مقالات

المرابط محمد سالم بن عدود.. سفير بلاد شنقيط../الهادي بن محمد المختار النحوي/elhadi_alnahoui@hotmail.com

سفير كامل السلطة علما واجتهادا وفوق العادة حفظا وذكاء وفهم

عرف الشناقطة بالحفظ واستظهار النصوص وكانوا مضرب مثل في ذلك مغربا ومشرقا وبلغوا درجة من القدرة على الحفظ ربما عدها غيرهم أساطير أو مبالغات يصعب التثبت منها.. غير أن من عرف العلامة ,المرابط محمد سالم ولد عدود لن يجد في الأمر غرابة بل سيصدق ملأ سمعه وبصره أن ما يروى عن الموريتانيين (أو كمبيوترات الصحراء) ليس مبالغات ولا أساطير بل هو واقع معاش ملموس.

كان في موريتانيا علماء وحفاظ وأصحاب قدرات متميزة وذكاء نادر..لكن الشيخ عدود كان نموذجا آخر لا نبالغ إن قلنا إنكٍ تكاد لا تجد له مثيلا في الأمة اليوم.. فمن يتحدث عن الشيخ عدود رحمه الله اليوم ستنتابه الحيرة من أين يبدأ وأين ينتهي..
فهل يتحدث عن الفقيه الذي استظهر نصوص ومتون المذهب المالكي والمذاهب الأخرى وحاز فقه من سبقه من أعلام هذه البلاد فهل هو يحظيه بن عبد الودود أم محمد ولد محمد سالم أم محنض باب بن عبيد..أم والده محمد علي..
وفي أصول الفقه فهل نحن أمام نسخة جديدة من إمام الحرمين أم الغزالي أم ابن الحاج أم العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم …
وفي النحو هل نحن نعيش مع سبيويه أم المختار بن بونه أم الحسن بن زين..
وفي الحديث وعلومه لا يعرف المرء إن كان ابن عدود هو ابن الصلاح أم العراقي أم محمد يحي الولاتي, أم غيرهم ممن برز في هذا الفن..
وفي القدرة على الفهم والاستيعاب فنحن أمام نسخة من النوابغ الذين عرفتهم الأمة وبلاد شنقيط تحديدا مثل ابن رازكة..
وفي أشعار العرب وأيامهم كان الشيخ عدود هو ديوان العرب والشناقطة.
وفي الحفظ إجمالا فلا تعرف إن كان هذا الحافظ ابن حجر أم الحافظ السيوطي..
وفي الاجتهاد ونبذ التعصب كان الشيخ عدود باب بن الشيخ سيديا عصره.. مع اهتمامه وعنايته بمتون وشروح المذهب المالكي.. ولكن الأمر لن يكون مفاجئا إذا عرفنا كيف بدأ الشيخ مسيرته التعليمية. فقد حفظ قبل بلوغه أكثر من ثلاثين متناً, منها: الكافية الشافية لابن مالك، وألفيته مع جامع ابن بونا، وموطأ الفصيح، وعقود الجمان، وألفية العراقي، والكوكب الساطع، ونظم الغزوات، ونظم ابن عاشر وغير ذلك، ومجموع ما حفظه من متون قبل أن يبلغَ يقاربُ عشرين ألف بيت!!!
ولئن كان الشيخ قد تميز بقدرته على الحفظ واستظهار النصوص في فنون متعددة فقد أوتي ملكوت الفهم والاستنباط والغوص في المعاني العميقة للنصوص واستخراج الدرر منها والحادثة التالية كما رواها الدكتور عادل باناعمة عن إحدى جلسات مجمع الفقه في مكة المكرمة توضح ذلك, يقول عادل باناعمة:
“بدأتْ جلساتُ ذلك اليوم وكان موضوعها الرئيسُ (المحاكم الرسمية في الدول الغربية وموقف المسلمِ من أحكامها ولا سيما في قضايا الأحوال الشخصية)، تتابعت الأوراقُ والشيخ صامتٌ مصغٍ، وأكثرَ الفقهاءُ الحاضرون من الاحتجاج بقوله تعالى : (( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً )) على عدم جواز خضوعِ المؤمن لأحكام هذه المحاكم.
