مقالات

موريتانيا 2009: انحدار الدرجة ناتج عن غياب العدالة وتهميش القانون /المحامي محمد سيدي ولد عبد الرحمن

انحدار درجة موريتانيا في سنة 2009
لا يخفى على المتتبع لما يجري في عالم اليوم أن الدول في سباق متواصل تلعب فيه المنظمات دور الحكم وتنشر نتائج المسابقات غالبا مع نهاية كل سنة، كما تعلن الهيئات التعليمية نتائج منتسبيها. واعتبارا لعدم اطلاع أغلب الموريتانيين على الرتبة المتدنية التي يحتلها البلد عبر العالم في ميادين المنافسة المفتوحة ولأهمية الإطلاع على رسوب بلدنا المتكرر وما يمكن أن يسهم به هذا الإطلاع من تحفيز المواطنين على العمل من أجل إحراز نتائج أفضل، ارتأيت أن أكتب هذا المبحث الذي لا مناص من أن يسلك سبيلا مختلفا عن شرعة وسائل الإعلام الرسمية وما تلهج به غالبا من دعاية لا تخلو من تضليل1.

لا يملك المواطن الموريتاني السوي إلا أن يستاء عندما يطالع الدرجة المنحدرة لبلاده في آخر تقارير المنظمات الدولية فبالرجوع لدليل التنمية البشرية لسنة 2009 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي نجد أن بلادنا احتلت الرتبة 137 دوليا2 وربما تحول الإستياء إلى إحباط عندما نتطلع إلى توقعات المستقبل وخاصة نتائج البنك الدولي الذي حشر موريتانيا في الرتبة 166 من أصل 183 بلدا عبر العالم، من حيث قياس تنظيم الأعمال التجارية وملاءمة ظروف إنجازها في سنة 2010 3، ولأن الموريتانيين مولعون بالمقارنة والفيش مع الجيران4 يسوغ أن نورد هنا بأن بلادنا جاءت، بحسب نتائج نشرة مؤسسة التمويل الدولية، متخلفة عن جميع الدول العربية والمجاورة5.

أما دليل تحصيل الرشوة الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية6 سنويا فقد احتلت موريتانيا في نسخته الأخيرة، المعلنة يوم 17 نوفمبر 2009، الرتبة 130 عالميا بمعدل 2,5 من 10 متخلفة أيضا عن مستواها في السنة الماضية7 وعن كل الدول التي تشكل جوارها المباشر8 وبحسب تقارير هذه المنظمة للسنوات الأخيرة فإن البلاد تصنف ضمن الدول الأكثر فسادا على الصعيد الدولي9 كما أن وتيرة الفساد فيها في تصاعد10.

حتى نتائج حرية التعبير التي حصدت فيها موريتانيا علامات جيدة في سنة 2007 عندما تقدمت إلى الرتبة 50، بحسب ترتيب منظمة مراسلون بلا حدود، لم يقدر لها أن تستمر وتقهقرت الدولة في سنة 2009 إلى الرتبة 100 11.

وبينما كنت بصدد كتابة هذا المقال وبقصد التثبت من بعض المعلومات، رجعت إلى أرشيف الوكالة الموريتانية للأنباء المتاح على موقعها الإنترنت ( www.ani.mr ) فوجدت أن الأرشيف طمس ولم يعد متاحا إلا ابتداءا من 6 أغشت 2008 (تاريخ الإنقلاب)، كما طالعت خبر الإحالة الوشيكة لمشروع قانون يتضمن انتهاك بعض الحريات الأساسية والحرمات عندما يتعلق الأمر بتهمة الإرهاب.. لكأن السلطة التنفيذية لم تكتف بتضييق الحريات في الواقع فأرادت تضييق هامش الحريات الذي تتيحه نصوص قانون نظري مثير للشفقة على حد تعبير النائبة البرلمانية المعلومة بنت بلال، مما ينذر بتدن متواصل في مستوى الشفافية وانحدار مستمر في درجات موريتانيا.

