“الحراطين” في موريتانيا من هم؟
نواكشوط – المختار السالم:
بات لفظ “الحراطين” متداولاً بقوة منذ السنوات الثلاث الأخيرة في وسائل الإعلام العربية والعالمية، كما طرحت أوراق هذا الملف بقوة على أكثر من طاولة إقليمية ومنظماتية، لتتطاير في هذا الاتجاه أو ذاك مسببة أزمات سياسية وحقوقية ومنذرة ب”مستقبل واعد” في شبه المنطقة .
واليوم تفتح “الخليج” ملف “الحراطين” لتسلط الضوء، ومن خلال معلومات تنشر لأول مرة، على هذا الملف الذي سيشكل من دون شك أحد أبرز الاهتمامات لأكثر من جهة مناطقية وإقليمية . . فمن هم الحراطين؟
“الحراطين” مصطلح يطلق على “عرب موريتانيا السمر” وهم شريحة اجتماعية واسعة، وقد نمت هذه الشريحة ديموغرافيا بشكل لافت خلال القرنين الماضيين والعقود الأخيرة تحديداً لتشكل رقماً صعباً في مكونات ثلاثة دول هي موريتانيا ومالي والسنغال .
وينقسم “الحراطين” إلى فئتين رئيسيتين، إحداهما خضعت للرق منذ القديم، ولا تزال تعاني من ترسباته حتى اليوم، والأخرى لم تخضع له وظلت معروفة بنشاطاتها التقليدية في الفلاحة والحرفية .
إلا أن الميزة الكبرى لهذه الشريحة هي معاناتها التاريخية من التهميش واستغلال باقي فئات المجتمع لها على شكل عبودية مباشرة وغير مباشرة .
ورغم أن ملف “الحراطين” أثير على خلفية ملف الرق في موريتانيا، وبدأ يتخذ سمعته الدولية من مجال الشد والجذب على الساحة الموريتانية، و”الحرب” الإعلامية والسياسية بين القوى السياسية والحقوقية الموريتانية من جهة، وبين أنظمة نواكشوط التي ظلت ترفض الاعتراف بوجود العبودية وتعزز مواقفها بترسانات قوانين وإجراءات معنوية ومادية، فإن الذي يجهله الكثيرون هو الخارطة الجغرافية لانتشار وتواجد “الحراطين” في منطقة الساحل الإفريقي .
وحسب معلومات “الخليج” التي استقتها من مصادر متعددة، ومن بينها مضمون تقرير كشف عنه مصدر مطلع وورد في وثيقة لاستخبارات غربية أعدت مؤخرا عن الخريطة العرقية لدول غرب إفريقيا على ضوء المخاوف من السلفية الجهادية، فإن “الحراطين” يتوزعون سكانيا على النحو التالي:
السنغال: وتضم القوة الأولى بمعدل 4 ملايين نسمة، أي ما يناهز 30% من تعداد السنغال . ويطلق على هؤلاء مصطلح “لبزوكه”، ويتواجدون في أرياف ومدن السنغال التي هاجروه إليها خلال القرنين الماضيين تحت دوافع الهروب من نير العبودية من جهة، وتحت دوافع اقتصادية من جهة أخرى، إذ ظلت السنغال تمثل منطقة خصب ورعي وفلاحة تجذب هؤلاء إليها بدل الأراضي الموريتانية التي كانت تعاني من أزمات جفاف ومواسم قحط طويلة .
ورغم تواجد “الحراطين” في كل مرافق الدولة السنغالية من جيش وشرطة وإدارة، إلا أن هؤلاء يعانون من تهميش شديد جراء العامل العرقي، وهم يشكلون أغلبية خدم المنازل والحراس، والعمال اليدويين، كما تنتشر في صفوفهم بشكل مريع الأمية، وأدى فقدان إطار سياسي لهؤلاء إلى استمرار تجاهل السلطات السنغالية لدورهم وحجمهم، ولا يزالون حتى الآن بمثابة “الوافد المعزول” من الناحية الاقتصادية والاجتماعية .
وتبين الوثيقة الغربية، بحسب المصدر العالي الاطلاع، أن الكنيسة فشلت فشلاً ذريعاً في غزو “الحراطين” في السنغال، بالرغم من البرامج الإذاعية الموجهة لهم باللهجة الحسانية (العربية)، وبالرغم من جهود المبشرين في هذا المجال .
