مقالات

هوامش على الأزمة الموريتانية / بونه ولد الحسن – محام bounaelhacen@yahoo.fr

ربما يكون تلاحق الأحداث أخذ كثيرا من الناس على غرة، و لم يترك لهم فسحة للتأمل و الأمل مما شل إرادة كثيرين من القادرين على التحليل واستخلاص الدرس ، وانطلقت أصوات وأقلام وحناجر منذرة بخطر داهم تتوقعه البلاد ، فمنهم من حذر من مخاطر حرب أهلية، ومنهم من نبه على تراجع الاستثمار وحذر من ضائقة اقتصادية، ولفت آخرون الانتباه على أن عهد الانقلابات قد ولى وموريتانيا في التاريخ المنظور صالحة لأن تكون حلقة من حلقات تجارب إفشال الانقلابات درأ لغيرها وتطويعا لها، كما كانت في الماضي القريب موضوعا لتجارب البنك و صندوق النقد الدوليين ، وعندئذ فإن المخرج الأمثل عند هذا الفريق هو إبعاد السلطة التي تدعي الشرعية بالانتخابات و السلطة التي تدعي المشروعية بالانجازات، ليكون المخرج هو القوة التي تعتبر نفسها الأكثر تأهيلا شعبيا.

لكل الآراء وجاهة، يضاف لها من تصور أن كل مكونات البلد آخذة في التدهور، وعليه فإن انتشاله يظل مطلبا ملحا وعلي القادرين من الأطراف الحامية للمسار تقع مسؤولية تقويم ما اعوج وتصحيح ما اختل ، و آثر فريق الصمت على أساس أن موقفه أسلم… ووسط زحام ما يصدر عن هذا الفريق أو ذاك تبين أن انتقاء الألفاظ بشكل يجعلها جارحة ومؤذية في بعض الأحيان كان سيد الموقف. و ربما تكون حملات التشكيك والإساءة والهجاء المنثور والمنظوم حجبت العقل ولم يعد من صوت يسمع غير تلك الأصوات المتأثرة بمواقعها ومواقفها أكثر من واقع وحالة البلد، وأخاف أن تتحول الجراح إلى جروح تتطلب علاجا غير متوفر في ما أتيح لنا من وسائل أنتجتها حدودنا المأمونة، وتصورت في نفس السياق أن جانبا آخر من الصورة يخفي فريقا آثر أن يشارك في المؤامرة عن طريق الصمت، وقد قرأت مرة عن مؤامرات الصمت بحجة أنها أسلم وأكثر أمنا للخائفين من الوقوع في مزالق الفعل أو اللسان غير أن ذلك الموقف ليس له دليل يستطيع الاتكاء عليه من واقع ما يجري عندنا الآن.

ومع تقديري لكل رأي، خطر لي أن أنبه على بعض الملاحظات محاولا في حدود ما هو إنساني أن ألتزم بما يمليه علي ما توفر من معلومات واضعا لنفسي حدا أخلاقيا أرجو أن لا أتجاوزه متمنيا أن لا أقع في موقع يغضب دون قصد أو يرضي بغير حق ، وفي كل الأحوال لست كثير الاهتمام بالمهاترات على الانترنت ولا على صفحات جرائدنا المباركة ، وحين تعلق الأمر بحملات مستني شخصيا وتناولتني بالاسم والصفة لم أكلف نفسي عناء الرد واقتصرت على التوضيح عبر قناة الجزيرة الفضائية ليس أكثر، رغم أن ما كتب عني كان لافتا للانتباه و على سبيل المثال أذكر أن أحد الكتاب المحترمين ذكر في جريدته الرصينة أن الأوروبيين أوشكوا على الانسحاب بعد مقتل الفرنسيين في ألاك لولا قدرة المحامي على إقناعهم بالبقاء ، وأضاف أن ذلك لن يكون بغير ثمن ، و لا يفوت على الملاحظ العادي أن يتساءل هل الأوروبيون أعطوني ثمنا لكي أقنعهم بأن البلاد آمنة ؟ أم أن الموريتانيين كافأوني على هذا الفعل المطلوب للصالح العام ، ولعل القارئ يتذكر هذه القضية الشهيرة في السنة الماضية التي ذهب ضحيتها مدير التشريع المسالم ومدير المصفاة الذي ظن أن بلاده حصلت على فرصة نادرة النظير.