عموما يمكن أن نستنبط من هذه التقارير الدولية والملاحظات الميدانية أن درجة موريتانيا في انحدار وأن وضعها يسوء باستمرار حتى لكأن تقارير المنظمات تنادينا بلسان فصيح قائلة: أيها الموريتانيون ما لكم في كل عام ترذلون ؟

***
العلة: غياب العدالة

لا مراء في أن غياب العدالة يعتبر من الأسباب الرئيسية لتخلف الدولة الموريتانية وبينما تعكف المنظمات الدولية على نظر معايير لتكون أسسا لتقويم أداء الأنظمة القضائية عبر العالم وبعد أن اعتمد الخبراء الدوليون قواعد بنغالور12 لتكون مرجعا لأخلاقيات القضاة على الصعيد الدولي، وأقر مؤتمر القاهرة مبادئ ومعايير القضاء الصالح كما وضعها المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة13 وفي خضم التنافس القضائي الدولي الإيجابي، لا يجوز أن تستمر الدولة الموريتانية في تعهد ورعاية نظام قضائي متخلف وجائر باعتراف الجهات الرسمية وغير الرسمية14.

لقد تغير وضع ساكنة بلاد السيبة إلى “الأسيب” فبعد أن كان آباؤنا ينعمون بأمن وعدل جعلهم يتركون أمتعتهم المتواضعة في قعر فيفاء ويخلون سبيل حيواناتهم، دون أن ينالها مكروه15، وعند التنازع يلجؤون إلى قاض أقرب للحكم (بنصب الحاء والكاف) يفترش الحصى ويسند ظهره إلى جذع شجرة ولا يعتمد على سلطان أو قوة16، أضحى منا اليوم بعد أن تحضرنا من يسطو على كل غريب تسول له نفسه الإستثمار أو الإستقرار في ربوعنا وأصبح منا رائشون يمتهنون انتزاع أموال الناس بالباطل والإدلاء بها إلى الحكام17.

لست أدري متى بدأ التردي في الأداء القضائي الموريتاني وفي نفسي شيء من بيتين للسالك بن باب العلوي وردا في كتاب الوسيط18 ولا بد أنهما كتبا منذ ما يزيد على القرن19:

قضاة العصر طرا جائرونا وعن نهج الحقيقة مائلونا

تراهم كـاتبين لمن أتـاهم ولم يخشوا كراما كاتبينا

الشعور العام يا قضاة موريتانيا هو أنه برغم تغير السلطة السياسية والتحسن النسبي جدا في أوضاع المؤسسات الدستورية بالبلد لا نكاد نلمس تطورا في أداء القضاء فالمآخذ التي كتبت منذ أكثر من عشر سنوات تبدو وكأنها كتبت البارحة ومؤخرا قرأت لأحد الحقوقيين “وغني عن القول إن عدالتنا على ما هي عليه من ضعف في البنية القانونية وانحياز أو محاباة للسلطة وانتشار للرشوة والمحسوبية ومتاجرة بالأحكام القضائية، لا يمكن التعويل عليها لا لإقامة العدل بين الناس ولا، من باب أحرى، للمساهمة بالإنتقال بموريتانيا نحو دولة الحق والقانون”20.

إن جهود الإصلاح القضائي المنتهجة في موريتانيا في السنوات الماضية، والتي سكتت بحيث لا نحسها الآن ولا نكاد نسمع لها ركزا، كانت قصيرة النفس، متقطعة وغير مدروسة وقرارات القضاء هنا تبقى في أغلبها أقرب للتسويات منها إلى الإستنباطات المحكومة بقواعد وضوابط علمية.. لا يزال متابع عمل القضاء مهما بلغ، كما كان منذ أكثر من عشر سنوات، عاجزا عن أن يتنبأ بثقة بتعامل معين مع ملف من الملفات المعروضة على المحاكم الموريتانية اللهم إلا إذا كان الحاكم من ورائه.

إن الخطب جلل ولم يعد من المقبول أن تستمر الغفلة واللامبالاة بل يتعين أن يفكر الموريتانيون بجد وسرعة في الطرق الكفيلة بإخراج جهازهم القضائي من مستنقع الجهل والتبعية ويباشروا إجراءات ملموسة للإرتقاء به إلى فضاء الحياد والفعالية، ينبغي أن يبادر الحكام والمحكومون إلى اتخاذ إجراءات ملموسة، وكما يقول شكيب قرطباوي “.. إن الحرص على القضاء كمؤسسة لا يجوز أن يذهب بنا إلى حد التكاذب ومحاولة إخفاء العيوب من خلال جعل القضاء كامرأة قيصر فالمشكلات موجودة والتستر عليها من دون محاولة إيجاد الحلول لها يفاقمها. ومن هذا المنطلق أعتقد أن المشكلات التي تواجه عمل القضاء، وأزمة الثقة القائمة بينه وبين المواطنين، قد زادت على مر السنين لأنه لم يجر التصدي لهذه المشكلة..”21.

