مقالات

زمن الددوار/ أبوالعباس ولد برهام

كتب جورج برنارد شو في مقدمة “جان دارك” أنه توجب قتل “جان” لأن العالم لم يكن مستعدا لها. كانت الفتاة الفرنسية النحيلة قد قادت الحشود لتحرير بلدها القابع تحت سيطرة الإنجليز مدة عقود طويلة في القرن الرابع عشر. أظهرت جرأة غير مسبوقة وأمكنها تحقيق المعجزات وهزيمة الجيش الساكسوني الذي لا يقهر. عندما انتصرت وحققت حرية فرنسا المستلبة لم يصدق الغوغاء المعجزة. اتهموا القائدة الشابة بالسحر والشعوذة وأعدموها حرقا. “لم يكن العالم مستعدا لها آنئذ”. كان يجب انتظار عصر العلم و الوعي بالفن العسكري لمعرفتها حق المعرفة.

في منتصف ثمانينيات القرن الماضي في موريتانيا لم يتسنى للعالم معرفة الددوار (القاضي المعين في البيروقراطية الفارسية القديمة) لعدم نضج الزمن. في تلك الأيام الغابرة قام الددوار في صفة وكيل للجمهورية في النعمة بوضع الأصفاد في أيدي متهمَين بالقتل و رماهما كأي كبشين في مؤخر سيارة الشرطة حيث تم اقتيادهما إلى أكمة خارج المدينة. ألقي بهما أرضا وهما يرسفان في القيود. هنالك أمر بجلدهما حتى يعترفا بالتهمة الموجهة لهما. استمر الإقرار تحت التعذيب شهرا بكامله. شهر من قسوة القرون الوسطى وتقشير جلود المتهمين بعد إنضاجها بالسياط فيما الددوار السادي ينظر باستمتاع. منتهى الشر.

لاحقا، أثارت هذه البربرية أصواتا واحتجاجات قضائية عدة. تم رفع الشكاوي إلى العاصمة وتم إرسال محققين إلى بلدة الددوار حيث قدموا تقريرا تم رفعه إلى المجلس الأعلى للقضاء الذي ترأسه ولد الطايع المترأس حديثا. بعد ذالك وفي وقت لاحق تمت إقالة الددوار. كان لزاما على ولد الطايع الذي لم يشتهر بالرأفة نفي الددوار “لأن العالم لم يكن مستعدا له”.

كانت الثمانينيات وقت الإرهاصات وكانت القسوة تتطور حثيثا، وكان على الددوار الانتظار لحين اكتمال التطور. في 2008، وقت الانقلاب والظلم والشخصنة، نضج الزمان بما يكفي لعودة الغلظة. وعاد الددوار للواجهة.

**

الددوار هو السَيد: يمتلك رقاب الجميع. ولدت صفة المدعي العام لأول مرة من خلال منصب الددوار الذي اخترعه الشاه الفارسي، شابور، قائد عسكري لا يعرف الشفقة. أطلق مجموعة دادورات في الإمبراطورية وسيطر بهم على رقاب الناس. قضى على اللامركزية التي كانت مزدهرة في عهد داريوس الكبير، ملك الملوك. في المقابل قام ببث وكلاء قضائين بصلاحيات جبارة في البلاد: هدفهم متابعة كل من يزعج الملك و الزج به في السجن. ألقيت آلاف الأنفس في السجن لأن الددوار كان يمتلك وجهة نظر شخصية في الخلافات المقدمة أمامه: إما أنه كان صديقا للمشـتكي منه فقام بحبس الشاكي؛ أو أنه أراد التقرب للشاه فرفض إطلاق سراح أعداءه بعد الأمر بذالك؛ أو أنه قام بحبس شاعر معارض بدون أي أمر أو نص قضائي. ليست هذه الأمور غريبة هنا منذ عودة ددوار الثمانينات الجلف.

كان الوقت وقته. وكان هو وشاهه المتعسكر يفعلان ما يشاءان. كان زمانهما زمن تأوه المظلومين و رفع الأيدي إلى السماء بعد أن أعجزتها الأرض.