وفي كل الأحوال ليس هذا محل تفصيل هذه القصة المثيرة التي هدت ساعتها كرسي وزير أمين مؤتمن ظن بدوره أنه حصل على فرصة طالما بحث عنها، وكان وجه استغرابي دواعي الضجة التي أثيرت محليا و دوليا و امتدت لتشمل تفتيش حساباتي الفارغة و التصنت على اتصالاتي الهاتفية، وربما بمحض المصادفات أن هذه خلال عقد من الزمن ثالث مرة ، دون لزوم ، يخضع فيها حسابي لمراقبة تطلبت مرة تنقل بعثة من البنك المركزي لمدة أسبوع و في كل الأحوال كنت ازداد تعجبا من الطريقة التي يتعامل بها المسؤولون مع مواطنيهم، وفي كل هذه المرات أطلت هذه التصرفات من مواقع أحسبها مأمونة على الأقل لغياب سوابق من أي نوع كانت تجعلني في مطال أي تصرف يمكن أن يكون له تأثير سلبيا من باب أحرى مضرا بالمصالح العليا للبلد و بمصالحي على وجه الخصوص، وليس ثمة تناقض بين المصلحة العامة و الخاصة، وربما أكون قد استطردت دون مبرر في ذكريات لا أريد إنكاء جراحها، و سأحاول جهد ما استطعت أن أكون متصالحا مع سابق مواقفي وقناعاتي وتصوراتي مستدلا بوقائع سابقة على هذه الأزمة راجيا أن تكون لي شفيعا عند ذوي النوايا الحسنة على اختلاف مواقعهم ومشاربهم ، علما أن بعض الظن جائز لمن أراد أن تستبد به تصورات ومواقف تحجب عنه القراءة المتأنية لما أرجو أن يكون وهما خشيته شرا مستطيرا يثير غبار هذه الرمال التي عرفت عددا غير قليل من العلماء والمجاهدين.

وذلك يدعو لاختصار هذه الملاحظات دون ترتيب للأولويات على غرار وضعنا الحالي ، ونظرا لكون القارئ اعتاد مقالات سريعة ومختصرة بحكم دواعي الانشغال والاهتمام ، فقد أشعر وأنا أكتب هذه الملاحظات بكثير من التقصير في توضيح نقاط تحتاج مقالات مستقلة، ومع ذلك سأعتمد طريقة الاستبعاد لكي لا يتيه القارئ وسط هوامش تستحق في الواقع مقالا أو مقالات منفصلة أو متصلة بالموضوع في إطار حلقات..

وبعد هذه المقدمة أو التوطئة سأدخل دون تعمق في ما أراه مستحقا للدراسة من طرف المتخصصين أومستحقا لانتباه علماء الاجتماع من جهة، ومفيدا لجلب اهتمام السياسيين الوطنيين القادرين على تجاوز كبريائهم والوقوف موقف شجاعة ، غير متأثر بأي شعور بالنقص ولا يراعي غير السبل الكفيلة بجعل البلاد في بر الأمان مؤسسا لها تأسيسا يصلح قاعدة لبناء شرعية لوطن أضناه البحث عنها، ولا أراها في الواقع إلا شرعية تراعي خصوصية وخصائص مجتمع أخذ طريقه متعجلا ليأخذ المكانة اللائقة به في عالم ليس فيه مكان ولا مكانة إلا للقادرين ، ومع ذلك فإن للقدرة مفاهيم وأسباب تستحق بدورها وقفة متأنية، وتفاديا للإطالة فسأبدأ بالتذكير بما كانت عليه هذه الرمال قبل أن تتزاحم وتتداخل فيها مختلف الأصوات غير تاركة المجال لتزاحم العقول ، مذكرا بواقعها غير البعيد راجيا أن تكون ذكرى مفيدة لكل قارئ مؤمن بالمصلحة الوطنية :

إن العلاقات الاجتماعية السائدة في موريتانيا تكافلية بالدرجة الأولى ، يسودها الوئام و تحكمها القيم المستمدة من الشريعة الغراء ، و إلى عهد غير بعيد كانت الاحوال المادية لكل ساكني هذه البقعة متقاربة لدرجة أن الفوارق المادية لا تتجاوز عددا من الماشية ، و حين دخلت الماكينات بقوانينها الآمرة بدأت العقلية تتغير، و أصبح هناك نوع من تراكم الثروة بصفة عامة، و إن ظلت في الواقع مركزة في جزء كبير منها في أيدى مجموعة لا ترقي عدديا لمستوى تصنيفها كطبقة ذات مصالح متميزة تحتاج حماية استثنائية. و عليه فقد ظل المجتمع لغاية هذا التاريخ يخضع لأفق منسجم.