وكما يقول القاضي المستنير غي كانيفي، الرئيس الأول لمحكمة النقض الفرنسية: “انقضى العهد الذي كان يفترض فيه أن سلطة ومصداقية القضاء تقوم على السكوت عن الأخطاء المرتكبة من قبل القضاة والتغطية عليهم بأسطورة القاضي الذي لا يجوز المساس به فثقافة السكوت لم تعد مقبولة من المجتمع وبالعكس فإن سلطة القضاء وثقة المتقاضي تستندان اليوم، أكثر من أي وقت مضى، على شفافية الإجراءات، وعلى الأحكام التأديبية التي تتيح لكل مواطن التأكد من أن الأخطاء المكتشفة تعاقب فعلا بما يناسبها”22.

***

محاربة الفساد المنحرفة

ترفع السلطات الموريتانية هذه الأيام شعار محاربة الفساد ولكنها بدلا من السعي لتحقيق ذلك الهدف عن طريق انتهاج الإصلاح القضائي وتفعيل نصوص القانون المعمول بها والتي تعتبر “التعبير الأعلى عن إرادة المجتمع ويجب أن يخضع لها الجميع”23 بدلا من ذلك تقتصر الدولة الموريتانية على الدعاية السطحية للأخلاق في تراجع غير مبرر عن السعي إلى تكريس دولة القانون، وربما بدافع القناعة بعدم فعالية الجهاز القضائي تسعى الدولة خطأ إلى تهميش النظام القضائي أو تسخيره لدعم توجهات السلطة التنفيذية.

لقد استاء الحقوقيون مما تضمنته رسالة وزير العدل رقم 36/2008 بتاريخ 26 أكتوبر 2008، والمسجلة ضمن البريد الوارد على المدعي العام لدى المحكمة العليا تحت رقم 1404 بتاريخ 26/10/2008 المتعلقة بإحالة ملف الخطوط الجوية الموريتانية ومن ضمن الملف المحال وثيقة مريبة تحمل نفس رقم الورود وتفصل إجراءات كيدية طلبت السلطات آنذاك من النيابة والقضاء مباشرتها ضد السيدين يحي ولد أحمد الوقف وسيدي محمد ولد بيه (مع تبيان أن سبب متابعتهما كونهما خصمان سياسيان)، وكان من توصيات الورقة الحكومية ضرورة التصرف بطريقة تبعد شبهة تسخير العدالة عن قادة الإنقلاب دون اعتبار لنزاهة رجال القضاء.

ورأينا لاحقا أنه لم يقدر للقضاة أن يخيبوا ظن السلطة التنفيذية، وكانت الموبقة القضائية عندما رفضت السلطات إنفاذ قرار الغرفة الجزائية بالمحكمة العليا رقم 100/09 الصادر بتاريخ 18/05/2009، القاضي بتخفيض الكفالة المطلوبة كشرط لمنح الحرية المؤقتة لأربعة من المتهمين فيما بات يعرف بملف الخطوط الجوية الموريتانية وأصرت النيابة العامة على ترجيح قرار قاضي التحقيق بالديوان الثالث بمحكمة ولاية انواكشوط على قرار المحكمة العليا في الجمهورية الإسلامية الموريتانية. وهو الحدث الذي علق عليه الأستاذ ابراهيم ولد أبتي مستنكرا : “وما دامت الهيئة العليا في الهرم القضائي الموريتاني قد منحت الحرية المؤقتة بواسطة قرار غير قابل لأي وجه من أوجه الطعن وما دامت النيابة العامة ترفض تنفيذ هذا القرار وهي ملزمة بتنفيذه وتنفيذ القرارات القضائية فأين الملجأ ؟ هل نحن في دولة تعمها الفوضى أو السيبة ؟ أم أن ما يحكم الدولة اليوم هو قانون الغاب ؟ أم أن موريتانيا أصبحت إقليما بدون قانون ؟ ” 24.

وفيما يتعلق بخطر تدخل السلطة التنفيذية في عمل القضاء يقول الأستاذ/ اليسع ولد اسويد أحمد إنه عندما تطلب الدولة من القاضي أن ينطق بما يتماشى مع سياستها وينفذ إرادتها في القضايا التي تعتبرها أساسية بالنسبة لها فلن يكون من المجدي، بعد ذلك، أن تحاول (الدولة) صد القاضي عن السعي إلى تحقيق مآربه الخاصة في الملفات التي لا تتدخل فيها السلطة التنفيذية25.

