أخبار

استراتيجية استباقية لمحاربة الإرهاب

لا يرجع فشل الاستخبارات الأميركية في منع محاولة تفجير طائرة الركاب يوم أعياد الميلاد إلى هيئة بعينها، أو جهة محددة داخل مجتمع الاستخبارات الأميركي، بل يعود إلى إخفاق النظام برمته، ويبدو أن تركيز أميركا على تشديد مراقبة الحدود مع ما يرافقها من قوانين صارمة ضد المهاجرين والإفراط في الاعتماد على تكنولوجيا جمع المعلومات فشل إلى حد الآن في ضمان الأمن للبلاد، ولذا فإن التخلي عن هذه المقاربة الأمنية وتطوير استراتيجية استباقية قائمة على المبادرة وفي الوقت نفسه تعزيز عملية تبادل المعلومات على نطاق واسع وترسيخ التعاون بين الوكالات الاستخبارية المختلفة داخل الولايات المتحدة وخارجها هي وحدها ما سيجعل أميركا قادرة على إحداث التغيير المطلوب، على نحو فعال في مكافحة الإرهاب. ومن المعروف أن أي جدار مهما علا وارتفع لن يستطيع بمفرده حماية بلاد ما من الهجمات الإرهابية، لاسيما في أميركا الشمالية حيث الحدود التي تفصل الولايات المتحدة عن جيرانها، كندا والمكسيك، تظل مشرعة أمام تهريب المخدرات وتسلل أعداد كبيرة من المهاجرين مهما بذل من جهود. وبالنظر إلى هذا الواقع لا يمكن الاعتماد على مراقبة الحدود وقوانين الهجرة كصمام أمان لحماية أميركا واعتبارها جزءاً من استراتيجية فعالة لمحاربة الإرهاب، ذلك أن هذا النهج الدفاعي في مواجهة الإرهاب قديم وغير فعال، وبخاصة أمام الوجه المتغير للإرهاب والشبكات التي تدعمه عالمياً والمنشغلة حالياً بتجنيد وتدريب أفراد في الغرب خارج بلدانهم للعودة مجدداً بهدف تنفيذ العمليات الإرهابية. وأكثر من ذلك أن غياب أسلوب ناجع للمراقبة في الولايات المتحدة يضعف من قدرتها على اكتشاف الخلايا النائمة التي ربما يكون أعضاؤها متورطين في أعمال غير قانونية.

والمشكلة الأخرى التي تضعف الاستراتيجية الأميركية الحالية في مكافحة الإرهاب تتعلق بعملية جمع المعلومات من خلال الأقمار الاصطناعية والطائرات بدون طيار والتنصت وباقي الوسائل الإلكترونية المتطورة التي تستخدمها مختلف الأجهزة، بحيث يؤدي تراكم المعطيات إلى قتل المعلومات الاستخبارية وفرص الاستفادة منها. ولابد من التنبيه هنا إلى أن الخطر الإرهابي لا يستقر على شكل ثابت لتنوع مصادر قيادته وتوزعها حسب الوضع والحالة الناشئة، ولذا يتطلب تقييم الخطر الإرهابي والتعامل معه مرونة وعقلية خاصة تستطيعان قراءة السلوك وتأويله والتصرف معه تبعاً لذلك، وهو ما يحتم علينا التركيز على العمل البشري في جمع المعلومات الاستخبارية وتحليلها بدل إيكال المهمة للوسائل التقنية لأنه من الصعب قراءة الدوافع والفرص التي تتحكم في النشاط الإرهابي من خلال معطيات إلكترونية بعيدة عن مجريات الحدث ومنفصلة عن الميدان، كما أن الأقمار الاصطناعية لا تستطيع النفاذ إلى عقل الإرهابي وتحليل سلوكه. ولو كانت المعلومات التي وفرها والد الإرهابي النيجيري الذي حاول تفجير طائرة الركاب الأميركية قد تم تبادلها فوراً وتحليلها مع الوكالات الأخرى لمنُع أصلاً من ركوب الطائرة وتهديد حياة الركاب، وهو ما يقودنا إلى مشكلة أخرى يعاني منها النظام الفيدرالي في الولايات المتحدة متمثلة في نقص التنسيق بين مختلف الوكالات والأجهزة الاستخبارية، بحيث لا تصل المعلومات الميدانية إلى المسؤولين في الحكومة الفيدرالية المنوط بهم تحليلها، وقد برزت المشكلة أول ما برزت في هجمات 11 سبتمبر وهي ما زالت قائمة دون أن تُحل بشكل نهائي.

