نفط موريتانيا بين السراب والحقيقة / صحيفة الخليج
بين السياسة والتجارة عرى تربطها المصالح المتبادلة “فالشيء الوحيد الذي لا يمكن للتجارة أن تخلو منه هو السياسة” والعكس صحيح. ولعل التصريحات التي أعقبت زيارة مسؤول نفطي فرنسي لموريتانيا هذا الأسبوع حدد أربع سنوات لبدء تصدير أول برميل من النفط من “حوض تاودني”، شمال موريتانيا، هي أحدث مؤشرات التقارب المبني على المصالح بين رجال المال والسياسة في البلدين، فقد بدأت الحفارات الفرنسية حفر الآبار التجريبية في الحوض الذي تقول الدراسات التي أجريت عليه إنه يتضمن كميات استراتيجية من النفط والغاز، ويتردد على نطاق “خاص جدا” إنه يشكل “خطرا” على نفط عدة دول مجاورة نتيجة لطبيعة الحوض الجغرافية حيث يشكل ميلان الأرض في المنطقة عامل لا يمكن تحديد آثاره بعد. السياسة هنا في الموقف الفرنسي الذي عمل منذ ابتسام الدراسات الجيوفيزيائية عن “تفاؤل” كبير سنة 2007 بمستقبل الحوض النفطي، ما جعل دولتين مهمتين كالجزائر وقطر تشتركان مع “توتال” في صفقتها في الحوض، وفي موقف غريب مبادرة البرلمان الموريتاني إلى مناقشة مستفيضة سنة 2008 لمسألة تصدير النفط من شمال البلاد عبر ميناء انواذيبو.
تجدد الحلم الموريتاني بدخول عالم النفط من بابه الواسع مع “حوض تاودني” تعامل معه المواطنون هذه المرة بحذر شديد أو تجاهل على الأصح بعد خيبة الأمل من حقل “شنقيط النفطي” غربي البلاد والذي جاء دون التوقعات رغم تأكيد الخبراء على وجود نفس الكمية الاحتياطية التي تضمنتها الدراسات الأولية.
ما يتردد هنا في كواليس المال والسياسة أن الفرنسيين استحوذوا على “النفط الموريتاني” حتى وهو لا يزال حبيس التكهنات وتوقعات المهندسين والمنقبين فضلا عن “مفاجآت” باطن الأرض، بينما ترك المستعمرون الأول جنوب البلاد مع توقعات استكشاف أقل أهمية لآسيا (الصين وماليزيا)، حيث ينقب الصينيون عن النفط في البر في منطقة “كرمسين”، (150 كلم جنوب نواكشوط)، فيما تسعى “بتروناس” لاستغلال 6 حقول مكتشفة في الساحل ويستغل أحدها حاليا لتصدير 10 آلاف برميل من النفط يوميا.
وقد علمت “الخليج” من مصادرها الخاصة أن السلطات الموريتانية تعتزم بناء قاعدة عسكرية ضخمة شمال البلاد لحماية نفط “تاودني” في حال أسفر الحفر التجريبي للآبار عن نتائج مهمة. ومعنى “قاعدة عسكرية ضخمة” في مفهوم المصادر تجهيز المنطقة لاستقبال قوات أجنبية في حالة الضرورة، خاصة وأن “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” أظهر قدرته على الوصول للمنطقة بعد عملتي “الغلاوية”، و”تورين”، قبل سنة من الآن.
صانع القرار السياسي في موريتانيا أو “القائم” عليه على الأصح سيجد نفسه في وضع آخر بعد أشهر أو سنوات حين يبدأ استخراج النفط من حدوده مع الجزائر وجمهورية مالي. وإذا صح ذلك فإن فالجنرال عزيز الذي قاد أكثر “انقلاب ديمقراطي” شعبية في العالم العربي سنة ،2005 قد يكون تم تحضيره لقيادة “تجربة نفطية” هذه المرة أكثر منها تجربة ديمقراطية.