وكما يقول السيد سليم الحص، الذي يعتبر أحد قادة محاربة الفساد في الوطن العربي اليوم، فإن “أول مقتضيات مكافحة الفساد هو التزام الفصل بين السلطات، وبخاصة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والذي من دونه فعلا تتعطل آليات المساءلة والمحاسبة في الدولة”26.

إن من واجب حكام موريتانيا أن يطلعوا على وضع القضاء في بلادهم وأن يتغلبوا على الإنطباع الذي عبر عنه رئيس الجمهورية السابق السيد سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله من أنه يرى القضاء بيت عنكبوت متشابك لا يعرف من أين يلجه27 كما أن من واجبهم احترام المؤسسة القضائية والقناعة بأهميتها في بناء دولة القانون واستحالة الإستغناء عنها بإنفاذ ما أفصح عنه رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز لمجلس الهيئة الوطنية للمحامين من إمكانية مبادرته بإغلاق القضاء28. وكما قال الأستاذ/ أحمد سالم ولد بوحبيني، نقيب الهيئة الوطنية للمحامين للسيد محمد ولد عبد العزيز حينها فإن من الضروري أن يكون القضاء مستقلا عنكم لأن من مهامه حماية المتقاضين منك يا سيادة الرئيس29.

***

الإلتفات عن الحق وتهميش القانون

وتعزيزا لما تقدم ذكره من عراقيل الإصلاح أضرب مثلا بتعامل السلطة مع الهيئة الوطنية للمحامين ففي مطلع سنة 2002 حاول مجلس الهيئة إنجاز تقويم حر لمستويات القضاة في العاصمتين انواكشوط وانواذيبو بقياس مدى كفاءتهم العلمية واستقامتهم الخلقية عن طريق استمارات طلب من بعض المحامين الإجابة على أسئلتها.. ولكن هذه الفكرة الحضارية تسربت ووصلت إلى علم بعض النافذين في الجهاز القضائي فآنس فيها خطرا وشرا مستطيرا وتجاوزا كبيرا وأطلق حملة مضادة لها.. وسرعان ما تعرض نقيب الهيئة الوطنية للمحامين آنذاك الأستاذ/ محفوظ ولد بتاح لتهديد ووعيد النيابة العامة واضطر مجلس الهيئة إلى التنازل عن فكرته الحضارية الرائدة معلقا بأنه “اتضح وجود لبس في فهم دلالات هذه المبادرة ومغازيها لدى الجهاز القضائي” فضل مجلس الهيئة أن يتراجع حتى لا يلقى جزاء سلطات مشرعة السجون.

وفي النهاية لم يسلم نقيب الهيئة الوطنية للمحامين من كيد سلطة انبرت للحد من سطوة الهيئة وجرأتها التي تجسدت في محاولة لعب دور في إصلاح القضاء والدولة.. فبدت للحاكم وبطانته متمردة وقلعة حصينة من قلاع الرفض والمعارضة.. جندت السلطة طاقاتها فلما تبينت فشل توجهها في احتواء نقابة المحامين، بطريقة مقبولة في الظاهر، عمدت إلى التلاعب المكشوف بانتخاباتهم واعتماد مجلس خاص للهيئة الوطنية للمحامين30 لم يحظ بإعتراف الدفاع فانحاز للنيابة.. ولما رفض النقيب الشرعي – كما حسبته آنذاك، الأستاذ/ محفوظ ولد بتاح31 – الإستسلام أصدر مجلس الموالاة قراره غيابيا بمنعه من ممارسة مهنة المحاماة لمدة ثلاث سنوات بتاريخ 07/07/2003 32 وغض المدعي العام لدى المحكمة العليا الطرف عن أجل الطعن في القرار الغيابي المحدد بشهر من تاريخ التبليغ33 وأصدر تعميما سريعا بإنفاذ إرادة خصوم النقيب محفوظ ولد بتاح بمنعه من مزاولة مهنة المحاماة بتاريخ 20/07/2003 34 وحظر عليه دخول قصر العدالة، فلم يدخل الرجل القصر إلا بعد انقلاب 3 أغسطس 2005 عندما عين وزيرا للعدل في حكومة المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية.. وهو الحدث الذي علق عليه الأستاذ/ محمدن ولد إشدو بالقول: “ومن الغريب أن من فتحه (قصر العدالة) بأمر، كان قد أغلق في وجهه سنوات بأمر”35.. وأضحى المدعي العام لدى المحكمة العليا 36، الذي أوصى القضاة الجالسين وأمر قضاة النيابة بمنع الأستاذ/ محفوظ ولد بتاح من مزاولة مهنة المحاماة، دون وجه حق، تابعا للممنوع بقوة القانون.