القوة الثانية: وتتواجد في جمهورية مالي وتقدر بحوالي 5 .2 مليون نسمة، وهؤلاء هم الأقل ارتباطا بالبلد الأم موريتانيا، وقد هاجر جزء منهم إلى جمهورية مالي تحت الدواعي السابقة نفسها (الهروب من العبودية، والبحث عن مناطق الخصب)، فيما وضع مشرط الاستعمار جزءاً من هؤلاء تحت تابعية الحوزة الترابية المالية .
ولا يعرف الكثير عن وضع هؤلاء في المجتمع المالي، وإن كانت المعلومات المتوفرة تؤكد هي الأخرى تهميشهم، إذ لم يصل منهم أي وزير ولا مسؤول سام للإدارة المالية، كما أنهم لم ينتظموا في أي إطار سياسي يخول لهم الحصول على امتيازات الأقليات .
القوة الثالثة: وتتمركز في موريتانيا، ويقارب تعدادها 5 .1 مليون نسمة، إذ تمثل نسبة تقارب 48% من تعداد سكان البلاد .
ورغم التهميش الفاضح الذي يعانيه “حراطين” موريتانيا، حيث تعاني نسبة أكثر من 70% منهم من مخلفات العبودية والفقر والأمية، ولا تزال توجد حالات عبودية تقليدية في المجتمع الموريتاني، فضلا عن استغلال الرقيق السابقين وتشغليهم في ظروف أشبه بالسخرة، فإن هؤلاء يمثلون القلب النابض للعرب السمر، بفضل بروز نخبة سياسية وعلمية قوية من صفوف هؤلاء خلال العقدين الأخيرين .
فهناك اليوم طبقة من العرب السمر تعد بالآلاف من المعلمين، والأساتذة، والأطباء والمهندسين، وضباط الجيش والأمن، والقيادات السياسية والمدنية والاجتماعية والحقوقية، والعلماء والمفكرين والمثقفين والباحثين والكتاب والأدباء، والإداريين البارزين .
وفضلا عن تواجدهم في الحكومة كوزراء، وولاة وحكام، ومسؤولين سامين، وكونهم يشكلون نسبة 60% من أفراد الجيش والأمن، فإنهم يشكلون أيضا نسبة 90% من اليد العاملة في المزارع والرعي، و البيوت والحرف والورش المختلفة .
إلا أن ذلك لم يشفع ل”الحراطين” في تحسين وضعيتهم حتى الآن، والخروج من مرتبة “مواطني الدرجة الثانية” لعوامل منها عجز المشاريع التنموية الموريتانية عن تلبية أبسط متطلبات الحياة الكريمة للمجتمع ككل من ناحية، ومن ناحية أخرى للطبقية الاجتماعية الضاربة الجذور في المجتمع الموريتاني، والتي يتطلب التغلب عليها وضع برامج توعوية ذات بعد استراتيجي .
المكون الثقافي
يتكلم “الحراطين” جميعاً اللغة العربية (اللهجة الحسانية)، بوصفها لغتهم الأم، ولا يمكن تمييزهم عن باقي مكونات المجتمع الموريتاني العربي من ناحية اللغة والملبس والمأكل والعادات الاجتماعية وحتى في المكونات الثقافية الأخرى من أدب وموسيقا ومرويات شعبية .
ومع ذلك يمكن تلمس بعض المميزات الثقافية الخاصة ب”الحراطين” مثل استخدام آلة “النيفاره” (الناي)، وأناشيد “التغريبة” التي تبث الشوق للحرية وحرارة المعاناة من العبودية والظلم والتهميش والقهر الاجتماعي .
وقد أكدت كل حركات “الحر” التي تبنت قضايا “الحراطين” على هويتهم العربية، وهو تأكيد حتمي بفعل الواقع قبل الافتراض، وقبل الأغراض والمآرب السياسية، إذ إن “الحراطين” مكون عربي من قديم الزمن، وهم أفصح بكثير من كثير من مكونات الشعوب العربية، وأكثر تمسكا بعاداتهم وتقاليدهم العربية، وهم الأقل اختراقا من طرف الغزو الفرانكفوني والغربي للمجتمعات الغرب إفريقية .
كما أنهم قلعة دينية إسلامية صامدة في وجه كل التقلبات والإغراءات والمخططات الغرب صهيونية التي سعت لترويج الدين الإسلامي كمسؤول عن العبودية والطبقية التي عانى منها عرب موريتانيا السمر، تاريخياً وحديثاً .
