العقيد أعل ولد محمد فال هو الحل/ إيمان القويفلي / جريدة “الوطن” السعودية
انتهت التجربة الموريتانية بما لم يكن يتوقعه أحد، وهو الالتزام الكامل بالوعود وبالبرنامج وبالخطط المُعدّة، بلا تملص ولا التفافات، وخلال مدّة زمنية أقصر حتى مما حُدّدَ سلفا. وحقّ ألا يتوقع أحد هذا ووراء التجارب العربية إرثٌ مجيد من الانقلابات العسكرية سيئة السمعة، وحاضرٌ أمجد من الثبات الكونيّ على كراسي الرئاسة. لا هذا الالتزام مألوف، ولا هذه المصداقية، ولا هذا التنازل الاختياري؛ مألوف.
لكنّ أكثر الأشياء غرابة، بل إعجازا، في التجربة الموريتانية، هو ذلك الاستعمال المُرشـّد للسلطة الواسعة والنفوذ المتركز في يد رجلٍ بعينه، في خدمة المؤسسة وفي خدمة الدولة، وليس الذات، وليس الفرد. متشابها مع التجربة الفنزويلية – في أحد أوجهها – جاء العقيد ولد محمد فال بتجربته. كلاهما، هو وهوجو شافيز، رجل عسكري، واسع النفوذ، في أجهزة دولة غارقة في الفساد وتمركز الثروات والسلطات في أيدي عصبة محدودة، يبادر إلى استخدام نفوذه وقوّته لتغيير نظام الحكم، ثم المباشرة بإصلاحات جدية وحقيقية: تداول السلطة، وإعادة توزيع الثروات، وفتح ممرات التنمية. وإن كان العقيد يتفوق على شافيز بتنحيه المهيب عن السلطة، وتعقل مواقفه الدولية. مثل بقعة ضوء وحيدة وسط عتمة ساكنة تأتي هذه التجارب، لترفع على السطر مجددا الأسئلة الرئيسية: ما هو الحل؟ ألا يزال ثمة أمل في الحركات الدينية والأيديولوجية أو أي عمل مؤسساتي منظم؟ هل الحل الحقيقي لن يكون إلا على هذه الشاكلة: بمبادرة فردية وبالقوة؟ هل هناك جدوى من الحركات المدنية والسلمية والتغيير عبر المؤسسات؟ الفرد أم المؤسسة؟ المدنية أم العسكرية؟ بالقوة أم بالزمن؟ هل ثمة أمل….؟
وإن كانوا لا يعلنونها – كما يفعل الإخوان المسلمون بشعار “الإسلام هو الحل” – تقدّم المشاريع المتنوعة ذاتها المختصرة على أساس أنها الحل للأزمة الشاملة عربيا. وتقدّم السلطة ذاتها، مشاريعها الإصلاحية، على أساس أنها الحل. والمشترك في الحالتين أن الحلّ سيأتي عبر عمل جماعي واجتماعي منظم (يُفترض)، عبر مؤسسات وهيئات ورحلة بطيئة للتقدّم خطوة كل مرّة و حرب من أجل مقاومة أي ارتداد عن هذه الخطوة. لكن… هل أفلح أي عمل مؤسساتي منظم فعلا في تغيير شيء نحو الأفضل؟ هل استطاع المدنيون عبر التجمّع و العمل تحقيق استقلال ٍ عن إدارات الدولة وإنشاء قوى موازية و مؤثرة؟ هل نجحت الأيديولوجيات سواء وصلت إلى السلطة أو لم تصل، في تحقيق شيء؟ وهل أفلحت مشاريع السلطة الإصلاحية في تغيير شيء؟
بشكل ما، هذه الأعمال و”الحركات المنظمة الهادفة إلى الإصلاح بالتدريج وبوسائل سلمية”، نجحت غالبا في أن تبقى سلميّة، لكنها فشلت في تحقيق أي إصلاح أو تغيير. والمفارقة عربيا أن هذه السلمية تـُعدّ إنجازا يجبّ هذا الفشل الإصلاحي (أليس من المألوف أن تسمع أحدهم يتحدث عن إنجازه في احتواء رغبات التغيير والإصلاح ومنعها من الانفجار بطرق عنفية، وعندما يُسأل عن التغيير والإصلاح الذي تحقق عبر هذا الاحتواء يقول “بالتدريج، نحتاج إلى وقت. المشكلة عميقة وعريقة ولا يمكن تغيير العقول بين