أعطى بلفور وعده المشؤوم بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين ..ونام العرب وكأن الأمر لا يعنيهم.. وتسلل الغزاة من شذاذ الآفاق بمساعدة بريطانيا وقوى غربية ..وتمكنوا من ترسيخ وجودهم على أرض فلسطين وأصبح العدو ماثلا بيننا بعد أن كان تهديدا..وانهزمت الجيوش ورجعنا لننام قريري الأعين..ونسينا .. أن العدو جاء في رحلة بلا عودة أو هكذا تخطيطه.
وأرادت إسرائيل ومعها بريطانيا وفرنسا أن تختبر ذاكرتنا أو توقظنا من سباتنا عندما شنوا العدوان الثلاثي سنة 1956م..لكننا نسينا ونمنا بمجرد انتهاء العدوان .. ونسينا أن المعركة توقفت لكن العدو يخطط لأهداف بعيدة ونحن في كل مرة نخسر نتراجع ..
ونمنا ملئ جفوننا (نوم العافية)..ولم نستيقظ – إن كنا استيقظنا – إلا على الطائرات الإسرائيلية تستبيح الأجواء العربية في مصر وسوريا والأردن مع ما بقي من فلسطين ونحن نغط,طبعا في سبات عميق – حتى الحراسة الليلية نامت..
واحتلت سيناء والجولان وأجزاء من الأردن وما تبقى من فلسطين..وكانت أكبر هزيمة – أو نكسة كما “هذبها” الأستاذ هيكل- ..في تاريخنا المعاصر..
وبعد حرب رمضان / أكتوبر 1973م تذكرنا أن الذاكرة انتعشت قليلا فأردنا أن نعوض ونميت تلك الذاكرة من جديد لنستمتع بنومنا العميق وجندنا الوسائل لذلك من رقص وغناء ومسلسلات وكرة وفساد وتخلف في جميع المجالات..ورددنا شعارات قديمة .. ليس لها من السند إلا أننا ظاهرة صوتية وقلنا بصوت واحد نوموا يا عرب واستمتعوا بدنياكم فهذه شرذمة عصابات سنلقيها في البحر .. فواصلوا الرقص والنوم…ونمنا ..
ولم نستيقظ إلا على غزو إسرائيل للبنان سنة 1978م ولا أظن أن أحدا استيقظ أو تذكر ما قبل ذلك من أحداث .. وحققت إسرائيل ما أردت وطال النوم ولم نتذكر شيئا .
و نام العرب ونسوا كل هذه الأحداث,بل ونسوا وجود عدو متربص بهم يعمل ليله ونهاره لصناعة ما يبيدهم به وهم يحرصون في نفس تلك الليالي وتلك الأيام على حمايته بطرق متعددة .
ودقت صفارات الإنذار في بغداد سنة 1981 وأصبح المفاعل النووي أثرا بعد عين ..ولم يستيقظ أحد ونام الجميع , إن استثنيانا تجربة العراق التي اغتيلت بفعل عوامل خارجية وداخلية..
ولم تكد طائرات العدو ترجع إلى قواعدها في فلسطين حتى اكتسح الغزاة لبنان سنة 1982م وحصدوا آلاف الأرواح اللبنانية والفلسطينية واستيقظنا قليلا لا لنتذكر شريط الأحداث وتسلسلها وإنما لنتوسل العالم ليتركوا الختيار أبوعمار ورجاله يرحلون إلى مكان “آمن” لا يهددون منه أمن إسرائيل..
ونمنا ونسينا كل ما حدث..
وما كاد المجاهد صاحب الكوفية الرمزية ينشر رجاله في بعض الدول العربية حتى استهدفت الطائرات الحربية الإسرائيلية مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس سنة 1985م فمات من مات … ونام بعد ذلك من نام..
وحاولت إسرائيل إن تعلمنا من جديد فضربت مرة أخرى في تونس سنة 1988م واغتالت أبو جهاد .. وعاد الكوماندوز سالما كأنه كان في رحلة سياحية ..ولكن أحدا لم يفهم الدرس وكيف يفهم الدرس من ضعفت ذاكرته وغط في سبات عميق ..
وعاثت إسرائيل على مدى سنوات الانتفاضة وقبلها وبعدها فسادا وقتلا وتشريدا في فلسطين لكن أحدا لم يتذكر..
وبعد حرب الخليج الثانية سيق العرب إلى مدريد لحضور مؤتمر جامع (للسلام) ونسوا الدماء والأوطان التي نهبت فقبلوا السلام خيارا “استراتيجيا” .. واعترفوا بإسرائيل عضوا فاعلا في (الشرق الأوسط) ..وأصبح بعد ذلك أي كلام عن المقاومة وحق الشعوب في الدفاع عن نفسها يسمى إرهابا وفي أحسن الأحوال يسمى عنفا.. لأن العرب نسوا أن عدوهم لا يعرف إلا لغة القوة والسلاح ..