ان الراغبين في خلق تمايز و إثنيات متعددة يحتاجون العودة لتاريخ هذا البلد و المشرب الذي يوحد الجميع وهو الدين الإسلامي ليعرفوا معنى العرق في الإسلام، ويكفي أن أذكر بقوله صلى الله عليه وسلم “سلمان منا آل البيت” ليتثبتوا كذلك من مدى الإجماع على مرجعية موحدة انصهر فيها الجميع منذ حين كاف من الزمن. و قد لا تكون الخلال التي خلق المستعمر سواء في الجدار الثقافي أو البنية البشرية متسعة ليتسرب منها غير صوت نشاز هنا أو هناك أو هنالك ، ومع ذلك فإن تلك القطرات التي تحاول جاهدة أن تصب سما ناقعا في هذا الموقع الذي ظل مشعلا حضاريا ثقافيا تحتاج إلى جهود واعية توقفها في حدود الفنجان الذي تثير فيه زوبعتها، غير أن الأيادي الممدودة خارج حدود المألوف والخارجة عن سيطرة العقل و الضمير قد لا تجد حرجا في التعاطي مع جهات عرفت بمكرها و خبرتها في بث الفر قاء و الحروب الأهلية، وحتى احتلال البلدان وتهجير سكانها، فثمة بلدان كانت أقوى عسكريا و أكثر عتادا تعرضت للاختطاف بالكامل .

ان عناصر القوة في بلاد شنقيط كامنة وظاهرة في عاصمها الأساسي وهو الدين الإسلامي كما تمت الإشارة، إضافة لانتمائها العربي و الافريقي، ومع ذلك فقد حاول المستعمر خلق ثقافة تهدف جعل عناصر القوة هذه مدخلا لشحناء لا تخدم الا استراتيجيات وأهداف مدانة في الغرب من طرف كثير من مفكريه وذوي النزعات الانسانية المستمدة من الجوانب الايجابية في حضارتهم التي يبدو أنها بلغت في مختلف المجالات شأوا غير مسبوق.

ان الموقع الجغرافي لموريتانيا هو الذي خولها لعب الدور الحضاري الذي امتد صداه عائدا إلى المشرق ليخلف هناك سمعة ويسهم في تراكمات لإثراء الفكر العربي الاسلامي لا يزال مذكورا ومشكورا عند العارفين المنصفين المقدرين للتراث الإنساني بصفة اشمل ، ان هذا الموقع هو الذي جعل عالمنا الأشهر محمد الأمين الشنقيطي الملقب آب بن اخطور القادم من بوادي موريتانيا يثير ضجة غيرت المناهج الدراسية و التفاسير المعتمدة في بلاد مهبط الوحي ، وذلك في مناظرته المشهورة، والتي قد لا يتسع الوقت لتفصيلها هنا والمتعلقة بصميم العقيدة ، وحين استدعي على أساس أن ما جاء به مخالف لتصورات و فتاوي ابن تيمية أجاب بجرأة الصحراء و بساطتها المعهودة إن رسولي هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وكتابي هو القرآن ، وتلك على العموم تفصيلات ذكرناها للاستدلال ليس أكثر. اما محققنا الأقدر وعالمنا الأشهر كذلك محمد محمود ولد اتلاميد فلا يستطيع باحث اليوم يريد التعمق في اللغة ، أو دراسة كتاب الأغاني المشهور ، أن يتجاهل تحقيقاته ، وذلك لدرجة أن النسخة الأصح من القاموس هي نسخة الشنقيطي هذا. وقد اعترف الباحثون أنه كان الأكفأ من بين علماء الأزهر و إن ظل الأحد طباعا على سجية الصحراء.

