ولد عبدالعزيز يطلق عجلة الحرب على الفساد / تحليل
تتطلب الكتابة السياسية في موريتانيا استحضار خلفيتين دالتين وثابتتين؛ الأولى أن ما يكتب ب”الحياد” سيغضب الجميع، والثانية أن ما يكتب يصبح دليلاً لدى الجميع بعد أن يكون زمنه قد استنفد. ولأن لكل أسبوع سياسي في موريتانيا قصة وأبطالاً واقعيين ووهميين، فليس من السهل على أي كاتب تتبع هذا الكم القصصي السياسي في بلد يبدو أكثر تعقيداً بكثير من البساطة التي يظهر بها في عيون بعض المراقبين.
هذا الأسبوع لم يعد هنالك شك لدى الرأي العام الموريتاني في عزم الرئيس محمد ولد عبدالعزيز على محاربة الفساد والمفسدين، بعد أن أصبح أول رئيس للبلاد يتجرأ و”يجرر” أباطرة رجال المال أمام النيابة العامة في تحد واضح لكل مكامن النفوذ التقليدي في هذا البلد.
فقد هيمن موضوع استدعاء شرطة الجرائم المالية لكل من أشريف ولد عبدالله، ومحمد ولد بوعماتو، ومحمد ولد أنويقظ، وأحمد سالم ولد بونه مختار، ومحمد ولد عمارو، وعبدو محم، وإسلم ولد تاج الدين، واستجوابهم بخصوص فضيحة تحويلات مالية ضخمة جرت في أواخر عهد ولد الطايع من البنك المركزي الموريتاني إلى حسابات في البنوك المحلية.
رجال الأعمال السبعة يمثلون عصب الحياة المالية في البلد، ويملكون حزمة كبيرة من البنوك والشركات والمصانع ويشكلون القوة التجارية الأولى في موريتانيا منذ ثلاثة عقود، بعد أن تحولت ثرواتهم الضخمة إلى ثروات عابرة للأنظمة والأزمات.
تبدأ القصة باعتقال المحافظ السابق للبنك المركزي الموريتاني سيدي المختار ولد الناجي والعثور ضمن الملفات على تحويلات بمبلغ 24 مليار أوقية حولت بأمر من الرئيس الأسبق ولد الطايع سنة 2004 من البنك المركزي الموريتاني لحسابات بنكية لرجال الأعمال هؤلاء بحجة معلنة رسمياً وهي ضخ التمويلات في البنوك المحلية أما الذي لم يعلن فهو أنها محولة لصالح الأمن الداخلي والإقليمي حتى لا تخضع لرقابة البنك الدولي.
وفيما يبدو أن رجال الأعمال اختاروا حتى الآن التخطيط لتسوية داخلية بينهم وبين البنك المركزي يقوم من خلالها رجال الأعمال بتسديد مبلغ ال24 مليار أوقية للبنك المركزي ويطالبون في نفس الوقت الدولة بتسديد عشرات المليارات التي يطالبونها بها، لا يستبعد أن يتطور الملف في وقت لاحق إلى استدعاء الرئيس الأسبق ولد الطايع ضمن مسؤوليته عن العديد من ملفات الفساد ومن بينها ملف 130 مليار أوقية التي يعتقل فيها المحافظ السابق للبنك المركزي.
وبالتزامن مع ذلك بدأت الأنظار تتجه إلى ملف آخر حساس هو فتح ملف الفساد في عهد الرئيس الأسبق العقيد أعلي ولد محمد فال الذي أدار المرحلة الانتقالية الأولى (2005-2007) بعد اتهامه من قبل الرئيس ولد عبد العزيز قبل الانتخابات الماضية بالفساد ومسؤوليته عن اختفاء مبلغ 400 مليون يورو حصلت عليها البلاد وقتها من المساعدات والتمويلات.
وترددت الآن أسماء مرتبطة بذلك الملف هي سيدي محمد ولد بوبكر، رئيس وزراء ولد فال، وولد الشيخ سيديا، وزير المالية في حكمه.
وكانت العداوة السياسية بين عزيز وابن عمه ولد فال، قد بلغت أوجها خلال وبعيد الانتخابات الرئاسية الماضية.