علينا أن نلاحظ هنا أن الفرنسيين حصلوا على حق الترخيص عن نفط “تاودني” وبعد أشهر فقط من ذلك قاد الجنرال عزيز انقلاب 3 أغسطس/آب ،2005 ومع إعلان “توتال” سنة 2008 عن اكتمال عمليات التنقيب الجيوفيزيائي، قاد الجنرال نفسه انقلاب 6 أغسطس ،2008 وجاء إعلان الفرنسيين عن بدء الحفر بعيد تنصيب الرئيس عزيز رئيسا منتخبا للبلاد.
هذا الأسبوع قال أحد الفرنسيين لمضيفه الموريتاني “إن فرنسياً هو الذي فك شيفرة الحروف الهيروغليفية، وكان ذلك عظيما لمصر والتاريخ، وإن فرنسيا آخر سيفك شيفرة تاودني”.
“سراب” وخيال هذا النفط الموعود أم حقيقة، وحدها الأيام ستجيب على هذا السؤال، فإما أن تطلق الحفارات الفرنسية “المارد” من قبره، أو تحفر عميقا لحلم طالما راود الموريتانيين وهو أن يكون عدد براميلهم النفطية أكثر من عدد شعرائهم المليون.
يقول سياسي موريتاني ل”الخليج” إن السفارات الغربية بنواكشوط أرسلت لبلدانها هذا الأسبوع عشرات التقارير من المعلومات المتضاربة حول “حوض تاودني”.
الناصريون الموريتانيون وميزان الوئام
ومن السياسة المشوبة برائحة النفط، إلى ملف آخر في هذا الأسبوع السياسي الموريتاني، ويتعلق الأمر ب”الحركة الناصرية” الموريتانية ودورها فيما يجري وسيجري مستقبلا على الساحة الموريتانية سواء على مستوى “الحزب الحاكم” (الاتحاد من أجل الجمهورية) أو على مستوى المعارضة وخاصة حزب “التحالف الشعبي التقدمي” الذي يتولى رئاسة البرلمان.
قبل أن ندخل في التفاصيل نشير إلى أن الحركة الناصرية هي أول حركة ايديولوجية دخلت موريتانيا في الستينات من القرن الماضي، وقادت حركة التعريب، وقدمت الشهداء الذين سقطوا ضحية للقمع (1983)، وضمت الحركة في صفوفها خلال بعض مراحلها أكثر من 40 ألف عضو، وهو عدد كبير في بلد قليل السكان كموريتانيا، كما شكلت خلايا سرية داخل الجيش يعتقد الآن أنها هي التي تسير الجيش الموريتاني وترسم سياساته.
وفي ظل الواقع السياسي الراهن الذي أنتجته الانتخابات الرئاسية الأخيرة، حيث تشكك أهم أحزاب المعارضة في نتائج الانتخابات وتزعم أن خروقات شابتها، وفي ظل الدعوة للحوار والوئام السياسي لمواجهة الأوضاع الصعبة التي تعيشها البلاد، يتساءل الكثيرون، ومن بينهم دبلوماسيون عرب وأوروبيون، عن الدور الذي يمكن أن تلعبه الحركة الناصرية الموريتانية في صناعة الوئام الداخلي للبلاد.
منطلق هذا التساؤل هو في “سيطرة” الحركة على قطبي الصراع السياسي في موريتانيا، فمن المعروف أن الجناح الناصري الذي يقوده النائب البرلماني الخليل ولد الطيب، ورفيقه محمد الأمين ولد الناتي، يتحكم في القطب الرئيسي للمعارضة من خلال تحالفه الاستراتيجي في حزب “التحالف الشعبي التقدمي” مع مسعود ولد بلخير رئيس البرلمان.
وقد حصل مرشح الناصريين (ولد بلخير) على نسبة 16% من أصوات الناخبين في الانتخابات الرئاسية الماضية محتلا المرتبة الثانية، ما يعني أن “توجه” هذا المرشح حاسم في أي صفقة سياسية أو حوار مستقبلا.
