أخبار

المعارضة الموريتانية تستعيد “تراث المواجهة” /صحيفة الخليج

هيمنت على أحداث الأسبوع الماضي في موريتانيا ملفات كبيرة ومتعددة منها تنصيب رئيس الجمهورية الجديد، وموضوع تشكيل الحكومة، وتصدر ملف السلفية الجهادية واجهة الأحداث بعد أول عملية انتحارية في موريتانيا مساء السبت الماضي، وكذلك بدء التشكيل الفعلي للحزب الحاكم الجديد (حزب الاتحاد من أجل الجمهورية)، والمتوقع أن يكتسح القواعد الشعبية لأحزاب وقوى الموالاة والمعارضة على السواء.

ورغم العناوين الكبيرة، فإن ملف المعارضة الموريتانية الجديدة يهيمن بشكل كبير على الرأي العام الموريتاني، خاصة وأن هذه المعارضة أطلقت “شيفرات” قابلة للتحليل في كل الاتجاهات.

صحيح أن موريتانيا طوت صفحة “الأزمة الدستورية” بانتخاب الرئيس محمد ولد عبد العزيز في الثامن عشر من يوليو الماضي واعتراف القوى السياسية الموريتانية، باستثناء ثلاثة مرشحين بالنتائج، وكذلك تزكية المجتمع الدولي لهذه الانتخابات والاعتراف السريع بشرعية ولد عبد العزيز.

لكن موريتانيا لم تطو صفحة “الأزمة السياسية”، والراجح هنا في نواكشوط أن هذه الصفحة غير قابلة للطي في الأجل المنظور، وذلك لاعتبارات واقعية وسياسية متعددة أبرزها الدور المتنامي للزعامات المحلية الموريتانية وعدم قبولها بحلول لا تسيطر من خلالها على الجهاز التنفيذي للدولة.

ولعل ما لا يدركه الكثيرون هو أن الدور السياسي للمعارضة الموريتانية ليس دورا جديدا في التأثير على الحكم والتحكم به وبتوجهاته ورسم سياساته، بل بدأ هذا الدور مبكرا بعيد استقلال الدولة عام ،1960 إذ تم إشراك المعارضة في إدارة شؤون البلاد بعد دخولها “حزب الشعب” الحاكم آنذاك.

ولأن اليسار بالخصوص هو الذي قطف ثمرة ذلك الزواج بالسلطة، فقد لجأت المعارضة القومية لتغيير الحكم لأول مرة عن طريق الجيش فأطاحت في العاشر من يوليو 1978 حكم ولد داداه، قبل أن يطيحها جانب آخر من المعارضة (تحالف اليسار، والإسلاميون) حيث استولى على نظام ولد هيدالة الذي وصل إلى السلطة بانقلاب من داخل اللجنة العسكرية الحاكمة آنذاك.

لكن تلك المعارضة لم تهنأ بظل الحكم طويلا ما دفع ولد الطايع لإطاحة النظام (12/12/1984) وكان مدعوماً باليسار الليبرالي والقوميين الناصريين والبعثيين، ومنذ اليوم الأول لحكمه بدأ ولد الطايع التمكين لليسار الليبرالي في الأرض، فاعتمد كلياً على هذا التيار دون أن تكون شراكاته السياسية مع التيارات الأخرى سوى شراكات مرحلية هدفها قتل تلك التيارات من الداخل ما دفعها للعمل المعارض من داخل وخارج صفوف النظام.

وبذلك بلغ العمل المعارض ذروته مع نهاية الثمانينات وبداية التسعينات. وعندما قرر ولد الطايع الخضوع للسياسة الفرنسية العامة الجديدة في بداية التسعينات والقاضية بعدم دعم مستعمراتها السابقة ما لم تنتهج النظم الديمقراطية، لم تفوت المعارضة الموريتانية الفرصة فخططت جيدا للاستيلاء على الحكم عبر صناديق الاقتراع في رئاسيات 1992 التي خسرتها بفارق 18 نقطة رغم التزوير الواسع الذي مورس في تلك الانتخابات وضلوع كامل جهاز الدولة في العملية الانتخابية لصالح النظام.

وقتها كان دخول ولد داداه للمعارضة منعطفاً مهماً في تغيير نمط تعامل هذه المعارضة مع الحكم، فلأول مرة يسقط قناع الهيبة والخوف من النظام في الشارع ويجري تحديه سياسيا وإعلاميا وإرباكه على المستوى الداخلي والخارجي، بل وتقديم “البديل” ليس من حيث البرامج فحسب ولكن أيضا من حيث الرجال الجاهزين لتولي حكم البلد.