إن هذا الموقع الجغرافي أو الحضاري لعب دورا لا أحد يجادل في أهميته في نشر الاسلام في أصقاع المعمورة، ولم تكن وسائل حربه المفتوحة على الجهل و الظلام المنتشر أكثر من الجدال بالتي هي أحسن، وبقلم يعتمد البرهان، و الدعوة السليمة السلمية ، وتلك أسلحة ماضية إذا امتزجت بصفاء الذهن الصحراوي المعتمد على الإخلاص و الصدق و حسن النية ، غير منشغل و لا منبهر بالوسائل المادية الزاحفة على العقول و الأخلاق. .
إن هزائم الأمم عادة ما تكون هزائم عقول قبل أن تكون هزائم أجساد، وذلك يتطلب منا وقفة تأمل نحاسب فيها أنفسنا ونتأمل و نحن في مفترق طرق المسار الذي قادتنا إليه أقدارنا ، و ما صنعناه بأيدينا ، ونرى نوعا من ترتيب الأولويات بشكل أكثر دقة من مجرد موقف عابر يصرح به مسؤول معارض أو موافق لجريدة سيارة أو شاشة مزقتها بقع الدم ، وعلى ذكر هذه الاخيرة أريد أن أقول – وأخشى أن تطول هذه الملاحظات – أن متابعتي المتقطعة للتلفاز و الأحداث ، جعلتني قلقا على مصير أمتنا بشكل عام ، و بلاد شنقيط بشكل أخص . ففي سنة 1991 كان يصلني بعض مما ينشر مركز الدراسات الفلسطينية ، وأذكر أن مقابلة مع أحد الاخوة الفلسطينيين لا تخلو من تحليل مستمد من الواقع أثبتت أن قلق ” الصهاينة ” ساعتها كان من القوة المتنامية للعراق، وحين عدت في نفس المرجع للمقال الذي أشرت إليه وجدت سلسلة من المقابلات الاستفزازية في معظمها ، وتنذر كلها بالخطر القادم من العراق . ولم أفهم الطريقة التي تم بها استدراج الشهيد القائد المرحوم صدام حسين إلا بعد أن أصبحت الوثائق في متناول القارئ العادي ، غير أن ما استحضرته فور دخول القوات العراقية الكويت هي تلك الشكاوي ” الصهوينية ” من تنامي القوة العراقية . و تصورت بحس لا تؤيده كثير من المعلومات أن ذلك سيكون أقرب المداخل لتحجيم تلك القوة التي تعتبر ذخرا للأمتين العربية و الإسلامية ، بل و للإنسانية جمعاء ، وأقول للإنسانية جمعاء لأن التاريخ أثبت أن الحضارة العربية غير متسلطة و قيمها روحية أكثر منها مادية ، وعليه فإن العنف عندها، وفي أدبياتها، ليس غاية في حد ذاته ، وإنما وسيلة تستخدم عند اللزوم.

اعتذر عن هذه المقارنة وقد طالت بين تلك الأحداث التي لا تزال شلال دم نازف مسفوح و بين واقعنا من موقع بعيد و قد لا يبدو للبعض مهما.

إن الشكاوي المتنامية الآن داخل الكيان الصهيوني هي أن تجميد العلاقة أو قطعها أو مجرد التجرؤ على استدعاء سفير يعد تطاولا من دولة ليست لها المقومات التي تخول لها في عصر ” الزمن الصهيوني ” أن تتطاول ليذكر إسمها ويتم استرجاع تاريخها و دورها الحضاري في المحافل الدولية . إن فوارق القياس موجودة لا محالة و كذلك دواعي الانزعاج . كما أن من يقلل من شأن اهتمامات الغرب بصورة عامة و الصهاينة بصورة خاصة عليه أن يستذكر ما يلي :

