بعد فك الحصار… هل يتغير اتجاه البوصلة؟؟
بقلم الدكتور : أحمد سالم بن سيد محمد
Abu_albara1974@yahoo.com
على حين فترة من التحليل السياسي وجفاف من الأقلام الناضجة – وما أقلها لدينا – يتعين الإسهام من جديد في استشراف المستقبل، فقد صمت شهرا أتابع الأحداث، وأطالع ما يُرقم هنا ويصرح به هناك، مصغيا لما يصدر عن العسكر ومن ينظِّر لهم ببرودة أعصاب وعواطف نابعة من الخلة، حاضرا في ذهنه الرهان على الخارج حينا، وغائبا عنه تاراتٍ أُخَرَ، ومنصتا للطرف الآخر من خلال أهم أنشطته “من أجل موريتانيا”
وقد تعمدت اطِّراح الأبعاد الشخصية، والابتعاد عن كل ما لا يخدم القضية الكبرى – قضيةَ الوطن والمشروع والأمة – وما سأتناوله في هذا المقال ينبغي أن يُعنى به الساسة قبل المثقفين، وهؤلاء قبل ذويهم، أما العسكر فهم آخر من يظن منهم الالتفات إليه، ولا يَعْدُ الحديث أن يكون تنبؤا، وقراءة تشتد بها الحاجة إلى التصويب، فما بدأ يرشح من تصرفات “المجلس” يشير بجلاء إلى أن الحصار آخذ في التفكك، ومنكر ذلك مكابر، فاستقبال “الغزواني” من خلية الشئون الإفريقة بفرنسا برهان ساطع على ردتهم وانتكاسة موقفهم، فبنو “ديكول” هم من كان يهدد بفرض عقوبات على الجنرالات، والفرنسيون هم قادة الاتحاد الأوروبي حاليا، وإخوة “شيراك” هم المعنيون ضمن الاتحاد بموريتانيا، ودبلوماسية “كوشنير” لم تطالب بأكثر من الإفراج عن السيد الرئيس، ومن أكثر الدلائل قوة أن ما صدر عن “عبد الله واد” لم يكن ليصدر – على افتراض صحته – إلا بمباركتهم، فولَّوْه المَهَمةَ لتكون مبادرةُ الاعتراف إقليميةً، بعد أن كانت برلمانية، ونودي بها قبل ذلك من طرف صاحب الزعامتين ( زعامة الموالاة ، وزعامة المعارضة) ومعلوم للعارفين بالخرائط (الجيو سياسية) ما تمثله جمهورية واد بالنسبة لفرنسا من جهة، وما يعنيه تخليها عن ول الشيخ عبد الله من جهة ثانية، فهي المعقل الوحيد الذي كان يُعول عليه في الدفاع عنه، حيث مشرب أبيه، ومنهل عائلته وذويه، باستثناء زوجته وبنيه، فلكل امرئ منهم هذه الأيام شأن يغنيه، ذلك أن “كولخ” هي مطبخ القرارات الهامة فى السينغال وهي بالنسبة للشيخ تمثل معراجا للصلوات، ومصعدا للحلقات، ففي أجوائها تسرح الأرواح وتتعانق الأبدان والأشباح، بل إنها المحضن الأمين، والحصن المنيع الذي كان المراقبون يعتقدون أنه يُغذي المواقفَ الفرنسية المتصاعدة يومَها، فبسقوط تلك القلعة يمكن القول إن آخر خطوط الدفاع قد تهاوى
إذا خانك الحزب الذي أنت منهم فوا عجبا إذ سالمتك المقادر
وليس من الإسفاف الإعلان أن الجبهة المعارضة للانقلاب لا تملك منظومة من العلاقات الخارجية تمكنها من تحريك الملف، فأغلب أصحابها نكرات بالخارج، محصورون في محيطهم المحلي، ولا يدخر ساكن القصر الجديد طاقة في تمزيق جبهتهم الداخلية، ومن المسلم به أن مقاومة الإغراء المالي لا يستطيعها إلا أرباب المبادئ، كما أن التخويف من الصمود في الصدود عن السلاطين، وإهمال عصا الدولة، وإغفال كيدها مصطلحات يتم تداولها في الحديث مع كل من يراد جلبه لحظيرة التأييد.
يضاف لانفتاح المستعمر على العسكر استقبال المغاربة لوزير خارجية الجنرال ومباركة أمير المؤمنين – الوصف الذي يحرص المغاربة على نعت الملك به طيلة رمضان – لخارطة طريقه، وتفيدنا المصادر الخاصة أن جماهيرية القذافي قد استقبلت بعض الوزراء نهاية الأسبوع تمهيدا للاعتراف العلني، ومن المؤكد أن الوجه الثاني للغزواني ( وزير الدفاع) سيحل ضيفا اليوم أو غدا على العاصمة القطرية، وقد سُبِق كل ذلك بمشاركة وزير العدل في المؤتمر السويسري، وهنالك مؤشرات أخَرُ كَكُفْر الغرب بالديمقراطية عند تعارضها مع مصالحه ف”ميتراه” هو الذي انقلب على ديمقراطية الجزائر، وساكنوا البيت الأبيض هم من انقلب على “نواز شريف” واحلوا محله “برويزا” ليمتنع بوش الأرعن بعد ذلك عن رفع سماعة الهاتف له بعد انتهاء صلاحيته، أما “زين العابدين” فصديقهم الحميم، وحرية التعبير بتونس وديمقراطيتها محل إعجاب من الجميع……. وغير ذلك مما يضيق المقال عن رصده.