يوم وليلة”. مألوف… صح؟). حتى السلطة ذاتها التي بيدها مقاليد الأمر كله تحتجّ بإعاقات المجتمع وعقد المجتمع و”نحتاج إلى وقت. المشكلة عميقة وعريقة ولا يمكن تغيير العقول بين يوم ٍ وليلة”. عمليا، تأزمات وعثرات الإصلاحية هي الكرة التي تقذفها السلطة في حضن المجتمع والأحزاب والتيارات الدينية، وهذه تعيدها إليها. ولا يمكن بالطبع الحديث عن أي تقدّم إصلاحي فالجميع مشغول بالمباراة التي تشوّش أذهان المتابعين جديا خاصة عندما تشتغل البروباغاندا الحكومية أو الحزبية أو الدينية بالبرهنة عمليا على ما يقوم به “القوم الآخرون” من إعاقاتٍ للخير الذي نريد أن نقوم به “نحن”. خلف ظهور المتابعين للمباراة قد تجري أشياء معاكسة تماما لأي مضمون إصلاحي، بل قد تتضمّن تخريبا وتفكيكا وتحجيما لآخر الهيئات المحترمة في واقع غير محترم (كما حدث مثلا من قصقصة لسلطات القضاء المصري في حفلة تعديل الدستور الأخيرة). بعد أن جاءت الانقلابات بأشخاص كالأخ العقيد (العقيد الآخر، ليس ولد محمد فال)، خفّ التواتر الانقلابي عربيا وأحكمت الأفراد قبضاتهم على السلطة. ربما أرعوى العربي قليلا وصار يلعن الانقلابات وأيامها، ويحاول أن يجد “الحل” في شيء سوى الانقلاب وسلطة الفرد. لكن المؤسساتية – لنكن صرحاء – خاملة وضعيفة وغير جادة، وأحيانا محتالة. وحتى عندما تعمل بجد، فإن نتائج عملها تبدو وكأنها “احتياطيّ للأجيال القادمة”! لا ترى بالعين المجرّدة بل بعين الخيال للمستقبل. جديا: ما حاجتنا بإصلاح أو حركات منظمة مدنيا إذا كانت نتائجها لن تظهر إلا بعد 60 أو 70 عاما؟ صحيح، “غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون”، لكن المشكلة أن أحدا قبلنا لم يغرس إلا نادرا، وأننا نحيا في أجرد تنموي وحقوقي وقانوني و إنسانيّ. أليس لنا من الحياة نصيب؟ ترجح كفة ولد محمد فال، بتصرفه الفرديّ، وإن كان انقلابا والانقلابات طالما كانت سيئة السمعة. ترجح كفته والمؤسسات داخل السلطة وخارجها لا تولي اهتماما للزمن ولسرعة الإنجاز قدر ما تولي اهتمامها للسلمية والتـّدرّج والهدوء. معاذ الله، لا عيب في السلمية ولا في التدرّج ولا في الهدوء، لكن هذه وحدها ليست إصلاحا، ليست إنجازا، ولن يموت الإنسان الذي عاش تحت خط التنمية طوال حياته سعيدا لأنهُ مات بسلام، لأنه في الوقت ذاته، مات بالتدريج. أمثال العقيد نوادر، غالبا عندما يتورط المرء بالسلطة ومؤسساتها يعجز عن تحقيق انفصال عن رؤاها ومصالحها التي تصبح رؤاه ومصالحه.
لهذا عندما يتوافر المرء على السلطة لا يتوافر على الرؤية، وعندما يتوافر على الرؤية لا يتوافر على السلطة. قدرة الأشخاص على التأثير والتغيير تضعف بابتعادهم عن مركز الدائرة والنفوذ. نادرة العقيد أنه زاوج مزاوجة فريدة بين القدرة والرؤية. غير أن ندرة هذا المثال تضعف من إمكانية تعليق الآمال عليه. (والعقيد ذاته أصلا يقول إنهُ مثال موريتاني محض غير قابل ٍ للتصدر).
لكن هناك بصيص من الأمل لو أن الشاهد المعجب بالعقيد، أي شاهد، تمثله في حدود سلطته وحكمه مهما ضاقت. لربما انقضى عهد المؤسسات التي تتبع عقيدة المُرجئة، وبدأ عهد انقلابيّ حَسَن السمعة. ربما!