الموقع الجغرافي لموريتانيا بين افريقيا السوداء و دول المغرب العربي ، إضافة إلى إطلالتها على الصحراء الكبرى و ما يدور فيها من اضطراب أمنى و تجارة للممنوعات بأنواعها ، كل ذلك يجعلها محط اهتمام دولي متزايد. ثم إن غياب حسن استغلال الموارد المتوفرة جعل البلد حقلا للتجارب لوقوع أهله في مطال الحاجة وضروريات الحياة، وبالتالي يكون عدم توظيف إمكانيات و مُكُنات البلد تركه الحلقة الأضعف في المحيطين العربي و الإفريقي ، وليس مستغربا ، حين لا يكون هناك تضامن عربي جاد و لا غطاء إفريقي كاف ، أن نكون عرضة لمختلف أنواع التجارب سواء منها ما تعلق بالجانب المادي أو الجانب المعنوي ، أو السياسي و الاقتصادي بمعني مجاور . إن ارتباط الجانب الاقتصادي بالجانب السياسي لا يحتاج إلى التدليل عليه. فالمراد هنا هو أن هذا الضعف قد تم توظيفه ليتمكن البنك الدولي من تجريب سياساته في الدول الموصوفة بالسائرة في طريق النمو. و هكذا خضعنا لسيطرة حقيقية في كل مناحي الحياة ، إذ تم تمزيق البنيات الاجتماعية السائرة وقتها في تلاحم اقتصادي بشكل لا يتيح اتساع الفوارق ، و حين تدخل البنك وصندوق النقد الدوليين انتشرت الأمراض الاجتماعية وبدأت القيم الوافدة تفرض ضوابطها واتسعت الهوة بين شرائح المجتمع ، وحسب العارفين بالمجال المشاركين في القرار، فقد كنا أكثر خدام تلك المؤسسة استعدادا و إصغاء للتعليمات التي لا تخدم في كل الاحوال تناغم النسيج الحضاري في هذا البلد.

قد اختار الصهاينة أن تكون موريتانيا ثالث دولة عربية ترتبط بعلاقة دون استحياء أو حياء مع هذا الكيان المعتدي ، ولم يكن الاختيار وليد احتكاك نتج عنه احتضان على طريقة صراع الثيران ، ولم يكن كذلك طمعا في موارد واصلة أصلا بطرق مختلفة، و إنما كان اختيارا ذا دلالة لمن أراد استقراء التاريخ . فهو انتقام من الدور الذي لعبته الدبلوماسية الموريتانية بعد حرب حزيران و غيرها ، والدور الذي لعبه علماء شنقيط من نشر للدين و إشعاع ثقافي معاد لاحتلال بلدان الغير ، فهو بفوارق القياس “ها نحن عدنا يا صلاح الدين ” . إضافة لكل ذلك و إدراكا من العدو لأهمية الشعوب و دورها ، واستفادة من القصة الذائعة الصيت بين – على ما أذكر – وزير خارجية أمريكا الاسبق و أحد رؤساء الاتحاد السوفيتي ، حين قال الأخير كم يملك البابا من الجيوش؟

قد اختاروا موريتانيا لكي تكون مثالا يضرب، عربيا أو افريقيا، لمن تعلل بموقف تمليه الأخلاق والعقل رافض لأية علاقة مع كيان غاصب معتد . ما أردت الإشارة إليه بشكل لا يحتمل التأويل هو الحذر من المخالب الصهيونية التي قد تظهر هنا أو هنالك بقفازات ناعمة تنقض عند الحاجة وتهادن عند العجز غير مستسلمة في كل الأحوال ، و لا مسلمة بأمر تراه تطاولا إن لم يفتح الباب قد يكون مبررا لتهيب دول أقوى و أكثر عدة من سكان هذه الصحراء، التي قد لا يرى فيها الناظر لخيامها المتبعثرة في بواديها وبناياتها البسيطة غير المتناسقة ، سوى مدينة أو دولة خرجت من صفحات القرون الوسطي لتعطي للعالم دروسا غير مؤهلة لإعطائها.

وقد قال لي احد وزراء العدل السابقين أنه عاني كثيرا من ضغوط غربية متعلقة بملفات ذات صلة بحقوق الإنسان و بعد العلاقة البغيضة أصبح يبحث عن من يتحدث معه في الموضوع.

ان هذا العصر الصهيوني تستخلص منه بعض المصطلحات ذات الدلالة التي لا تتسق مع جميل ظاهرها و انتقاء عباراتها : كعبارة المجتمع الدولي و القانون الدولي وحقوق الانسان والديمقراطية والارهاب ، ولعل الظروف تتيح لي أن أتفرغ ، ان شاء الله ، في وقت لاحق لتناول هذه المصطلحات الشائعة في شكلها المأثور و مضمونها المختلف في دلالاته و طريقة تطبيقها على الواقع و التعاطي معها .

إن عبارة المجتمع الدولي ، على سبيل المثال ، تعني بشكل لا يخطؤه التفكير ، في أحد مستويات معانيها ، الغربَ بالمعني الحضاري للمصطلح ، و في مستوى ثان من المعني تنصب دلالتها على الدول القادرة على منع أي قرار مهما كان عدد المصوتين عليه في الجمعية العامة للأمم المتحدة ، وفي مستوى ثالث من المعاني تعني الدول القادرة على فرض إرادتها مهما كان عدد الرافضين لهذا القرار ، وثمة فرق مفهوم بين القادرين على مجرد منع القرار حين لا يكون القادرين على فرضه مهتمين بشكل يتطلب فرض الإرادة بمختلف وسائل القوة المطلوبة لذلك .