ونسينا لاءات الخرطوم واستيقظنا من نومنا لنبحث عن سلام وهمي قدمنا في سبيله الكرامة والاستسلام والاستجداء فما حصدنا إلا أن طائرات العدو تستبيح أجواءنا وتضرب حيث تشاء..تهتدي بضعف ذاكرتنا..ونومنا..!
واغتالت إسرائيل رمز المقاومة الشيخ المقعد أحمد ياسين ولا احد تذكر..!
واغتالت الختيار وقطعت المقاطعة قطعا قطعا ودمرتها حجرا حجرا.. ولم يفهم أحد الدرس ولم تنتعش الذاكرة..
وهكذا كان نهج إسرائيل مع كل قادة المقاومة قادة حماس في الداخل والخارج , وقادة فتح في بيروت وفي كل أنحاء العالم وقائد الجهاد فتحي الشقاقي في مالطا سنة 1995م..
ولعل الاستثناء الوحيد في هذا الباب كان وقفة الملك حسين رحمه الله في قضية محاولة اغتيال الأستاذ خالد مشعل والقصة معروفة..
واغتالت إسرائيل واختطفت بعض قادة حزب الله وهنا أيضا كان الأمر استثناء في طريقة تعامل حزب الله مع العدو.. والنتيجة معروفة..
ولما وصلت ذاكرة العرب إلى درجة لا تطاق من التبلد والضمور , كان لا بد من حدث جلل يساعد على تنشيطها فجاء العدوان الأمريكي على لعراق الذي فاق في نتائجه المروعة نكبة أو نكسة “الأستاذ”.. ولم يستيقظ العرب… إلا ما كان من مساهمة في تطبيق “الشرعية الدولية”..
وبعد أن سرق العراق في وضح النهار .. وبعد ضياعه بدأ العرب يتحسسون الخريطة إن كان ما زال فيها شيء اسمه العراق أم أنه ضاع مثل الذاكرة..
وجاء عدوان 2006م على لبنان ولم يتحرك العرب لأن الذاكرة على حالها…أو أضعف …وصمدت المقاومة ولم يستوعب أحد ذلك المعطى الجديد في طريقة التعامل مع العدو.. وخانت العرب ذاكرتهم مرة أخرى..
وضربت إسرائيل الأراضي السورية والذاكرة كما هي..
وأشفقت إسرائيل على العرب واختبرت إنسانيتهم فجاء “الرصاص المسكوب” في 27 ديسمبر2008م واستمر صب الرصاص بأشكاله 3 أسابيع على أهل غزة..
هذه المرة نجحت إسرائيل في إيقاظ العرب وتنشيط ذاكرتهم..
فتذكروا أن عليهم “التزامات دولية” تقضي بمحاصرة غزة واجتمعوا مع العجم ليس في حلف فضول بل في حلف فجار ليمنعوا الحليب والدقيق عن أطفال غزة .. لأن الحليب قد يشكل تهديدا لأمن إسرائيل ورجع العرب ليهنئوا بنومهم بعد أداء (الواجب.).
ألا لا نامت أعين الجبناء..
وجاءت مذكرة أوكومبو ضد الرئيس البشير فاستيقظ العرب ونسوا كل هذه الأحداث وتنادوا إلى الرئيس البشير …البدار البدار…. إلى التعاون والواقعية….
وما كاد العرب يعاودون نومهم بعد تشجيع الرئيس البشير على “التعاون” حتى جاء خبر ضرب الطائرات الإسرائيلية لسيارات محملة بأسلحة شرق السودان, زعم أنها مرسلة إلى غزة ..!
نسي العرب كلما فعلته إسرائيل منذ تأسيسها وقبل ذلك نسوا ملايين الفلسطينيين الذين توطنوا الشتات ..ونسوا أن إسرائيل سجنت منذ عام 1967م ما يقارب مليون فلسطيني ..ونسي العرب أن عدد الفلسطينيين في سجون الاحتلال يبلغ حاليا حوالي 12 ألف من شرفاء هذه الأمة بينهم الأطفال والنساء والعجزة وبينهم من أمضى أكثر من 30 سنة في السجن ..
ونسي العرب أن العالم بعربه وعجمه لا يعرف من أسماء السجناء سوى شاليط أما السجناء من أبناء فلسطين فلا بواكي لهم..
ونسوا أن الاحتلال الأمريكي البريطاني قد قتل من العراقيين ما يربو على مليون إنسان وخلف ملايين المعاقين والمشردين وأن العراق اليوم يأتي في مقدمة البلدان الأقل أمنا والأكثر فسادا..
ونسي العرب الصومال ونيرانه المشتعلة منذ حوالي 20 سنة..
هذا قرن من الأحداث لم يحسن العرب قراءتها أحرى الاستفادة منها.. شغلهم نومهم وأنستهم ذاكرتهم الضعيفة.
وناموا بل إنهم أصبحوا ظاهرة “نومية”- بعد أن كانوا ظاهرة صوتية- وطال ليلهم…
يا ليل الصب متى غده أقيام الساعة موعده؟