خسرت المعارضة الموريتانية الحكم في أول انتخابات تعددية، لكنها كانت قد جهزت بقوة ماكينة صناعة الأزمات، فظهر نظام ولد الطايع وهو يعتاش على الأجهزة البوليسية وعمليات التزوير والحكم بالقوة المباشرة.

محاولات فاشلة

وحاول نظام ولد الطايع تفكيك المعارضة بكل ما أوتي من قوة ومال وإغراء وترهيب وعصي وجزرات، فعقد تحالفات جهوية وعشائرية وعلى المستوى الخارجي ارتمى في حضن الصهيونية.

لكن الوقت كان قد فات، فالمعارضة غالبا كالقنبلة عند التفكيك قد تفجر كل شيء.. وهذه المرة أوصلت تلك المعارضة المفككة الوضع في البلاد إلى درجة “الاحتقان” وإلى الحد الذي تخرج فيه حركات مسلحة ضد النظام، الشيء الذي كان يعني أمرا واحدا هو إخراج الرجل من السلطة ووقع ذلك في الثالث من أغسطس 2005.

في الفترة الانتقالية 2005- 2007 سابقت المعارضة الزمن للفوز بالحكم في أول انتخابات رئاسية تعددية شفافة.

لكن قوة تأثير الجيش في الحياة السياسية والإدارية للدولة وتحالف أحد أبرز قادة المعارضة مع “المرشح التقليدي للدولة” جعل المعارضة تخسر الانتخابات بفارق ضئيل 3 نقاط فقط.

وفي 19 إبريل ،2007 وفيما كان حفل تنصيب الرئيس المنتخب آنذاك ولد الشيخ عبد الله يذهل “مرضعات” المنطقة عما يرضعن، بدأ قادة المعارضة الخاسرون التخطيط للعصف بالحكم الجديد تحت شعار “ولاية لن تكتمل”.

صناعة البروباكاندا، وتسويد الواقع الرمادي، وزرع بذور الفتنة في قوى الأغلبية الحاكمة المتنافسة، والآلة الإعلامية المعارضة التي سودت صفحات النظام بسرعة ضوئية وسوقته كنظام ضعيف وعاجز ومفلس سياسيا واقتصاديا وحتى أخلاقيا.. كلها طبخة سممت بسرعة الأجواء.

حاول نظام ولد الشيخ عبد الله الحماية بالارتماء في أحضان فصائل معارضة ولكنه بذلك وقع في الفخ، فالقوى التي اختارها لا تملك بعداً اجتماعياً وجهوياً مؤثراً من ناحية، ومن ناحية أخرى هي قوى عليها فيتو من قادة الجيش الجدد وحتى من القوى الخارجية.

بعيد انقلاب في السادس أغسطس ،2008 انقسمت المعارضة إلى فريقين، الفريق الأول بارك الانقلاب وحاول استثمار تداعياته للوصول للسلطة، فيما ناصب الفريق الثاني الانقلاب بالعداء وعمل بقوة داخليا وخارجيا لإفشاله.

توجه لإفشال الانقلاب

وبعد أشهر قليلة توحدت المعارضة تحت شعار “إفشال الانقلاب” وتمكنت عبر ضغوط المجتمع الدولي من جر النظام إلى توقيع اتفاق دكار وفق صيغة تقاسم السلطة واللجوء لانتخابات تعددية.

لكن ما فات المعارضة وهي توقع اتفاق المصالحة في 4 يونيو/حزيران الماضي هو أن الجنرال عزيز استولى على جميع أوراقها الداخلية ب”خطاب رئيس الفقراء”، ومكافحة التطبيع، وصورة رجل الدولة القوي في مجتمع باحث عن الأمن والطمأنينة أكثر من الديمقراطية.

خسرت المعارضة أيضاً الانتخابات الرئاسية ب 3 نقاط فقط لكن من الشوط الأول وهو ما اعتبر هزيمة منكرة لمعارضة كانت قد فصلت الثوب الانتخابي على شوطين.

والأدهى من ذلك أن الرئيس المنتخب حشر المعارضة في زاوية “رجال الفساد” وتهمة الخيانة بتدويل ملف البلاد والتحالف مع الصهيونية.