و لا أريد أن أُضَيعَ سياق الحديث في تفصيلات و تحليلات و أدلة في قضية لا تحتاج كبير جهد ولا تتطلب تعمقا لاستنتاجها ، إن ذلك يعني فيما يعني أن التعاطي مع قوى موصوفة انها دولية جاءت لتحرير الكويت و انتهت باحتلال العراق يتطلب يقظةً غير منفعلة تستمد مصادرها من واقع معيش وتاريخ لا يزال حاضره شاهدا على تشكله ، و يري احد المفكرين أن التاريخ سياق متصل ليست فيه مفاجآت ولكن بعض محطاته قد تفوت دون انتباه ، و الأحداث التي تظهر فجأة لتملأ الدنيا لها مقدمات وخيط رابط، ولكن أدوات التحليل قد لا تساعد على استخلاص الدروس المطلوبة وعندئذ تحدث مفاجأة في أذهاننا ليس أكثر.

و يروى عن الملك الراحل الحسين بن طلال قوله لصدام حسين رحمهما الله إن ذلك ليس خوفا من الغرب ، و إنما نتيجة معرفة دقيقة به ، و كانت العبارة ردا على ملاحظة أبداها الشهيد .. و القارئ لتاريخ أمريكا و أوروبا لا بد أن تستوقفه الملاحظات التالية :

1- إن سنة سقوط غرناطة 1492 هي سنة اكتشاف أمريكا ، بزوغ فجر ومساء نهار مشع ، ولذلك أسباب عد المؤرخون كثيرا منها ، وربما يكون أطرف المحللين للموضوع هو الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل حين رد أفول نجم تلك الحضارة في جزء منه لتعدد الزوجات ؟؟

والمقصود بذلك بمعني خفي هو الصراع على السلطة الذي أفقد ساكنة تلك لبقاع المشعة أغلى ما أثمرته الحضارة وقتها ، لم تشفع لها مغانيها الجميلة ، ولا شعراؤها الملهمون، ولا فقهاؤها و لا مفكروها لتتفادى صراعا أفقد الجميع السلطة والوطن معا. ربما ظل الخيط موصولا، وإن لم يكن الاطمئنان مكفولا ليصبح التجمع ميسورا في بلاد شنقيط الممتدة من نهر صنهاجة الى مراكش عاصمة المرابطين لاستعادة بعض الاشعاع واستئناف الدور في زمن أصبحت الغلبة فيه والسيطرة لحضارة أخرى استطاعت امتياح عناصر القوة و توظيفها، و أضافت عليها لمسة عنف كنا ضحاياها. ان الصراع على السلطة لا بد أن تغذيه دول لها مصالح في ذلك و قادرة على جذب الاهتمام بمجرد تصريح أو إبداء رأي. كما أن الطبيعة الصحراوية التي هاجر بها علماؤنا، أو بالأحرى عادوا بها الى المشرق لا تخلو من حدة في بعض المرات تغطي الحقائق و تعطل المنطق ليصبح الهدف وحده البارز في الذهن ، وليس في الطريق أشواك و لا في الغابة وحوش …

ان الفرقاء المتناحرين في دارفور لا سيطرة لهم على مصائرهم و ليس لهم في اختيار إخماد الفتنة إلا ما أسعفهم به هذا الفريق أو ذاك من الاطراف الدولية القادرة المذكية للفتنة ، وذلك مشهد أدلته متسقة، فحتى الدول المجاورة الضعيفة تجرأت على التدخل وأصبحت عنصرا مؤثرا في استمرار هذه الحرب الأهلية. فموريتانيا لها موقع جغرافي، كما أسلفنا، يعتبر مثالا للتنمية و جذب الاستثمارات وبناء الانسان كأساس للنهضة الشاملة، وهذا الموقع وبنفس الدرجة صخرة حين تتدحرج ستكون شظاياها قاتلة، فالموقف التاريخي لـــ “مالي وكذلك السنغال و المغرب و الجزائر” ، لا يبدو مطمئنا على انصراف تلك الدول للاهتمام بالاستيراتيجات الكبرى والمصالح العليا للقارة الافريقية والأمة العربية ، فـ “مالي والسنغال” لهما مطالب ومطامع تقليدية في أجزاء من المستعمرة الفرنسية القديمة ، والمغرب لها ارتباطات تقليدية معروفة، غير أن الذي يهمها الآن بالدرجة الأولى هو موقف موريتانيا من الصحراء الغربية ، والجزائر همها الأول كذلك هو موقف السلطة الحاكمة من الصحراء، وفي كل هذه المواقف لا أرى نظرة استيراتيجية عميقة تأخذ في الحسبان المصالح المذكورة.