واليوم يبدو وكأن التاريخ يعيد نفسه فعندما أراد الأستاذ/ أحمد سالم ولد بوحبيني، نقيب الهيئة الوطنية للمحامين، في هذه السنة، بذل جهد في خدمة دولة القانون بإصدار تقارير فصلية عن أوضاع القضاء37 والتجاوزات تصدت له النيابة العامة38 لثنيه عن المساهمة في تكريس دولة القانون والحريات في هذه البلاد..

تأكيدا لم تستوعب السلطات الحاكمة في موريتانيا بعد ما عبر عنه أحد المحامين العرب عندما كتب: “ورغم أن مجموع المحامين لا يشكلون حزبا سياسيا كباقي الأحزاب، ولكن اندفاعهم وحماستهم لمبدأ سيادة القانون يجعلهم قوة فعالة يمكن أن تفيد أصحاب القرار، فهم من أوائل من يكتشف الخلل التشريعي في القوانين من حيث الصياغة والمحتوى ومدى التعارض مع القوانين الأخرى النافذة أو الدستور، وهم من أوائل من يكتشف مدى الخطأ الذي يرتكبه المسؤول صاحب القرار، فيوضحون جانب الخطأ في التطبيق. فإذا ما استغل صاحب القرار هذه الميزة ولم يأخذها على أنها معارضة أصلح ما أخطأ في تطبيقه أو تنفيذه، وعاد إلى أحكام النظام المتجاوز عليه فيزيده ذلك منعة من الخطأ ويقوى ارتباط المواطن بصاحب القرار، ويعم النظام وسيادة القانون، وهو أمر هام للحاكم والمحكوم معا.”39

***

وجملة القول

إن رئيس الجمهورية في النظام الدستوري الموريتاني هو ضامن استقلال القضاء ويجب عليه بالتالي أن يعمل على تكريس استقلاله ليوفر الضمانات الحقيقية للتنمية ويحارب الفساد يفعالية ف”القضاء الصالح هو نقطة العبور نحو تفعيل مختلف الحقوق .. التي تقرها المواثيق الدولية والدساتير والقوانين، والتي يفترض ضمانها للجميع بدون تمييز. من دون القضاء الصالح، لا يمكن احترام حقوق الإنسان ولا محاسبة السلطة التنفيذية ومراقبتها ولا إقامة الإنتخابات الحرة والنزيهة ولا تطوير المجتمع المدني والإعلام. من دون القضاء الصالح يسقط ركن من أركان العقد الإجتماعي الذي ارتضى بموجبه الناس أن يكون القضاء هو الحكم والوسيلة لفصل المنازعات فيما بينهم”40.

وكما يقول القاضي التنزاني موالوسانيا فإن “حكم القانون يعني أكثر من تصرف يتم وفق القانون. فهو يعني كذلك عدالة الحكومة، ويجب أن يمتد إلى وجوب تفحص المثال، وألا يعطي الحكومة سلطات مبالغا فيها. يحتم حكم القانون خضوع الحكومة للقانون لا خضوع القانون للحكومة”41.

ولا توجد طريق لمحاربة الفساد لا تمر بإصلاح القضاء الذي لا يتأتى إلا بتوفر إرادة سياسية قوية ومؤمنة بأهمية الإصلاح الذي لا يتحقق إلا بجمع من الخبراء الوطنيين النزهاء لوضع تصور السبل الكفيلة بالخروج بالقضاء من نفق الجهل والتبعية إلى فضاء الحياد والفعالية.

وإذا كانت محاولات الإصلاح السابقة قد تركزت على النصوص فإن من المفيد الإلتفات الآن إلى العنصر البشري مما يقتضي إبعاد كل قاض لا تتوفر فيه شروط الكفاءة والنزاهة، ولو تطلب الأمر استغناء المجتمع عن خدمات ثلثي القضاة والإبقاء على ثلث كفيل برفع مستوى العدالة في هذه البلاد الفقيرة للعدل أكثر من حاجتها للمال، ومن المفيد قبل ذلك أن لا يفقد المجتمع ذاكرته وأن يتحمل كل قاض مسؤوليته.