***

في موريتانيا، وذات مرة انتقالية أخرى تم القيام بإعادة تقنين القضاء بعد مآسي الألفية الشهيرة. تم استحداث منصب الددوار الذي يتأمر تسعة رهط من نواب وكيل الجمهورية، يمثل كلا منهم مقاطعة في العاصمة وينفذون توجيهات الددوار بحرفية. عندما استوى هذا الهيكل شمر كبيرهم (الددوار طبعا) بعد انقلاب “السادس” عن سواعده. إن تاريخ القضاء منذئذ هو تاريخ المزاج والحيف.

الرصيد: هنالك عشرات النعتقلين اعتباطيا بإرادة قاضي الشاه. أطلقت المحكمة في العام الماضي سراح متهم ولكن الددوار- الذي يجتمع بالشاه دوريا- اكتشف علاقة للأمر بالسياسة وأمر بإعادة سجن المحَرر. دشن مفهوم الحبس التحكمي الذي سيهتم بتطويره و تحريره في الأيام اللاحقة. استوى على العرش، ونسي في استواءه أنه قضاء واقف وليس قضاء جالسا. أعرب بعد ذلك عن عدم رضاه عن كفالة حددها القضاء الجالس و أمر برفض الإفراج على أساسها. ألم يعد قضاء جالسا هو أيضا منذ قراره المزاجي هذا؟ أليس صاحب الزمان؟

لم ينتهي طموحه عند هذا. ضغطه على القضاء -من خلال تنفيذه لإرادة الشاه- أدى إلى حبس صاحب رأي دون نص قانوني. ولكنه اغترف غرفة من الطموح السادي بحيث رفض إطلاق سراح عين الشخص بعد انتهاء محكومتيه. هنا لم يعد يهتم بتفسير أعماله. في مرحلة ما من تحولاته –التي هي في عين الوقت تحويلاته للعدالة- كان يهتم بالتبريرات، وكان وكيله يرد على المحامين (من خلال حجج واهية طبعا، ولكنها حجج على أي حال). لقد انتهت هذه المرحلة الرومنطيقية، أيها السادة. وصل القطار إلى الدرك الأخير حيث يسود الصمت إلا من تنفيذ الإرادة الظالمة غير المبررة.

****

كما هو معلوم -يا سادة يا كرام- فإن ددوارنا العزيز قد ألف كتابا من الوقائع يسمى الحبس التحكمي. إن كل البلاد هي رهينة هذا العمل الجبار. ومن المهم تقديم قراءة سريعة لتطور الأفكار هاهنا.

في البداية كان الحبس التحكمي وليد العجز البنيوي: عشرات المظلومين الذين ينتظرون محاكمة يفشلون -نتيجة هوانهم على القضاء- في إيصال ملفاتهم للتداول القضائي. في 2003 مثلا كتبنا عن “جان فالجان” الموريتاني الذي سرق دجاجة في عام الرمادة الهيدالي (باستثناء أن الأخير قطع فيه الأيدي بالفعل) وتم رميه في السجن في انتظار محاكمة؛ وظل هنالك إلى لحظة كتابتنا عنه. (ربما ما زال هنالك). يعتبر هذا النوع حبسا تحكميا. هنالك مئات السجناء، بحسب تقرير المحامين2009، من هذا النوع ينتظرون المحاكمة التي لن تأتي. وهذه الحالات قديمة ولكنها –طبعا- زادت بأكثر من الضعف في زمن الددوار وشاهه الجنرال.

الددوار طور هذه المشكلة إلى أخرى: رفض إطلاق سراح من تطلق المحكمة العليا سراحهم. لقد أراد أن يقول: ” أنا ورائكم، سأحول دون محاكمتكم، وسأحول دون إطلاق سراحكم بعد أن يُأمر بذالك. فلتبقوا في الجحيم.”

كانت حجة الددوار أن المحكمة العليا لم تحكم وفق اختصاصها وأن المحاكمة لم تنته وأنه يمكن البحث عن ملفات أخرى. تمتم بشئ كهذا أمام سلطة الشعب. ولكنه أنزل تجديدا لعقليته هذه بنهاية الحول: سجن أشخاصا بعد التقدم بشكوى ضدهم -بعد رفض البت في شكوى تقدموا بها أولا- سَجنهم مدة التحقيق ثم أطلق سراحهم فجأة دون تفسير. بعد أيام رفض إطلاق سراح متهم منتهي المحكومية. أراد توجيه هذه الرسالة: “…وأنتم الآخرون، خارج السجن -فعلا أو قانونا- يمكنني سجنكم أنى شئت وكيفما شئت. آلا ترون أني فعال لما يريد الجنرال؟”.