2
ثمة جدل استوقف المحللين، وهو السؤال عن من تسبب في الأزمة التي تعيشها هذه البلاد المسكينة ، و ربما يكون النقص في المعلومات، أو عدم توفر أدوات التحليل غيب عنا حلقة أو حلقات من المسلسل الذي قاد إلى الأوضاع التي نحن الآن بصدد الملاحظات عليها. و من المؤكد أن الحاضر ماهو الا ثمرة لحلقات الماضي ، والمستقبل بالضرورة هو نتيجة حتمية لصيرورة الحاضر، و ذلك يقتضي أن نتساءل عن الأسباب و المسببات، ولكن الواقعة أو الظاهرة يجب أن تأخذ جهدا و ينصرف لها الذهن و يهتم بها الدارسون لكي تكون لنا على المستقبل سيطرة دون إهمال لبقية العناصر، ويجب أن يكون التأسيس قويا قادرا على الصمود في وجه زوابع أتخيل نذرها وسط تفاؤل من طرف البعض ، واسمع صوتها و أحس أزيزها وسط حناجر لا تخلو من حشرجة من هذا الطرف او ذاك ، و أقول ” حشرجة ” و في ذهني الربط بين حدة الصحراء و ما ترضعه من عنف و عصبية ظاهرة ، و ان حاول العقلاء إخفاءها.

إن الظاهرة في حد ذاتها تستحق التوقف و التحليل ، وربما أعود الى ذلك بمشيئة الله حين تتاح الفرصة في وقت لاحق ، ولكن ما أريد إبداءه على عجل ، هو أننا أمام واقعة غير موصوفة من طرفي ، لا بد لها من حل ، و ذلك يتطلب تضافر جهود العقلاء والحكماء ، و الابتعاد عن الخطابات الحماسية ، و الغوص دون أن نغرق في تحليلات تخفي عنا ظواهر ما يجب أن نتعاطى معه ، وعندئذ سنرى باختصار أن الأزمة الموريتانية يجب إبعادها عن القوى العالمية المهيمنة، و لا أظن أحدا يأخذ علي عدم ثقتي في القادرين من الدول السابقة للتسلح ، و مرد ذلك ما شاهدته في العراق وغزة وما يتم التحضير له ضد ايران ، والوشيجة التي تلف هذه الدول هي موقفها من الكيان الصهيوني ، أما غزة فذنبها أن أهلها يتأوهون من حين إلى حين من أحذية جنود الصهاينة الثقيلة الواقعة على رقابهم.

ومن غريب الغريب أن القوى المهيمنة تتبادل الأدوار دون إحراج لتجنب الكيان البغيض عقوبات على الورق لا تتجاوز كلمات تضيع وسط زحام الأثير، ومع ذلك يأخذ البعض على البعض أنه يتحفظ على نوايا وتصرفات تلك الدول السباقة في مجال “الديمقراطية”. إن مصدر الاهتمام بالظاهرة أكثر من الاهتمام بالاسباب مستمد من الوقائع التاريخية و خشية أن تصبح موريتانيا أخت الأندلس اندلسا ثانية أو عراقا أو سودانا ..الخ ، فحينها لا يجدي اللوم ، و لا أظن القوى الغازية أو التي تغذي الفتنة ستفرق بين من أيدها او استجلبها ومن تحفظ على قدومها ، و قد تخلصت امريكا في بداية عهدها باحتلال العراق من أحمد الجلبي والجماعة التي عادت مزهوة على دبابات المارينز الغزاة. وتفاديا لأي لبس فإنني هنا أتحدث حديثا نظريا ينطبق على من توفرت فيه الشروط .