ورغم أن الفترة الأخيرة (وتحديدا سنوات ،2007 و،2008 و2009)، حملت انبثاق تيارات على شكل “أشخاص” بدأوا يركبون موجة التغريب والمتاجرة بالملف الاجتماعي للحراطين لدى المنظمات الصهيونية والعالمية الحقوقية والسياسية، ويروجون ل”دارفور موريتانية” مباشرة بعد طرد السفارة الصهيونية من موريتانيا، فإن دعوة هؤلاء معزولة محليا، وينظر إليها على أنها مجرد بيع ل”ضمير سياسي” لم يجد مجالا للتسويق داخليا .
معالجة مشكل “الحراطين”
كثيرة هي الأدبيات السياسية والفكرية التي عالجت ملف “الحراطين” في وسائل الإعلام والملتقيات الوطنية في الأيام التشاورية التي تنظمها السلطات الموريتانية من حين لآخر أو من نظام لآخر على الأصح .
فكل نظام تبنى سياسة محاربة العبودية والقضاء على مخلفاتها وإنقاذ “الحراطين” من الواقع الجهنمي الذي يعيشون تحت نيره .
ومن أجل ذلك سنت الأنظمة الموريتانية بدءاً بدستور الاستقلال ،1960 وحتى نظام ولد الشيخ عبدالله (2007) مجموعة من القوانين والحملات السياسية حدت بشكل كبير من العبودية التقليدية بحيث لم تبق إلا جيوب معزولة ومتستر عليها من الملاك والعبيد أنفسهم الرافضين لترك الأسياد بذريعة واقعهم الاقتصادي أو حالتهم النفسية والاجتماعية، أما حزم المشاريع الإنمائية التي وضعتها السلطات للتخفيف من فقر هذه الشريحة وترقيتها فقد كان مآلها “الفشل بجدارة” . بسبب افتقار هذه المشاريع للعلمية وخضوعها ل”الزبونية السياسية” .
كما لا تزال ملفات النزاعات بين العبيد السابقين وأسيادهم والمتعلقة أساسا بالنزاعات العقارية (نقاط المياه، والأراضي الصالحة للزراعة، والمناطق الرعوية . . . إلخ) من دون معالجة فعلية، إن لم تكن بمعالجة تأليبية . تسببت خلال السنوات الأخيرة في احتقان شديد بل وتطورت إلى مواجهات مسلحة في بعض الأحيان .
وقد أدى ذلك لقناعات باتت اليوم تترسخ شيئاً فشيئاً وتتحول إلى مطالب ملحة، وأخرى يتم التخطيط لها على “نار” هادئة .
فبعض الحركات القومية، كالناصريين بدأت منذ سنوات تبني سياسة هادفة إلى إيصال عربي أسمر لرئاسة البلاد، وكسر “حاجز الجليد” الذي يحز مفاصل الأغلبية العربية بترك “الأنساب والأحساب” ترفع درجة هذا وتضع درجة ذاك في مجال الحقوق والواجبات .
وقد تمكن ناصريو موريتانيا من قطع خطوة مهمة على هذا الطريق من خلال الترشيح الدائم لرئيس البرلمان مسعود ولد بلخير، مؤسس “حركة الحر” الذي انتقل خلال تنافسه على رئاسة البلاد (في انتخابات 18/7/2009) من درجات عشرية إلى مستوى المركز الثاني انتخابيا بعد الرئيس محمد ولد عبد العزيز .
بل إن الأهم في الرئاسيات الماضية أن قوى في هرم المجتمع الطبقي أيدت ترشيح ولد بلخير على حساب مرشحي “الطبقة العليا” تقليديا .
فيما ترى حكومة ولد عبد العزيز أن معالجة هذا الملف تمثل تحديا اقتصاديا بالدرجة الأولى، وأعلنت عن “المحور الثاني” في استراتيجية مكافحة الفقر الذي يستهدف إقامة العشرات من مشاريع بنية تحتية وأخرى مدرة للدخل على مستوى ما يعرف ب”مثلث الفقر” الذي تشكل “آدوابه” (أحياء الحراطين البدوية) عموده الفقري، فيما تنظر قوى أخرى إلى هذا الملف على أنه “رحمه الله” ملف متجاوز ولا يمثل سوى مجال للمناكفة السياسية، إذ الاتهامات بالغبن والاستغلال والفوقية تطال أعضاء حتى العاملين في “شركة بيل غيتس” . هناك في “وادي السليكون” وليس هنا في بوادي موريتانيا فحسب .