وبعد أوراق عديدةٍ طلب الشيخ الكلمةَ وقال في إيجازٍ بليغ: لستُ بصدد مناقشة الحكم الفقهيّ في هذه المسألة، ولكنّي وجدتُ إخواني الفقهاء ينزعون بهذه الآية فيجعلونها في غير محلها! ذلك أن المقصود بها يوم القيامةِ، فالله يقول: (( فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا)). فأبطلتْ كلمتُهُ هذه نصفَ الحجج!!
انفضّتِ الجلسةُ .. وشرُفتُ بالجلوس حول مائدةٍ واحدة للغداء مع العلامة ابن عدود وشيخنا محمد الحسن، وكنتُ وقتَها أعدّ لبرنامجي ( فقهاء أدباء) فتجاذبت معهما الحديث حول سير الفقهاء المتأدبين فانثال ابن عدود نهراً رقراقاً عذباً نميراً.
وجلسنا من بعدُ دقائق في غرفتِهِ فعرض الشيخُ لدقائقَ في نظم الكتاب العزيز، ولطائف خالف بها المشهور عند النحاةِ، واحتجّ وعلل، وأصّل وفصّل، وشرح ووضّح، فلا والله ما رأيت أعجبَ منه يومئذٍ استحضاراً للنصوص، وغوصاً في معانيها، وقدرةً على المفاتشة والمناقشة، وما ندمتُ على شيء ندمي على فواتِ تسجيل ذلك اللقاءِ.”
والشيخ على تبحره وعلمه الموسوعي في العلوم الشرعية واللغوية كان يعيش عصره فقد درس القانون وكسب من المعارف المعاصرة ما جعله يكون شيخا مخضرم الثقافة.. وقد ساعد على كل ذلك بعد توفيق الله أنه نشأ في أسرة علم وصلاح وقد تلقى مجمل تعليمه في محظرة والده العلامة محمد علي ولد عبد الودود.
وبعد ان حاز الشيخ على فنون وعلوم المحظرة الموريتانية توجه إلى تونس في بداية الستينات الميلادية لدراسة القضاء والقانون.. وتخرج منها سنة 1965..
التحق الشيخ بالحياة العامة فعين رئيسا للمحكمة العليا ثم وزيرا للثقافة والشؤون الإسلامية ثم رئسا للمجلس الإسلامي الأعلى في موريتانيا..
وفي المجال الأكاديمي كان الشيخ يدرس في جامعة نواكشوط والمعهد العالي للدراسات والبحوث والدراسات الإسلامية.. هذا فضلا عن نشاطه الدعوي الذي لا ينقطع فقد كان يفتي ويحاضر وتستضيفه التلفزيون والإذاعة في برامج دينية وثقافية متعددة للفتوى وتعريف الناس بدينهم وقد عرفت برامجه بارتفاع نسبة مشاهديها خاصة برامج السهرات الرمضانية التي كانت تبثها الفضائية الموريتانية خلال شهر رمضان..
وأذكر تلهفنا وشوقنا ونحن شباب وفي مراحل تعليمية مختلفة لحضور محاضرات الشيخ التي كانت تنظم في العاصمة نواكشوط وكان الشيخ تواضعا منه ونكرانا لذاته يعتذر في بداية حديثه للحضور عن عدم إعداد أي مادة مكتوبة.. فكان من عادة الشيخ أن يأتي خالي الوفاض من الأوراق ويتحدث ولا يترك شاردة ولا واردة حول الموضوع إلا وتطرق لها..
وإذا بدأت الأسئلة تتضح موسوعية الشيخ فيجد السائل عند الشيخ الجواب الشافي الكافي وكل ذلك بالأدلة والشواهد العلمية مع التمكن من أساليب التشويق..
وفي العقدين الأخيرين تفرغ الشيخ تقريبا لمحظرته في قرية أم القرى التي تقع على بعد حوالي 45 كلم شرق العاصمة نواكشوط فكان الإقبال عليها كبيرا من طلبة العلم من داخل موريتانيا ومن خارجها وخاصة من المغرب العربي وقارة إفريقيا..