وإن تنزلنا للصعيد الداخلي سنجد أن المعركة لا تزال متكافئة؛ فكثرة المعارضين للانقلاب يوازنها نفوذ السلطان، وتسخير إمكانات الدولة للاستمالة، وهنالك سياسة معلنة بدأت بتوزيع المواد الغذائية، وانتهت ب”ول الليلَّ” إلى الطيطان، ولا يزال حزب التكتل هو ميدان الاستقطاب، ولا زال القائم عليه محصورا لا يملك سبيلا لإكمال مناسكه في حج القصر، ولم يفْتَدِ فيتحلل ليرجع إلى الجبهة المعارضة. وقد حذره كاتب هذه السطور من عواقب ما جرى نصحا خالصا في مقال نشر بتاريخ 14/8/2008 تحت عنوان “مجرد سؤال” في موقعي “أنباء” و”ونا” ولكن “لات ساعة مندم” ولعل ابن العائلة المتأدبة نسي قول المتنبي:
ومن يجعل الضرغام للصيد بازه تصيده الضرغام فيما تصيدا
علما بأني لا أريد من خلال هذا التشخيص السريع، والقراءة الخاطفة للواقع أن أنثر الطمأنينة بردا وسلاما على أصحاب ” الخطوة التصحيحية” بقدر ما أريد أن تتبين الجبهة جزءا من الواقع لتسير وفقا لخطة واضحة المعالم، ذلك أن بعض أعضائها بدأ يرسل من وسائل إعلامه مطالبة الحكام الجدد بالبحث عن ” مخرج سلس”، مما يشي بيأس من عودة الرئيس المؤتمن، أو يوصل رسالة مفادها الاستعدادُ لتخفيض سقف المطالب.
على أن بوصلة الانقلاب مترددة بين اتجاهين لا ثالث لهما حسبما ما أداني إليه التأمل:
الاتجاه الأول: أن يتم القبول الدولي، وتتمزق الجبهة الداخلية نسبيا، فيُقامُ بإجراء استفتاء شعبي على التحول الجذري في النظام السياسي من رآسي إلى برلماني، ستكون الفرصة التارخية لأساتذة القانون الدستوري كي يطبلوا، وتسلط عليهم الأضواء، وسيقدم هذا المشروع السياسي على أنه علاج الأزمة الناجع، وبلسم الجراحات النازفة، لما يضْمنه من منع الرئيس التفردَ، وما يمنحه من صلاحيات واسعة لممثلي الشعب، ونتيجة التصويت معلومة سلفا، وبعدها سيُشكل “ول إبراهيم خليل” حزبا “جائرا” جديدا، فيتداعى الجميع للانتساب له، ويتسابق الأطر للتكليف بمهمة داخله، ثم يحل الجنرال البرلمان وفقا للأمر الدستوري، ويخطب في الشعب موجها إياه لانتخابات قد تم تعيين أفرادها وراء الكواليس وبذلك يضمن الحزب “الخليلي العزيزي” أغلبية مريحة، وعندها ينزع الجنرال بزته، لتنتخبه أغلبيتُه، وتوشحَه بحزام أشبه بأحزمة العارضات والمتسابقات على منصات الجمال، ثم يقسم اليمين الدستورية على أن لا يبدل ولا يغير رجاء منه أن تستمر الأمور في انتظار أن يقوم “الغزواني” أو “فيليكس نكري” أو “ولد بكرن” بخطوة تصحيحية جديدة.
ويرجح هذا الاتجاه أن العسكر قد أفلحوا تقريبا في إقناع النادي المسيحي بضرورة تغليب الملف الأمني، إذ لم يجدوا مدخلا لتبرير أنفسهم سواه، وهم مصممون بحكم الحوادث الماضية والقادمة على إثبات أن البلد فريسة في أيدي الشباب العُزَّل الذين هم صنيعة الاستخبارات في الجزائر وغيرها، وما جهازنا الأمني إلا مبتدئ في تلك المدرسة، وستتوالى آيات احتياج الأوروبيين في القضاء على الإرهاب من خلال قصص ومسرحيات شهرية وسيدفع الأبرياء ثمن ذلك من أنفسهم وأموالهم، وسيقود أحدهم السيارة على أن بها موادَّ تموين، وما إن تصل باب السفارة الأجنبية حتى تنفجر….. فمتى كان السائق المسكين إرهابيا؟؟؟ نعم إنه ثمن لاعتراف الشركاء والمانحين أن لا غنى عن تنقية الصحراء من القاعدة عبر الضابط وفروعه – وكم هي العلاقة وثيقة في الفقه بين القاعدة والضابط حيث يصنف جزءا لها وفرعا عنها –
غير أن الذي يعكر صفو هذا الطرح وواقعيته هو اعتراض “بعض المرتمين” في أحضان المُنْقَلِبِ من أعضاء “الغرفتين” فليست لديهم إمكانات مالية يمولون بها حملاتهم ليعودوا ثانية للبرلمان، وما فعله الجنرال من تنكر لصهره وشيبته وجاره يفقدهم الطمأنينة لوعوده.