حتى الآن يدور الصراع بين “نخبة ولد الطايع” (العسكرية والمالية) فيما يتفرج الرأي العام في انتظار نهاية لهذا الصراع، هذا من وجهة نظر المعارضة التقليدية، أما المعارضة السياسية فهي لا ترى في كل ذلك إلا تصفية حسابات ضيقة تستهدف رجال الأعمال المعارضين وخاصة رجال أعمال قبيلة “السماسيد” التي تشكل منافساً مالياً قوياً لقبيلة “أولاد باسباع” التي ينتمي لها الرئيس ولد عبدالعزيز.
هنا تكون المظاهر شيئاً والواقع شيء آخر، فالأقنعة كثيرا ما تكون أحد أبرز أعداء الحقيقة.
لكن مناصري عزيز يردون بأن الحرب على الفساد أصابت من معسكر الرئيس أكثر مما أصابت من غيره وأن “جر” محمد ولد بوعماتو، أكبر متبرع لحملة عزيز (3 مليارات أوقية)، وابن عمه، أمام شرطة الجرائم المالية وإخضاعه “لسين وجيم”، والإقالات المهينة في حق المديرين والمسؤولين الكبار الذين كانوا أوفياء للرئيس حين تخلى عنه الكثيرون في الحملة الانتخابية الماضية، لا يمكن أن يكون تصرفاً ضمن مسرحية لضرب المعارضة أو تصفية الحسابات الشخصية.
ويقول أحد كبار أنصار الرئيس إن الجميع كان ينادي بالحرب على الفساد طيلة العقود الخمسة الماضية، وأن هذه الحرب لها آلام على المعسكرين الموالي والمعارض، ولن تتم استساغتها بسهولة، ولهذا فهي ستحمل ما لا تحمل”.
ويضيف أن “على الرأي العام الآن، وبوصفه المستفيد الأول، حماية الرئيس من الحرب الإعلامية والحرق الاجتماعي الذي يتعرض له على يد تحالف مريب بين معارضين يشعرون بمرارة الخسارة الانتخابية ومفسدين متحالفين مع الشيطان ضد الإصلاح”.
يجب التذكير هنا النخبة والرأي العام في موريتانيا تعودا على مناقضة الرؤساء الموريتانيين لأقوالهم وخاصة فيما يتعلق بالحرب على الفساد، التي حولها الرؤساء السابقون إلى حرب لصالح الفساد بكل جدارة حتى بحث المواطنون الموريتانيون عن مقاييس جديدة للفساد بعد اختراقه لكل مقياس معهود.
ويتذكر البعض أنه منذ السنوات الأخيرة أصبح المواطنون الموريتانيون يقيسون فساد هذا المسؤول أو ذاك بعدد الجمال التي يملكها، ولا يعرف بالضبط سر اختيار “الجمال” بدل عدد العقارات والحسابات البنكية والودائع لدى التجار وغيرها. من هذه الزاوية يتضح مدى المفارقة بين “ناخبين كبار” كانوا يحملون الرئيس للسلطة مقابل توزيع الأموال العمومية عليهم، وتوزيع مصالح الدولة بين أتباعهم وتلامذتهم الروحيين في الإدارة. وبين رئيس جاء بدبابة إلى السلطة وعاد إليها على أكتاف الفقراء ليبدأ سلب الناخبين الكبار كل ورقة قوة كانت بحوزتهم.
والحقيقة أن القلة القليلة هي التي أيدت قرارات الرئيس ولد عبد العزيز في الحرب على الفساد، فحتى حزب “تواصل” (التيار الإسلامي) الموريتاني والمتحالف مع الحزب الحاكم شكل لجنة تحقيق في الحرب على الفساد لضمان سلامة هذه الحرب وحقيقة أبعادها.
فيما كان المصطفى ولد أعبيد الرحمن، رئيس حزب التجديد الديمقراطي (الأغلبية)، وأحد الوجوه السياسية المخضرمة، وكان قد لعب دوراً محورياً في السلطة في التسعينات، أكثر صراحة في التعبير عن مشاعر الأغلبية الحالية الساخطة سراً حين قال “إن السياسة لا تدخل الجنة”، وعنت هذه العبارة بشكل واضح أن الأغلبية لم تحصد غير الضرر من نظام ولد عبد العزيز.
فيما اعتبرت “مبادرة ضحايا ضد الفساد” أن السلطات استطاعت أن تفتح ملفات كثيرة ونوعية في وقت قياسي في إطار حربها على الفساد، التي لاقت ترحيباً شعبياً كبيراً، رغم انقسام النخبة بين مؤيد، ومشكك، وحائر لم يستطع حتى الآن أن يحسم موقفه من هذه الحرب”.