*****

في قضية “حنفي ولد دهاه” تم اختراع دور متناقض للقضاء الواقف. يعمل القضاء الواقف –قانونيا- على الحث على تطبيق القوانين، وحتى إن دوره ارتبط بجملته الشهيرة: “نطالب المحكمة بتطبيق القانون”. يقول القانون إنه يجب إطلاق سراح كل منتهي المحكومية فورا ودون تعقيد. اليوم يقف شيء وحيد ضد تنفيذ هذا القانون: القضاء الواقف نفسه. أصبح دوره منع تطبيق القانون بدل الحرص على تطبيقه.

لست أدري لماذا بدأت أعتقد أن كلمة الددوار هي صفة فعال من كلمة دَوار.

******

يقال أن سيدنا الددوار تاب في السنوات اللاحقة لحادثة التعذيب بالنعمة. ونحن نعلم يقينا أنه استقال في 2007 من القضاء استقالة وصفت بالمشرفة. وفي مطلع القرن ( يجب أن نقول “مطلع الألفية”، لأن الأمر يبدو بعيدا جدا) كان نصير قضايا العدل والانفتاح القضائي (شفهيا طبعا): ألقى محاضرة مزلزلة في الدعوة لاحترام الصحفيين والمعتقلين، بحيث أن الجرائد سمته في حينه “ثوري الجمهورية” بدل “مدعي الجمهورية”. اليوم تبدو هذه الحقائق التاريخية كنكت باهتة. اليوم يعرف الجميع كم تضاءلت الفروق بين المعتقلين والصحفيين في زمن الددوار. واليوم يعكس التأمل في الماضي المجيد يأسا من القدرة على الإصلاح. إنه يدك قلب الطامع للعدل والتقدم.

*******

من المهم معرفة كيف تقوم الديكتاتورية بامتصاص العادلين وتحويلهم إلى مجرد سيوف لها. إن محاكمة أيخمان لهي وثيقة مهمة في هذا المجال. كان أيخمان نصيرا لقضايا السامية قبل أن يتحول إلى أكبر قتال لأهلها. إن ايخمان لم يتخل عن إيمانه بالسامية يوما –كما قال في محاكمة القرن- ولكنه كان يعمل داخل سياق شمولي لا يتيح المجال للتعدد. كان يظن أن إجراءاته القمعية هي أمر عادل بالنسبة لما يمكن أن يصير. كان يُرحل آلاف اليهود لأنه اعتقد الأمر إنقاذا لهم من الجحيم النازي. ولكنه طور الفكرة إلى قتلهم في المخيمات لأنه اعتقد الأمر أكثر عملية لأنه يشجع الناجين منهم على الفرار من القتل. لم يكن يقتلهم: كان يحاول إنقاذهم من القتل. أيخمان طور الفكرة إلى نسخة أخيرة عندما أمر بقتل الساميين في غرف الغاز لمنعهم من الاختلاط بالآريين. كان يحافظ على نقاءهم العرقي وهويتهم وهو يفنيهم عن بكرة أبيهم.

لم يكن يقتلهم: كان يدافع عنهم. إنه يشبه تماما “ثوري الجمهورية” وجنراله الذي يسجن متهما بدون أمر قضائي لأنه يحميه “من أن يتعرض للأذى”.

من قال أن أيخمان قد أعدم؟ هه؟

********

أعتقد أن مشكلتنا أننا نفكر بتقدمية: إننا نفكر فيما يجب أن يكون بدل ما لم يجب أن يكون. نحن نستاء لأننا نفكر فيما ينبغي أن يحدث ولم يحدث، بينما الأحرى أن نفرح و نحن نفكر فيما لم يحدث (ولم يحدث).