وقد أثبت حزب التحالف الشعبي أنه حزب قوي منذ تأسيسه وتحالفه مع ولد بلخير، إذ حصل الحزب بجدارة على نسب انتخابية محترمة سواء في البرلمان أو البلديات أو الرئاسيات بفضل “المناضلين الأوفياء” من أبناء الطبقات الاجتماعية المسحوقة، وكذلك اختراق الحزب مؤخرا لقواعد اجتماعية كانت تلقائيا من نصيب أحزاب السلطة.
واللافت هنا هو الصداقة الشخصية القديمة بين النائب ولد الطيب والرئيس ولد عبد العزيز، رغم أن ولد الطيب لم يهادن انقلاب عزيز الأخير وقاد معارضة الانقلاب إلى جانب حزبه ورفاقه، ورفع شعار “مسعود حامي العروبة في موريتانيا”، وهو الموقف الذي جعل ولد الطيب يحظى بكثير من الاحترام والتقدير إذ أبقى على تحالفه السياسي في الحزب مضحيا بكل إغراءات السلطة وصداقة الرئيس.
ومع ذلك يرى بعض المحللين أن ولد الطيب ورفاقه قادرون أو على الأصح هم الأنسب لأن يكونوا حلقة وصلة بين النظام والمعارضة أو جناحها الأهم بالنسبة للنظام حاليا وهو جناح مسعود ولد بلخير.
وفي صف عزيز، وبغض النظر عن صحة ما يتردد من أن عزيز ناصري أو أنه قائد جناح الحركة في الجيش، فقد لاحظ المراقبون خلال الأسابيع الماضية أن جناح الناصريين في السلطة بدأ يحكم قبضته على الحزب الحاكم الجديد من خلال القياديين البارزين سيدي محمد ولد بونه، الملقب المدير، وناجي محمد الإمام وعدد هام من أطر الناصريين وخاصة الجيل الثاني من الحركة.
ناصريو النظام والمعارضة متفقون على الأهداف العليا (الوحدة العربية بأي ثمن من المحيط إلى الخليج)، لكنهم مختلفون في العمل السياسي داخل البلد وشبه المنطقة، وخلاف الطرفين يتركز حول رؤية الجناح الأول لدور الحركة في المعارضة وكون “الناصريين لا يصلحون للمقاعد الوثيرة ومكانهم بين الكادحين في أرض الله وفي الأحياء الشعبية”، فيما يرى الجناح الثاني “أهمية التغلغل في السلطة وتوجيهها من الداخل بدل رميها بالطوب من الخارج” والقول لأحدهم أيضا.
ولا يعرف بدقة مدى تواصل الجناحين الرئيسيين في الحركة (جناح المعارضة وجناح النظام) فذلك شأن استعصى على الجهاز الأمني خلال “سنوات المطاردة والتوثيق” فكيف به الآن وقد صار حبيس الجلسات الاجتماعية والهواتف المؤمنة من الرقابة.
ولدى استفسار “الخليج” لأحد قادة الحركة حول دورها في المساعدة على بلورة استقرار سياسي مستقبلا، رد بقوله إن “الناصريين وطنيون ويبذلون من موقعهم في أحزاب النظام والمعارضة جهودا كبيرة للتوفيق والتقارب والتشجيع على الحوار والتشاور وليسوا وحدهم في ذلك لكن أعداء الوئام لم يكونوا يوما قليلين وخاصة في بلد خرج للتو من أزمة دستورية طاحنة”.
وتوقع القيادي الذي فضل عدم كشف اسمه أن تؤدي “جهود ما تحت الطاولة” إلى “نتائج معقولة خلال السنتين القادمتين”، مذكرا بأن الأزمة الموريتانية الأخيرة تمت شخصنتها كثيرا وهو ما يجعل الأمور أكثر تعقيدا.