الإحـــالات

1. أورد محمد بابا ولد أشفغ في كتابه الجزيرة وأسرارها، الطبعة الأولى، مطبعة بني ازناسن – سلا- المملكة المغربية، سنة 2006، في ص 9، ما نصه: (.. فإن الإذاعات والتلفزيونات العربية كانت وسائل دعائية تروج لسياسات الأنظمة الحاكمة وتلمع قراراتها وتهاجم معارضيها بشكل فج وتتجاهل الرأي الآخر بعمد وإصرار..)

تحتل موريتانيا الرتبة 137 دوليا بحسب دليل التنمية البشرية (Human Developpement Reports) لسنة 2009 الذي يصدر سنويا عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (United Nations Developpement Programme) ، راجع موقع برنا مج إدارة الحكم في الدول العربية على الرابط التالي: www.pogar.org
مؤسسة التمويل الدولية (International Finance Corporation) هي أحد أعضاء مجموعة البنك الدولي وتصدر نشرة سنوية تقيس درجة تنظيم وتحفيز الأعمال التجارية عبر العالم تعرف ب (Doing Business) وقد صنفت المؤسسة موريتانيا في نشرتها لسنة 2010، في الرتبة 166 عالميا، راجع الموقع الإلكتروني للبنك الدولي: www.worldbank.org أو موقع النشرة الخاص: www.doingbusiness.org
أورد، محمد محمود ولد ودادي في كتابه الوزير تجربة وزير مدني في حكم عسكري 1985 – 1987، الطبعة الأولى الدار العربية للموسوعات في بيروت سنة 2008، ص 179، ما نصه: (.. وهناك نشوة اليوم لدى بعض أركان النظام، عند المقارنة مع الجيران، بالإدعاء بأن الوضع الموريتاني أحسن، مستشهدين بالحالة الإقتصادية التي يعتبرونها أحسن من الدول المجاورة، مرددين قولتهم المشهورة “إن أسواقنا مليئة بالبضائع الأجنبية، وشوارعنا مزدحمة بالسيارات” موحين بأن الموريتانيين مكتفون بذلك عن الحرية والديمقراطية..).
أورد تقرير ممارسة أنشطة الأعمال لسنة 2010، الصادر عن مشروع (Doing Business)، المذكور في الإحالة 3 أعلاه، موريتانيا بعد كل الدول العربية وسبقتها جيبوتي في الرتبة 163 وجزر القمر في الرتبة 162، كما جاءت بعد كل دول الجوار التي احتلت الرتب التالية: المغرب 128، الجزائر 136، السنغال 157 ومالي 156، راجع الموقع الإلكتروني: www.doingbusiness.org
دليل تحصيل الرشوة (Indice de Perception de la Corruption) الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية (Transparency International) ينقط الدول تدرجيا من 0 عندما تعم ظاهرة الرشوة إلى 10 عندما تخلو من هذه الظاهرة، وتجدر الإشارة إلى أن المقال أصلا اعتمد تقرير سنة 2007 إلا أن نشر تقرير سنة 2008 جعلني أعتمده في هذا الكتاب باعتباره الأحدث.
رتبة موريتانيا على دليل تحصيل الرشوة لسنة 2008 كانت 115 عالميا بمعدل 2،8 من 10.
نتائج دول الجوار حسب التسلسل هي: المملكة المغربية في الرتبة 89 بمعدل 3،3 ، تلاها السنغال في الرتبة 99 بمعدل 3 ، ثم الجزائر ومالي في الرتبة 111 بمعدل 2،8 وأخيرا موريتانيا في الرتبة 130 بمعدل 2،5 من 10.
وهي بحسب قواعد منظمة الشفافية الدولية التي تحصل على أقل من 3 من 10.
رتبة موريتانيا على دليل تحصيل الرشوة في سنة 2007 كانت 123 بمعدل 2,6 من 10.
في سنة 2008 احتلت موريتانيا الرتبة 105 عالميا، راجع موقع مراسلون بلا حدود: www.rsf.org
12. شكلت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة لجنة خبراء وضعت مدونة لأخلاقيات القضاة تعرف بمدونة بنغالور Code de Bangalore (باسم المدينة الهندية التي احتضنت أعمال مجموعة الخبراء) وأمام ملاحظات مجموعة العمل للجنة الإستشارية للقضاة الأوربيين قامت المجموعة القضائية لدعم نزاهة العدالة بمراجعة مدونتها وإقرار مبادئ بنغالور Les Principes de Bangalore حول الأخلاقيات القضائية في قصر السلام بلاهاي أيام 25 و26 نوفمبر 2002، راجع La déontologie des Magistrats، نفس المرجع السابق، ص 70.

