مقالات

ولد عدود… العالم الزاهد /محمد بابا ولد أشفغ /etfagham@aljazeera.net

جمعتني بالشيخ محمد سالم ولد عدود رحمه الله أسفار إلى الخارج واحتككت به في إنعاش السهرات الرمضانية منذ انطلاقها عام ثلاثة وتسعين إلى أن غادرت التلفزيون الموريتاني أواخر عام ستة وتسعين. وتكررت زياراتي له في أم القرى قبل أن يقعده المرض.

وقد شدني في الرجل أمران أحدهما لن أسهب فيه لأنه معروف بالتواتر وهو علمه الموسوعي وحضرة بديهته. وقد سمح لنا رحمه الله أن نسجل إحدى حلقاته الدراسية في محظرته بأم القرى مطلع عام ألفين وستة لعرضها على “الجزيرة مباشر”. وأعتقد أن ذلك التسجيل يختصر الجانب المبهر في سعة علم الرجل حيث كان ينتقل بعفوية وتدفق من التفسير إلى الفقه ومن علوم اللغة إلى السيرة ومن الشعر إلى المنطق مفصلا ومسهبا حينا ومختصرا وملخصا طورا حسب مستوى كل طالب. وكان يخلل دروسه بنكت تضفي على المجلس مرحا لا يفقده هيبته…

أما الأمر الثاني الذي شدني في الرجل وسأبسط فيه بعض الشيء لأن قليلا من الناس من يعرفه فهو ورعه وزهده في الدنيا. ففي آخر مرة أزوره قبل مرضه صليت معه المغرب وكان فراش المسجد في غاية التواضع كما كان الرجل بسيطا جدا في ملبسه ومسكنه… فقلت لمرافقي ونحن نغادر الشيخ: والله لو شاء هذا الرجل لبنى أجمل مسجد وشيد أفخم بيت ولبدل قريته المتواضعة من حال إلى حال، فالكثير من أغنياء البلد لن يترددوا في بذل معروفهم له لو رأوا فيه رغبة إلى ذلك أما منفقو الخليج وهيئاته الخيرية فلو التمس منهم من هو في مقامه عونا لأغدقوا عليه من أموالهم الهائلة التائهة… لكنها قناعة الزاهد في الدنيا الراغب عن متاعها الزائل…

وقد جمعتني بالشيخ أسفار إلى المغرب والعراق والسعودية فكان عابدا قانتا قليلا من الليل ما يهجع… وكان لا يأكل إلا أقل القليل حتى لو قلت إن الرجل يصوم الليل والنهار لقاربت الحقيقة…

وكان رحمه الله متواضعا جدا أذكر أنه طلب مني في أول سهرة رمضانية أنعشها معه أن لا أصفه بالعلامة وكان يقول لي: “صفني بالشيخ فأنا شيخ فعلا. ألا ترى شيبي ووهن عظمي؟”. وأذكر أننا قررنا في العام الثاني من السهرات أن نضفي نوعا من الحيوية على طريق الإخراج فنستقبل الضيف مباشرة على الهواء لدى نزوله من السيارة لدى مدخل التلفزيون ثم نرافقه إلى الاستوديو ويبدأ البرنامج. كانت هذه الطريقة مقتبسة من برنامج في قناة فرنسية وكان فيها نوع من التمثيل لأن الضيف كان يأتي دائما قبل بداية البرنامج فنعيده عندما يحين الوقت إلى سيارته لنتظاهر باستقباله، وخشينا في البداية أن الشيخ عدود سيرفض الأمر لكننا فوجئنا به وهو يقبل تمثيل المشهد معنا بروح مرحة وتواضع كبير… وربما كان ينوي تأدية مستحب: أوليست تندب الموافقة في ما لا حرج فيه؟

وهذا التواضع هو إحدى ثمار الورع الذي كان يمنع الشيخ من الإفتاء في الكثير من الأمور رغم سعة علمه. أذكر مثلا أنه رفض إفتائي مرة بجواز التأجير المنتهي بالتمليك مع أن هناك من أباحه كما امتنع مرة من إفتائي بجواز جمع مشتركتي الوقت بغير عذر مع أن كثيرا غيره لم يجدوا في الأمر حرجا. وأذكر أنني قلت له مرة إن الفقهاء لم يقننوا بعد أحكام الديمقراطية: فما حكم التسجيل في اللائحة الانتخابية وما حكم التصويت: أواجب هو أم مستحب أم جائز؟ وهل يحرم في بعض الحالات؟ ولمن نصوت إذا خيرنا بين المفسد الكفء وبين الأمين الضعيف مثلا؟ وهل تجب طاعة المنتخبين بفتح الخاء وما حدود ذلك؟ وما هي أحكام الدعاية في الحملات الانتخابية؟ الخ؟؟؟ فما زادني على القول:

تكاثرت الظباء على خداش فما يدري لأيتها يصيد

وضخك وغير موضوع الحديث، ففهمت أنه يتورع عن الخوض في هذه الأمور الشائكة فضحكت أنا أيضا ولم أعد السؤال.

ومن ثمار زهد الشيخ عدود في الدنيا أنه كان قوي الشخصية مهابا لدى العامة والخاصة. على سبيل المثال عندما فرض الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع عام ثمانية وثمانين ارتداء الزي الحديث في أماكن العمل استثنى الشيخ من ذلك. فكان صاحب الدراعة الوحيد في المحافل الرسمية. كما أن تعيينه وزيرا في العام نفسه كان سببا في حظر التدخين في قاعة مجلس الوزراء وكان الشيخ يكره رائحة التدخين.

واليوم وقد رحل الشيخ إلى دار المقام فندعو الله أن يبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وأن يلحقه بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا… وحبذا لو انبرى من ينشئ هيئة في أسرع وقت تعنى بجمع تراث الشيخ وتيسير الاستفادة منه على أن ترأس هذه الهيئة شخصية مرموقة من أصدقاء الفقيد الحميمين كالشيخ حمدن ولد التاه أو من ذويه المقربين كالشيخ محمد الحسن ولد الددو الذي ورث بجدارة علمه وتقواه. وينبغي أن تبادر هذه الهيئة إلى إنشاء موقع إلكتروني للشيخ توفر فيه كتبه وفتاواه وتعرض بالصوت والصورة محاضراته الكثيرة والمفيدة الموجودة في أرشيف الإذاعة والتلفزيون. فلعلنا إن فعلنا ذلك نكون قد أسهمنا في اتصال ما بثه الفقيد في حياته من علم في قلوب الرجال.

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button