خرجت المعارضة الموريتانية هذه المرة بدون ظهير خارجي وبنكسة انتخابية مرة في انتخابات هي من أشرف عليها وأعلن نتائجها.

ولكن من الساعات الأولى لفرز النتائج بدأ قادة المعارضة الموريتانية العودة ل”صناعة الأزمات”، فقرروا أولا عدم الاعتراف بالنتائج، وثانيا اعتبار الأزمة السياسية باقية.

ولم تخف المعارضة سعيها لإفشال ما سمته ب”الانقلاب الانتخابي” بكل الطرق ووسائل المقاومة الديمقراطية حسب توجه زعيم المعارضة أحمد ولد داداه، فيما قدم حليفه مسعود وبلد بلخير، مرشح الجبهة، مقترحاً بدخول المعارضة والنظام في حوار جديد لتجاوز الأزمة السياسية، ما يعني تقاسم السلطة.

أما الجناح الثالث الذي يقوده العقيد أعلي ولد فال فاعتبر أن “السلطات الانقلابية لا شرعية لها بالانتخاب” ووضع خيارين، إما اللجوء لانتخابات رئاسية يحضر لها الجميع، أو الذهاب إلى حل توافقي.

هذه المواقف من وجهة نظر المراقبين تمهد لما يلي:

1 الحد من قوة النظام عبر رفض المعارضة لشرعيته.

2 الضغط أكثر على النظام لتقديم تنازلات في ما يتعلق بالملفات التي لم تتم تسويتها في اتفاق دكار ومن بينها ملف المعارضين المتهمين في ملفات الفساد كملف إفلاس الخطوط الجوية الموريتانية المتابع فيه رئيس الوزراء الأسبق يحي ولد أحمد الوقف وبعض رفاقه.

3 جر النظام إلى حوار طويل ومعقد وتنازلات “مؤلمة”، أو إحراجه داخليا وخارجيا بإظهاره بمظهر الرافض للحوار.

4 اللعب على الزمن.. فالمعارضة تتوقع بعد أشهر أو سنة أو اثنتين عجز الرئيس الجديد عن الوفاء بالتزاماته الثورية، فصناعة الوعود الجميلة سهلة وتغيير الواقع المزري المتراكم منذ خمسة عقود يتطلب المستحيلات، وعندها يبسط الواقع رداءه الأسود على بريق الفوز الانتخابي، وصورة الرجل القوي.

5 إغضاب القوى الاجتماعية والسياسية والحساسيات المحلية وإشعارها بالغبن والتهميش من طرف النظام.

6 إدارة عمل الإعلام المناوئ وفق تقليد تبخيس الانجازات وتهويل النواقص، و”حرق” بطانة النظام ورصد أخطائه.

7 التركيز في معاناة الشارع من الوضع المعيشي والبطالة والفقر وسوء أداء القطاعات الخدمية للدولة.

8 النزول للشارع بحرب مظاهرات، وتحريك ملف النقابات ومطالبها والتشجيع على الإضرابات العمالية والطلابية، وخلق “الدواعي الموضوعية” لانقلاب عسكري، وفق “الدواء بالداء”.

هذه هي الأجزاء الأهم في استراتيجية المعارضة الموريتانية في المستقبل القريب، تلك الاستراتيجية التي يجري التخطيط لها في الكواليس ويرى قادة في المعارضة أنها كفيلة بالقضاء على “الجنرال العنيد” و”الثوري الجديد” الحالم بتغيير “بلاد المنكب البرزخي”، الاسم الذي اشتهرت به موريتانيا في فترة من تاريخها ولا يزال مستعملا بكثرة في الأدبيات السياسية.

ينكت أحد المقربين من عزيز بالقول إن الرئيس المنتخب يسعى لانتشال الدولة من واقع الإفلاس التنموي، وأمامه رهان تغيير واقع ثلاثة ملايين فقير، بينما تتمثل مهمة التغيير بالنسبة للمعارضة في الإطاحة برجل واحد فقط.

ترى هل ينجح عزيز في ما فشلت فيه جميع الأنظمة التي تعاقبت على حكم البلاد، ويفلت من مهارة المعارضة الموريتانية في صناعة الأزمات.

الذي لا شك فيه أن “القتال” على جبهة المعارضة لن يكون هو التحدي الأسهل بالنسبة للنظام الموريتاني الجديد، فالمعارضة الموريتانية هذه المرة لا تشعر بالهزيمة فقط بل تشعر بأنها أهينت أيضاً.

– المختار السالم

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button