13. Principles and Benchmarks التي أثنى عليها مؤتمر القاهرة بتاريخ 26 و27 يناير 2006، راجع موقع المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة www.arabruleoflaw.org

14. راجع تقرير اللجنة الوزارية المكلفة بالعدالة الصادر في أكتوبر 2005، الذي تضمن في الإستنتاج 66 ما نصه: “لقد بينت مشاركات الخبراء والمطلعين على القطاع مدى انتشار الممارسات المخلة بالشرف في قطاع العدالة. ويذهب البعض حتى إلى اعتبار القطاع من أكثر القطاعات تعرضا للفساد في الدولة” وتضمنت المذكرة الصادرة عن الهيئة الوطنية للمحامين في دجنبر 1994 أنه “ما من متقاض يتقدم للعدالة وهو يعتقد بأن نظامية وضعيته سيتم تقديرها انطلاقا من مرجعية القانون وحدها”.

15. يقول محمد محمود ولد ودادي في ص 184 من كتابه الوزير تجربة وزير مدني في حكم عسكري 1985- 1987، الدار العربية للموسوعات الطبعة الأولى 2008: “والمواطن الذي كان يترك أمواله في مغارة في البادية، أو على قارعة الطريق، ويغيب عنها أشهرا دون أن تلمسها يد أصبح متسكعا في المدينة يتعلم أبجديات السرقة”.

16. أحمد بن الأمين الشنقيطي، الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، مطبعة السنة المحمدية – القاهرة، الطبعة الثانية، ص 531، عند تناوله للقضاء في بلاد شنقيط حيث أورد “إن القاضي في شنقيط الأغلب فيه أن لا يكون مولى من أحد، وإنما كيفية توليه، أن يشتهر بمعرفة الأحكام، وقد يولي أحد أمراء حسان قاضيا، ويكون ملازما له. ولكن الأغلب، أن هذا لا يذهب إليه إلا في المسائل ذات الشأن، كما إذا وقع قتل لينفذ الحكم ومن أدركناه من هؤلاء الأمراء، إذا حكم في قتل لا ينفذ القصاص، بل يبقى يرتشي ويطاول التنفيذ، وربما أوعز إلى قاضيه بأن يحكم بما يهوى هو، أي الأمير..”

17. إشارة إلى الآية 188 من سورة البقرة: “ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون..”

18. أحمد بن الأمين الشنقيطي، نفس المصدر السابق، ص 531.

19. بما أن مؤلف الوسيط توفى في سنة 1913م ويفترض أن البيتين المذكورين قيلا قبل وفاته بسنوات، لذلك يسوغ أن نستنتج في سنة 2009، بأن البيتين قيلا منذ ما يربو على القرن.

20. الدكتور يعقوب ولد أحمد، مقال: أزمة العدالة… ورهانات الإصلاح، منشور على موقع الدرب www.eddarb.com بتاريخ 14/04/2006.

21. شكيب قرطباوي، في مقال له تحت عنوان هل من حلول لمشكلات القضاء؟ ويقصد قضاء بلده لبنان، منشور على الموقع الإلكترونيwww.mafhoum.com :

22. راجع الصفحة الثانية من مقدمة كتاب أخلاقيات القضاة (La déontologie des Magistrats) لمؤلفيه غي كانيفي Guy Canivet الرئيس الأول لمحكمة النقض الفرنسية وجولي جولي هيرارد Julie Joly-Hurard دكتورة في القانون، مطابع دالوز DALLOZ سنة 2004، ص 2. وإكمالا للفائدة أورد للقارئ النص كما وقفت عليه في أصله الفرنسي:

L’époque où l’on présupposait que l’autorité et le crédit de la justice reposaient sur le silence gardé à propos des fautes commises par les juges, pour maintenir, par la dissimulation, le mythe du juge irréprochable est aujourd’hui révolu. La culture du secret n’est socialement plus admise. Bien au contraire, l’autorité de la justice comme la confiance des justiciables en celle-ci sont actuellement et plus que jamais fondées sur la transparence de la procédure et de la jurisprudence disciplinaires, qui permet à tout citoyen de vérifier que les fautes révélées sont effectivement et proportionnellement sanctionnées.
23. المادة 4 من دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية.

24. الأستاذ/ ابراهيم ولد أبتي، في مقاله: نداء من أجل احترام السلطة القضائية تكريسا لمبدإ فصل السلطات، الذي أعاد فيه نشر رسالته المعنونة: الشرف والكرامة لمحاربة الإيذاء وتشويه السمعة، منشور في صفحة الرأي على موقع تقدمي www.taqadoumy.com بتاريخ 06/12/2009.