ويبدو أن مكتب مدير الاستخبارات الوطنية يواجه صعوبات في تنسيق أنشطة مختلف الوكالات التي يشرف عليها، بحيث تعيق هذه التعقيدات عملية تبادل المعلومات ليس فقط بين الأجهزة، بل أيضاً داخل الجهاز الواحد نفسه، وهو ما يؤثر سلباً على بلورة استراتيجية استباقية قائمة على المبادرة التي تحتاجها أميركا حالياً لمكافحة فعالة للنشاطات الإرهابية. ويكتسي هذا التنسيق ضرورة مُلحة بالنظر إلى طبيعة “القاعدة” بما هي تنظيم عالمي ينتشر في العديد من مناطق العالم ما يعني أن كل مركز للشرطة وكل جهاز استخبارات في العالم يتوفر على قطعة من فسيفساء المعلومات حوله، الأمر الذي يستدعي تنسيقاً مكثفاً بين جميع الأجهزة في العالم لتجميع القطع والحصول على الصورة العامة. وبدون تعاون دولي لا نستطيع الحديث عن استراتيجية فاعلة لمحاربة الإرهاب. ولأننا في فرنسا تبنينا استراتيجية قائمة على المبادرة فقد كانت النتيجة إيجابية إذ لم تتعرض فرنسا لهجوم إرهابي منذ عام 1996 وعلى طول تلك الفترة أحبطنا ما بين محاولة إلى محاولتين إرهابيتين في السنة لتبقى النقطة الأخيرة في عملية تطوير استراتيجية أميركية فعالة في مكافحة الإرهاب هي فهم الطبيعة المتغيرة للإرهاب العالمي. فكما بدأت إدارة أوباما تدرك عن حق لم تساهم حرب العراق سوى في صرف المجهود الأميركي في محاربة الإرهاب بعيداً عن معاقله الأساسية في أفغانستان وباكستان، وبحلول عام 2002 كان واضحاً أن برويز مشرف قد فقد السيطرة على الموقف، وهو ما كانت له تداعيات مباشرة على موجة الهجمات الحالية الموجهة ضد الولايات المتحدة وباكستان، وقد علمت شخصياً خلال تحقيق أجريته في عام 2003 مع أصولي أوروبي أُرسل إلى باكستان أن تنظيم “عسكر طيبة” يقوم بتدريب مجموعة من الأجانب في معسكراته بكشمير بمن فيهم مواطنون فرنسيون وأميركيون وبريطانيون بهدف إعادتهم مجدداً إلى بلدانهم لتنفيذ هجمات إرهابية.

والأمر لا يقتصر على باكستان التي تم التقليل من أهمية التحدي فيها، بل يتعداها إلى منطقتي المغرب العربي والساحل التي شهدت اتصالات بين جماعات محلية وتنظيم “القاعدة” في العراق تحت قيادة “أبو مصعب الزرقاوي”، وبعد مقتل هذا الأخير انضمت “الجماعة السلفية للدعوة والقتال” الجزائرية إلى تنظيم “القاعدة” وأصبحت فرعاً من فروعه العالمية والهدف المعلن لهذا التنظيم هو زعزعة استقرار منطقة المغرب العربي، لاسيما الجزائر، وتوسيع أنشطتها إلى الصحراء الكبرى من خلال مالي وإقامة مركز لها في موريتانيا ومنها التمدد إلى أفريقيا الغربية.

– الإتحاد

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button