لنتأمل في الأمر بدقة. إن هنالك في مكان ما في هذا البلد ددورا لدودا بصلاحيات خيالية: يحي ويميت و يأتي بالشمس من مشرقها ويفعل ما يريد. يجب أن نمتن لهذا الددوار أننا ما زلنا أحياء. وأنه على الأقل يتيح لنا حرية الامتعاض. يجب أن نتحسس أوجهنا كل صباح ونحن ننظر في المرآة: على الأقل مازالت عيوننا في مكانها وأكثر من هذا توجد تحتها مباشرة أنوف سليمة وأفواه. صحيح أن تلك الأفواه لا تتبسم، ولكنها موجودة على الأقل، ومازال بإمكانها تأدية مهام متوقعة منها قريبا كالصراخ والزعاق ارتعابا. إن الأمر ليس سيئا كما نتصور.

يجب أن نفرح لكون الشمس مازالت تطلع من الشرق، وأن التقويم مازال على عهده. تخيلوا أن الددوار خرج بقرار باختصار السنة إلى 6 أشهر و تطويل الشهر 60 يوما. لنفكر في هذا على ضوء الأزمة الاقتصادية القائمة وتأخر الأجور وتعدد المطالب الأسرية وكثرة الدائنين. سيكون الأمر خطيرا.

يجب أن نكون نفعيين وندرس الأمر على مقياس الربح والخسارة. إن رجال الأعمال المعتقلين مثلا هم تحت حكم ددوار أخر مختلف تماما: إنه يقرر في مؤتمره الصحفي الأخير أن الأموال التي أصابوها هي أموال كان ينبغي حرقها ولم تحرق –وأصبح الأمر بالتالي يشكل تضخما- وهو يسجنهم لأنه يريد استعادتها حالا حالا. لماذا؟ من أجل حرقها (كما يقول المنطق)؟إإ وهذه ليست مشكلة. المشكلة أنه يطالب بفوائد الأموال. هل ذالك من أجل حرقها أيضا؟ هل سمعتم يوما عن فوائد التضخم الني تسبب تضخما؟ ياللروعة: ددوار موريتاني يخترع نظرية جديدة في التعويض عن القيمة الوقتية للتضخم. يمكننا بهذا أن ننافس على نوبل في الاقتصاد. المشكلة أن الشاه يتعهد بإعادة الأموال التي ستحرق لخدمة التنمية، أي أنه يعد بتكريس حالة التضخم. والمشكلة هنا أنه يعفي عن أكثر من 70 بالمائة من أصول الأموال – وليس فقط الفوائد- التي اختلسها إداريون يقرون باختلاسها في قضية فساد لم تستغل سياسيا لغياب سياسية أطرافها. رائع. يمكننا بهذا المنافسة على بوليتزر للخيال الأدبي.

يجب أن نبتهل لأنا نتعامل مع ددوار لا يمتلك نظرية ربوية التضخم. وصحيح أن ددوارنا الموقر يطبق نظرية شبيهة إسمها ربوية الأحكام القضائية، حيث يقضي المسجون فترة سجنه بالربا المتضاعف. ولكن يجب أن نبتهل أن كل مصائب البلد تتعلق بنظريات، مجرد نظريات، مثل “تضخم الفوائد” و”تضاعف الأحكام القضائية” و “الحبس للحماية” و “العدالة من أجل الظلم” و”الانقلاب ردا على الإقالة” و “أكل الأرز لقاء التحرير” و حماقات أخرى.

على الأقل ما زالت الشمس تطلع في هذه الأرض. صحيح أن الكثيرين ممنوعين من رؤيتها، وهنالك مشاريع طموحة قدمت في الحملة الإنتخابية، وبعدها، لبناء سراديب وسجون لمنع بقية الشعب من رؤيتها، ولكن هذا لا يمنع من كون الشمس مازالت هنالك. يمكنكم التأكد. و أكثر من هذا، -وهذا سر- مازالت الأشجار تنبت و الزهور تتفتق.

يجب أن ننظر إلى الجانب الممتلئ من الكأس، أقصد السجون. إن المساجين مازالوا أحياء. صحيح أنهم مرضى و مجوعون و يتعرضون للتعذيب والإكتظاظ و بلا أمل ويقضون الوقت في هرش جلودهم الجرباء، ولكنهم أحياء على الأقل. أليست الحياة هي أكبر هبة؟

لقد عشت وأنا اعتقد أنه لا يتوجب الثناء على الطيبة إلا عندما يكون الطرف قادرا على الإساءة.

تقدمي

شكرا يا سيدنا الددوار. كم نحن ممتنون إإإ

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button