25. مقابلة خاصة مع الأستاذ/ اليسع ولد اسويد أحمد، المحامي لدى المحاكم الذي سبق وأن عمل رئيسا للمحكمة العليا، وكانت المقابلة في انواكشوط بتاريخ 08 دجنبر 2009.

26. السيد سليم الحص، رئيس الوزراء اللبناني السابق، ورئيس مجلس إدارة المنظمة العربية لمحاربة الفساد في كلمة افتتاحية لندوة تحت عنوان “المشاريع الدولية لمكافحة الفساد والدعوة للإصلاح السياسي والإقتصادي في لأقطار العربية”، المقامة في بيروت بتاريخ 7 يونيو 2006، والتي نشرت بحوثها في كتيب صدر عن المنظمة المذكورة (ردمك 5- 084- 87- 9953).

27. عبر رئيس الجمهورية السابق السيد سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله عن هذا الإنطباع أثناء استقباله لمكتب الهيئة، واليعذرني القراء فيما يتعلق بتاريخ المقابلة الذي أردت البحث عنه في أرشيف الوكالة الموريتانية للأنباء، هذا اليوم 17/12/2009، فوجدت أن الأرشيف غير مفعل (désactivé) إلا من تاريخ 6 أغسطس 2008 وهو ما ينبئ عن تدن ملحوظ ومدان في مستوى الشفافية.

28. أثناء استقباله لمكتب الهيئة الوطنية للمحامين، بتاريخ 19 أغسطس 2009، عبر محمد ولد عبد العزيز عن تصميمه إن لم يصلح القضاء على إغلاقه.

29. عبر النقيب عن هذا الإعتقاد أثناء المقابلة المذكورة في الإحالة السابقة.

30. كان المجلس الخاص للهيئة الوطنية للمحامين آنذاك برئاسة الأستاذ/ ماء العينين ولد الخليفة.

31. لقد عبرت عن هذا الموقف علنا وكتبته في مقال تحت عنوان “انتخابات المحامين في الميزان”، نشر على موقع صحراء ميديا بتاريخ 2/5/2005.

32. القرار رقم 11/2003.

33. تنص المادة 39 من القانون رقم 24/95 المنظم للهيئة الوطنية للمحامين، على ما يلي :”في حالة ما إذا كان القرار غيابيا فإن للمحامي أجل شهر إذا ما بلغ له شخصيا وأجل شهرين في كل حالات التبليغ الأخرى للطعن في القرار أمام المحكمة العليا ويتم هذا التبليغ في ظرف 10 أيام”.

34. التعميم رقم 0354/003 الصادر عن المدعي العام لدى المحكمة العليا بتاريخ 20/07/2003..

35. محمد ولد إشدو، حتى لا نركع مرة أخرى، طباعة دار الفكر ، ص 68.

36. المدعي العام لدى المحكمة العليا آنذاك هو القاضي محمد عبد الرحمن ولد عبدي.

37. أصدر الأستاذ/ أحمد سالم ولد بوحبيني، نقيب الهيئة الوطنية للمحامين تقريرين عن أوضاع العدالة، أعلن أولهما في مايو 2009، والثاني في أغشت 2009 ومن المرتقب أن يعلن النقيب تقريره الأخير لسنة 2009 هذه الأيام.

38. دأبت النيابة على إصدار بيانات ترفض فيها تقارير نقيب الهيئة الوطنية للمحامين المذكورة أعلاه وتندد بتنصيبه نفسه وصيا على عمل القضاء.

39. أسامة توفيق أبو الفضل 2004، كتاب رسالة المحاماة، طباعة دار الطليعة الجديدة- دمشق، الجزء الأول، ص 65.

40. من كتاب القضاء في الدول العربية، الصادر عن المركز العربي لحكم القانون والنزاهة والمتاح على موقعه الإلكتروني

41. القاضي التنزاني موالوسونيا في معرض فصل إحدى الدعاوى سنة 1988، المرجع كتاب حكم القانون، لمؤلفه القاضي الدكتور غالب غانم، رئيس مجلس شورى الدولة في لبنان، متاح على الموقع الإلكتروني للمركز العربي لحكم القانون والنزاهة www.arabruleoflaw.org .

انواذيبو بتاريخ 17 دجنبر 2009
الموافق فاتح محرم 1431 هجرية.

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button