وربما وقف العقيد ابن عم الجنرال عائقا في سبيل هذا الاتجاه حرصا منه على الأمة واستجابة مشكورة لرغبتها ورغبة الشركاء الدوليين وأطياف المجتمع البدوي في عودته للقصر من النافذة، بل ربما مثل هذا الطرح في نظره خرقا لما يُعْتقد أنه اتفاق سري كان قد أبرم بالليل ليظل الحكم السياسي بيده والعسكري بيد الأخ الأصغر قائد الحرس، ويكاد يكون من شبه الأكيد أن اعل سيدفع بالاتجاه الثاني.
الثاني: أن تنسد الآفاق، وتتضاءل الخيارات، ويصر النادي المسيحي على مواءمة أي إجراء مع الدستور ، ويستميت البرلمانيون في رفض ترشح العسكريين، ملطفين ذلك بضم القضاة لهم في أي فقرة تصدر من هذا القبيل، حينها سيتعزز جناح الجبهة المعارضة وستكون مضطرة لتحوير مطالبها استقطابا للحلفاء الجدد، مما يحتم الجلوس معهم لوضع خارطة لتسيير المرحلة الانتقالية، ومن ورائهم ستبرم الأمور وتغلَّبُ المصالح العليا للمجموعة والجهة واللوبي والشركاء والأنداد والزملاء، فيستسيغ الآمر الحالي الاستماعَ لصوت الرحم، وتنشط عنده فكرة الأمان الاقتصادي، والتحول إلى عالم الرموز، ودخول نداء الأعيان فما خاب من استشار ، فيرضى بدعم “عبد العزيز ولد الداهي” أو العقيد “اعل ولد محمد فال”، العقيدِ الذي لم تنقل عنه بنت شفة في حق جميع الإجراءات التي اتخذت حتى الآن، ولن يألوَّ أباطرةُ المال العام، ومن أثروا على حساب المساكين من عمالقة التجار جهدا في أطْره إلى هذا الاتجاه، لينفتح الباب أمام انتخابات نزيهة، شفافة، براقة، حرة، طليقة صالحة، نافعة…… يستهلك فيها مال الدولة بشراسة تبدأ من الميزانية الخيالية والأرقام الفلكية التي تخصص للجنة الانتخابات، وما يُسَهل به مقام الشهود الدوليين، ليكونوا على غرار المسرحية المصرة ( شاهد ما شاف ش حاجة).
ووفقا لهذا الطرح؛ فهل تمتلك الجبهة المعارضة أن تتماسك في رفض المشروعين معا، وتعلن مقاطعة الاستفتاء، متعقلة؛ ولو لمرة واحدة، تاركة عنها حظوظ الجاه؟
وتعقيبا على ما سبق؛ فهل تستطيع المجموعة الحية من السياسيين تعرية هذا الاتجاه والامتناع عن إضفاء الشرعية عليه بعدم المشاركة في حكومته الانتقالية وتوزيع شهادات التزكية على القائمين بتنفيذه؟
وقبل الختام هل بإمكان أصحاب المبادئ إقناع الجماهير أنهم الخاسرون في كلا الطريقين فالتحول للنظام البرلماني نذير بالترحم على مستقبل المجتمع، فأمثال هؤلاء النواب لا يصلحون لإدارة الأسر، فضلا عن تسيير الدول، والاستمرارُ في النظام الرآسي بمثل الطريقة هذه يعنى استمرار الأزمة وديمومةَ الكارثة.
بكيت على عمر فمات فسرني وجربت أقواما بكيت على عمر ي
هل للشيوعيين والقوميين والإصلاحيين أن يراجعوا هفوتهم بالاعتراف بانتخابات 2007 فهم الأعرفون بما شابها، والأدرون بما لابسها وتخللها وتغشاها أما آن لهم أن يتوبوا من خطيئتها بموقف يحفظه لهم عقلاء هذا البلد؟
وحتى تنجلي الغمة؛ يظل المتابع يرقب النقطة التي ستستقر عندها بوصلة الجبهة المعارضة للانقلاب، وأختها المؤيدة له الرافضة ترشح العسكر، وجارتهما الممانعة من ترشحهم وقت التسجيل للانتخابات فقط.