وخارجيا كان الشيخ عضوا ناشطا في العديد من الهيئات الدعوية والفقهية مثل رابطة العالم الإسلامي ومجمع الفقه التابع لها ومجمع الفقه التابع لمنظمة المؤتمر لإسلامي.. وهيئة آل البيت في الأردن .. وفي المغرب..
وللشيخ في مجال التصنيف باع واسع خاصة المؤلفات المنظومة فقد نظم مختصر خليل وألف عدة كتب..
ولي مع الشيخ عدود ما أتشرف به كغيري من أبناء الجيل الذين عايشوا بعض مراحل عطائه فقد شرفت بان كنت أحد طلابه عندما درسنا مادة التشريع الإسلامي في كلية العلوم القانونية والاقتصادية في جامعة نواكشوط..
وقد وجدت مع الشيخ فرصة نادرة, وكما يقولون فرب فرصة أفضل من ألف ميعاد, فقد كنت قبل أكثر من سنة أودع أحد الإخوة في مطار الملك عبد العزيز في جدة, وكان من جميل الصدف أن الشيخ عدود كان مسافرا على نفس الرحلة وجاء معه الشيخ محمد الحسن الددو واغتنمت فرصة انتظار إكمال إجراءات السفر ففتحت حديثا مع الشيخ عدود وقدمت له نفسي وقلت له أنا كنت أحد طلابكم في الجامعة فقال لي وأنا سأكون شيخك اليوم فقلت ذالك أمر يشرفني فبدأ يحدثني عن الروابط التي تربطه بأسرتي وما يجمعه بها من أواصر الرحم والأخوة والصداقة وذكر لي من أسماء أسلافي ما لم أكن أحفظ وذكر جانبا من التاريخ الموريتاني الغابر الذي اجتمعت فيه بعض القبائل لمكافحة الظلم ونصرة الدين, تشعب الحديث إلى علوم التفسير واللغة والتاريخ والعلوم الاجتماعية كانت محاضرة غير محضرة لكنها كانت دسمة كما هي عادة أحاديث الشيخ رحمه الله.. وكانت الشواهد القرآنية حاضرة في مجمل حديثه وسعدت بالحديث أكثر وزادت سعادتي ببعض نصائحه الجليلة….
كان الشيخ رحمه الله نموذجا للعالم المجتهد الذي يعيش عصره أفنى عمره في بث العلم والدعوة والتقريب بين المدارس الإسلامية وانتهاج منهج الوسطية والاعتدال..
وجمع الشيخ رحمه الله مع العلم الغزير والحفظ الواسع وما تقلده من مناصب سامية جمع مع كل ذلك التواضع والتودد إلى الناس والزهد والإعراض عن الدنيا وكان يخدم المساكين من الطلاب وذوي الحاجات ويفتح لهم باب الوزارة ويحل مشاكلهم..
هذا فضلا عن خدمته لطلاب العلم المغتربين الذين ارتحلوا من بلدانهم فآواهم لينهلوا من علمه.. في محظرة أم القرى…
وخلاصة حال الشيخ كما قال العلامة الشيخ عبد الله بن بيه حفظه الله:
كان “علماً من أعلام الأمة علماً ودعوة وخلقاً بقية السلف وإمام الخلف وأستاذ الجيل وجامع علمي المنقول والمعقول”.
كان الشيخ رحمه الله باختصار نموذجا للسفير الشنقيطي.. السفير العالم المجدد الحافظ الموسوعي أو كما يقول الشناقطة في عاميتهم (ما يرد لوحا)… كان سفيرا كامل السلطة علما واجتهادا وفوق العادة حفظا وذكاء وفهما..
إن رحيل الشيخ المرابط محمد سالم عدود يعد خسارة جسيمة لكل الموريتانيين بل للأمة كلها….. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين

مواضيع مشابهة

تعليق

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button