و أذكر في نفس السياق و أنا أقرأ عن شاه ايران السابق – و لدوافع انسانية – شعرت حينها بكثير من الالم و أنا اقلب الصفحات التي سطرت عليها مأساة الرجل المسن ، فقد قال الشاه لأحد الكتاب أتعجب من فرنسا كان رئيسها يسافر من مكان لمكان لكي يشرب معي فنجان قهوة ويكاد يمسح احذيتي، وهم الآن يرفضون استقبالي للعلاج في باريس أو آمريكا أو أية عاصمة غربية ، فرد عليه الكاتب الذكي بقوله : انهم لم يتغيروا، أنت الذي تغيرت ؟؟

إن معرفتي البسيطة المتواضعة بالغرب بصفة عامة جعلتني دائما أتحفظ على منطلقاته ، وأتصور أن أجندته ليست بالضرورة خادمة لمصالح الدول غير الغربية ، وعلى وجه الخصوص اذا كانت هذه الدول محسوبة بشكل أو آخر على رافد من الروافد الذي يمكن أن يكون شوكة في حلق محمية وممثلة الحضارة الغربية المزروعة في خاصرة الأمة العربية لكي تظل سوطا يلهب ظهرها وسرطانا يتمدد في جسمها حتى وصل لبلاد شنقيط ، و حاول أن يستقر فيها ليجعلها عازلا في المنطقة بحكم موقعها كملتقى طرق بين الحضارات.

2- ان الديمقراطية الغربية تمثل إحدى الصور الراقية فيما أبدعته الإنسانية من طرق للحكم ، غير أن ذلك يتطلب نوعا من التأمل لمعرفة مدى استفادتنا منه ، فاليونان حين وصلوا لهذه الخلاصة في الطريقة التي يجب ان تدار بها شؤون البلاد جعلوها مقصورة على النبلاء و استثنوا غيرهم من النساء و الأطفال و الشيوخ ، و اذا حاولنا إضفاء هذه الصورة على الديمقراطية الغربية ستكون أمامنا لوحة قاتمة لما وصل إليه مستوى الرقي الإنساني لحضارة لا أحد يجادل في ما تفننت فيه من فلسفة وعلم و عمل ، ولا أحد كذلك ينكر ما أبدعته من وسائل دمار، أما ما استنزفته من خيرات الشعوب فمازالت شواهده مرئية ، ومع ذلك ، إن البشر يتشابه في كل مكان و الحضارات كذلك سياق يتصل في بعض جوانبه ، وللحضارة الأوروبية إيجابيات امتدت حتى شملت الرفق بالحيوان والمحافظة على حقوقه عندهم ، وامتدت كذلك لتقدم كثيرا من المساعدات وتمد يد العون الإنساني لغيرها من الشعوب ، إلا أن الملاحظة الجوهرية هي اتساع رقعة الديمقراطية اليونانية بتحول تطبيقها في القرية اليونانية الصغيرة وحدها إلى القرية الكونية اليوم ، فالغرب بالمفهوم الشامل ، لمواطنيه حقوق مقدسة، ولهم أرواح لا يجوز أن تزهق ، ولهم نموذج حضاري يجب تعميمه بالوسائل المتلألئة من ابتكارات علمية أو بالجيوش المدججة حين تكون روح الحضارة عصية على التطويع .

إن التطبيق الحالي للديمقراطية اليونانية لا يخطؤه التفكير، فالغرب بمفهومه الواسع هو النبلاء ، وغيره في عقليتهم ومعاملاتهم يدخل في الطبقات التي لم تكن تستفيد من نوع الديمقراطية السائد وقتها ، ولذلك دواعي وجيهة لمن استوقفته طريقة تعاطينا مع الحضارة الغربية ، فمصائر الأمم تتوقف بدرجة كبيرة على مستوى رشدها الاجتماعي وذلك في جزء كبير منه يتوقف على قدرتها على التكيف والاستفادة من الحضارة، فهذه الأخيرة لا يمكن استعارتها ، وإنما الطريق الأسلم هو تطويع العناصر الصالحة منها للواقع الذي يجب أن ينمو في اتساق يراعي كل العوامل ، فلا بد للديمقراطية من كفاءة في إدارة الشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وإلا تحولت إلى مصطلح أجوف يستخدم وسيلة لتطويع الشعوب ، فارغ من مضمون يخوله إسنادا من إرادة شعبية قادرة على حمايته متحمسة للذود عنه.

يتواصل

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button