الأزمة الدستورية
نداء المجموعة الدولية الأخير والداعي الى الإسراع في تقديم الدعم الاقتصادي للحكومة الموريتانية باعتبار مبررات وقف المساعدات قد انتفت لعودة الشرعية للبلاد وضع حدا لشهور من الترقب طبعت المشهد السياسي في هذا البلد، فبعد أن أقر المجلس الدستوري الموريتاني واللجنة المستقلة للانتخابات مشروعية الرئيس الجديد وبعد ان تمت تزكية بيانات تلك الهيئات الدستورية من طرف المراقبين الدوليين بقيت إحدى الفقرات المهمة في مسودة اتفاق داكار بين الفرقاء الموريتانيين على مفترق طرق ، إذ اعتبر طيف من المتعاطفين مع مرشحي المعارضة الذين خسروا النزال برمتهم وفي الدور الأول أمام مرشح عنيد هو محمد ولد عبد العزيز، اعتبر هؤلاء ان خيطا شفيفا ما زال قائما ويمكن التعلق به للتشويش على هالة الانتصار التي أراد مؤيدو ولد عبد العزيز ان يسبغوها على الحياة العامة منذ إعلان النتائج، وعول هؤلاء على وجود ذلك الخيط في ثنايا المادة السابعة من نص اتفاق داكار التي تنص على استمرار الحوار بين الفرقاء ما بعد الانتخابات لتسوية الملفات العالقة.
وتعتبر المعارضة الموريتانية أن مسار الانتخابات سلك طريقا مليئا بالمفاجآت حيث أظهرت النتائج النهائية انحرافا دراماتيكيا في منحى التوقعات التي كانت تستبعد مسألة حسم النتيجة في الدور الأول بل إن بعضا من المتفائلين جدا من المعارضة توقعوا أن يتعرض مرشح الفقراء لهزيمة نكراء في الشوط الأول.. لذلك نسجوا الكثير مما يصفه أحد خصومهم ب”حكايات الجدات” عن تدخل قوى خارقة غير بشرية في إنجاح ولد عبد العزيز، ووسط هذه الحالة من انعدام الثقة توافد أعضاء مجموعة الاتصال الدولية على نواكشوط التي تفتقد النور هذه الأيام لإطلاق عمود إضاءة في قلوب الفرقاء بغية فسح المجال أمام تدفق المساعدات على هذا البلد الذي يعيش أزمة اقتصادية حادة منذ ما يقارب عاما.
البعثة الدولية التقت مختلف الأطراف واستمعت الى أطروحات المعارضة لكن كل تلك التحركات رآها المراقبون مجرد إجراءات أبروتوكولية لا ترقى إلى درجة جدية البعثة في التأثير على الحكومة الموريتانية من أجل تنازلات لصالح المعارضة الخاسرة في الانتخابات، بل إن المحللين يعتقدون أن زيارة وفد المجموعة الدولية استهدف إزالة بعض الغيوم عن التجربة الجديدة في موريتانيا لتسهيل وصول الدم الاقتصادي والاستثمارات الأجنبية إلى هذا البلد الغني بموارده الطبيعية.
ويبدو أن الرسالة المراد توجيهها من قبل المجموعة الدولية قد وصلت وهي أن ما حدث في الثامن عشر من يوليو/تموز في موريتانيا قد جب ما قبله من أحداث وأن على المنتظم الأممي أن يتعامل مع الحالة الديمقراطية التي تعرفها موريتانيا وأن يضع الماضي في سلة المهملات ويبصر المستقبل من خلال التعاون مع حكومة نواكشوط الشرعية.
إذن حصل الجنرال عزيز على “صك ائتمان” من المجموعة الدولية التي أعلنت نيتها عقد مؤتمر دولي لدعم الاقتصاد والتجربة الديمقراطية في موريتانيا. وأعلنت “ارتياحها لطي صفحة الأزمة الدستورية في موريتانيا” وفق بيانها.
لا مجال لتفسير آخر غير ذلك، مع كثرة الحواشي التي تتركها المجموعة الدولية عادة
– أنباء – المختار السالم – صحيفة الخليج