فهمي هويدي يكتب: انتحار صحيفة السفير
أنباء انفو- حينما ماتت السياسة وانطفأ الحلم فى الفضاء العربى، قررت جريدة ‘‘السفير‘‘اللبنانية الانتحار.
إذ توقفت عن الصدور كليا ابتداء من اليوم الأول فى شهر يناير الحالى، بعد نضال استمر طيلة ٤٣ عاما، كنت أحد شهود ميلادها فى ربيع عام ١٩٧٤، حين كانت الأحلام مازالت ممكنة،
وشاءت المقادير أن تقرر الصحيفة الاختفاء فى صقيع عام ٢٠١٧، حين اجهضت الأحلام ونافشتها الكوابيس فى مختلف أرجاء العالم العربى.
يومذاك ــ فى ١٤/٤/١٩٧٤ ــ قدم رئيس تحرير الجريدة ومؤسسها الزميل طلال سلمان مشروعه باعتباره إطلالة على عصر جديد تلوح فيه معادلة الحلم الذى تمتزح فيه الوطنية والعروبة والكفاءة المهنية.
ووصف «السفير» بأنها ‘‘جريدة مقاتلة‘‘ تصطف إلى جانب جنود الأمة المجيدة فى معركتها الكبرى ضد الثالوث القوى، المتمثل فى الصهيونية والامبرالية والرجعية.
طوال العقود الأربعة اللاحقة ظلت الجريدة «المقاتلة تخوض» معاركها على مختلف الجبهات واحدة تلو الأخرى، حتى غدت منارة مضيئة فى فضاء الحلم العربى، وكتيبة متقدمة فى مواجهة جيوش الظلام ودعاة التشرذم والهزيمة،
إلا أن فريقها أدرك فى نهاية المطاف أنهم يحاربون ضد التيار السائد فى المنطقة،
وان الرياح السوداء ما برحت تهب على العالم العربى مستهدفة الانقضاض بقوة وشراسة على الأحلام التى تعلقت بها الجماهير وتصدت الجريدة طول الوقت للدفاع عنها.
صحيح أن ثورة الاتصال أضعفت إلى حد كبير دور ووجود الصحافة الورقية.
كما أن الصراعات المخيمة على العالم العربى أثرت سلبا دور الإعلام فى أقطاره.
إلا أن ثمة عاملا أهم قوى من كل ذلك كان له دوره فى قرار الانتحار،
وفى شهادته الأخيرة التى نشرتها جريدة «الشروق» يوم الأربعاء الماضى (٤/١) ذكر طلال سلمان «أن السبب الحقيقى لانطفاء الصحافة العربية وتلاشى دورها وإنعدام تأثيرها يعود إلى أن الدول العربية بمجموعها تعيش فى قلب الصمت وغياب الحوار وسيطرة السلطة على الهواء والورق وتكميم الأفواه بالقمع أو بالإغواء. وبكليهما بالتناوب.
بالتالى فقد تمت السيطرة للصوت الواحد الذى يعبر عن موقف السلطة.
وتم ــ بالأمر ــ تغييب الأفكار والاجتهادات والآراء المختلفة والمتباينة، حتى لو كانت فى جوهرها تتوخى مصلحة الشعب ولا تكون بالضرورة معادية للنظام».
تطرق طلال سلمان إلى زمن كانت فيه مصر هى القائدة وصحافتها هى الرائدة،
الأمر الذى أنعش القوى والطاقات القومية التى عبرت عن نفسها فى ساحات عدة، كانت بيروت فى مقدمتها،
إلا أن الهزائم التى توالت بعد ذلك قلبت الموازين بحيث صرنا «نعيش فى زمن آخر، مختلف أشد الاختلاف عن الخمسينيات والستينيات، مرحلة النهوض والتوجه نحو التكامل والتوحد، (إذ) صارت كل دولة مخاصمة للدولة العربية الأخرى، وغرقت بعض الدول العربية فى دماء أبنائها، وانتعشت الطوائف والمذاهب،
واكتملت الهزيمة بتعاظم المنظمات المتطرفة ذات الشعار الإسلامى التى تريد إرجاع التاريخ قرونا إلى الوراء».
فى ختام شهادته قال ما خلاصته أن موت السياسة سلمنا إلى عصر الظلام.
«ففرض الرأى الواحد هو تعميم للجهل. والفوضى المسلحة التى فرضتها التنظيمات ذات الشعار الإسلامى خلقت جوا من الإرهاب، كان منطقيا أن يلعب دور الحليف لأنظمة القمع ضد حرية التفكير والعمل والسعى إلى غد أفضل».
إزاء التقدم الذى أحرزته جيوش الظلام المدججة بأسلحة الفتك والغواية، والساعية إلى قطع الفريق على نهوض العالم العربى ؤتقدمه،
وبعد نزال ومقارعة استمرت ٤٣ عاما، انهكت السفير وظلت رافضة للاستسلام والركوع،
وإزاء إنسداد الأفق فإنها اختارت أن تسلك طريق «الساموراى» الذى عرفته اليابان فى تاريخها، ففضلت الانتحار على الاستسلام والسقوط فى أوحال الهزيمة.
واختارت اليوم الأول من شهر يناير موعد الغياب الذى يؤكد استدامة الحضور كما يقول المتصوفة.