وقالت المبادرة إنه لا يجوز لأي موريتاني أن يظل يتفرج على قضية محاربة الفساد، من دون أن يتخذ منها موقفاً واضحاً وصريحاً “خاصة في هذا الوقت الحرج الذي تم فيه فتح ملفات خطيرة ومعقدة وشائكة”.
وطالبت المبادرة من المعارضة لعب دور إيجابي في محاربة الفساد بدلا من معارضة تلك الحرب، “واتخاذ مواقف سلبية منها كما تفعل المعارضة اليوم”.
واستنكرت “تلك الأصوات التي بدأت ترتفع بحسن نية أو بسوئها لتثبط من عزيمة رئيس الجمهورية، وذلك بدعوى أن هذه الحرب تصنع خصوماً للرئيس وتفكك أغلبيته أو أنها تهدد السلم الاجتماعي أو تضر بالاقتصاد الوطني”.
مخططا “النار” و”النار الهادئة”
من الواضح وجود مخططين شرع في أحدهما وهو “مخطط إشعال الحرائق” والآخر يجري التخطيط له على “نار هادئة”.
الأول مخطط الرئيس ولد عبد العزيز، ويقضي ب:
– تحطيم القوة التقليدية المتحكمة في جهاز الدولة، بتغيير أنماط التسيير والمحاسبة، والمفردات هنا هي “التفتيش، الاستجواب، الاعتقال، التسديد أو السجن، وتلويث السمعة”.
– تحويل الأموال الضخمة التي كانت تذهب جراء الفساد لصالح مشاريع تنموية عمومية قادرة على جذب الناخبين وإرضاء الأغلبية المسحوقة تكريساً لصفة “رئيس الفقراء”.
– إحداث نقلة نوعية في مفهوم الدولة على أرض الواقع، وترسيخ صفة رجل الدولة.
– تحصين النظام ضد الانقلابات العسكرية، وقد بدأ تفريغ العاصمة نواكشوط من القواعد العسكرية وإرسالها للولايات الداخلية، والإبقاء على قوات الحرس الرئاسي الذي يعتبر عزيز “الأب الروحي” له، ويمثل نخبة الجيش.
– ضمن سياسة تجديد النخبة، بناء أغلبية جديدة هدفها تعميم المشاريع التنموية وتغيير الواقع السيئ للمواطنين، وتحقيق نقلة تنموية.
– استغلال ثروات البلد النفطية والمعدنية والسمكية بشكل يجعل موريتانيا قبلة للاستثمار، ويمكن البلد من دور محوري في الأمن الإقليمي.
أما المخطط الثاني فتتبناه قوى المعارضة وتحالف رجال الأعمال المهمشين وبعض ضباط الجيش والأمن السابقين وزعماء القبائل، ومدعوم هذا التحالف بقوة وبسرية من قيادات في الأغلبية. ويقضي بنقطة واحدة هي:
1- الإطاحة بالجنرال عزيز بأي طريقة ممكنة لا تحدث حرباً أهلية وتخرج الأمور عن السيطرة.
إن الرئيس الموريتاني الجنرال عزيز بدأ بالفعل عملية “التغيير الشامل”، وهو تغيير “أبيض” من وجهة نظر أنصاره، ونقطة تحول سوداء من وجهة نظر معارضيه والمتضررين من نظامه.
وفي مدى متوسط يتوقع أغلب المراقبين أن تتخذ البلاد مساراً جديداً تماماً عن المسارات التي ألفتها طيلة الخمسين سنة الماضية على استقلالها.
أما الخلاصة التي ينتهي لها المراقب السياسي لهذا الأسبوع فهي أن عزيز في مجال الصراع على السلطة “كسر الباب المفتوح”، وأن المعارضة تشعر بأن رحيل الرجل عن الحكم مستحيل دون انقلاب عسكري أشبه بالمستحيل.
يوحي الجو هنا بتدشين فصل جديد من الأزمة السياسية في موريتانيا، فصل تدور أحداثه بين جنرال بارع في “لعبة كسر التقاليد” ونخبة خبيرة ب”دهاليز المسرح الصامت” وتعرف جيداً متى “تفتح معلبات النار”.
مختار السالم – الخليج