ومن رحم تفاعلات هذا الملف، خرجت تيارات على شكل “أشخاص” يروجون لفصل “الحراطين” عن العرب، ويتهم هؤلاء في وسائل الإعلام والمنتديات المحلية والأوروبية من يسمونهم ب”العرب البربر” الموريتانيين البيض بأنهم يشكلون استمرارية العرق المتغلب والمكرس للاستغلال والحامي للطبقية القديمة والعبودية . وأن النظام الاجتماعي لقبائل “العرب البربر” فرض التعريب على “الحراطين” من جهة، وسعى لإبادة العنصر الإفريقي الموريتاني، من جهة أخرى .
ويتهمون الدولة الرسمية بأنها مجرد حامٍ لهذا الواقع . وتكرس جميع أجهزتها الأمنية والإدارية والقضائية لترسيخ ما يسمونه ب”الإقطاعية الدينية والقبلية” .
فيما يتهم بعض القوميون هذه الأصوات بأنها “مجرد تجار نفايات حضارية سامة” تقتطع صورة خاصة بشريحة معينة من واقع سيئ شامل لجميع المواطنين ومن كل الشرائح والقوميات، وذلك لأغراض تحركها جهات خارجية . حسب هؤلاء .
وبغض النظر عن هذه التجاذبات السياسية، فإن مثقفين وسياسيين موريتانيين بارزين استطلعت “الخليج” آراءهم في هذه القضية، يقدمون جملة من المقترحات لترقية وضع شريحة “الحراطين” في مناطق تواجدها الحالية وذلك وفق المقاربة التالية:
العمل بشكل أساسي على “القلب النابض” لهذه الشريحة في موريتانيا، وذلك بعدم اختزال همومها في تعيين شخصيات معينة، كديكور سياسي واجتماعي، وبدل ذلك العمل على إحلالها في هرم الدولة والمجتمع وعالم المال والأعمال في المكانة التي تمثلها ديموغرافيا داخل الأغلبية العربية في البلد .
يضاف لذلك مراجعة نظام التعليم الحالي الموغل في التغريب والفرانكفونية على حساب اللغة العربية، اللغة الرسمية للبلد (وللشريحة)، والتنفيذ الفعلي لمشاريع مكافحة الفقر والأمية، ومحاربة الطبقية الاجتماعية في المجتمع العربي الموريتاني الذي تعيش فيه شرائح (الشرفاء، الحراطين، الزوايا، الطلبة، حسان، المعلمين، أزناقة . .) في شبه كانتونات مغلقة اجتماعيا وطبقيا عن بعضها البعض .
البحث عن وسيلة لتسيير روابط وأواصر هذه الشريحة في الدول الإفريقية مع البلد الأصلي (موريتانيا) وربطها أكثر مع بعدها العربي . عبر إقامة جسور للتوعية والتثقيف والتعليم والتوجيه السياسي، والعمل الخيري العربي والإسلامي، ما يمكن المهاجرين والمقيمين والمجنسين من أن يصبحوا واجهة حضارية فاعلة لصالح هويتهم وحضارتهم في البلدان التي استوطنوا فيها، دفع الدول الإفريقية التي يشكل “الحراطين” مكونا أساسيا فيها إلى إخراجهم من وضعية التهميش والنسيان . إن لم نقل “الاحتقار” .
منع استغلال الملف الاجتماعي ل”الحراطين” من طرف قوى صهيونية وغربية تحاول منذ الأزل استغلال منافذ “الشرائح الاجتماعية” أو الأقلية العرقية لضرب الأقطار العربية والإفريقية وتمزيق مجتمعاتها . خاصة أن تدخل المنظمات المشبوهة لم يحل مشكلة أي شريحة اجتماعية في العالم، أحرى العالم العربي، بل فاقمها ونقل بعض المجتمعات إلى حروب أهلية قاتلة .
العمل على توثيق وتثمين تراث إبداع هذه الشريحة عبر برامج ثقافية واضحة الهدف، تشكل من جهة منفذا لمبدعي ومثقفي “الحراطين” . باعتبار ثقافتهم مكونا مهما من مكونات الثقافة العربية .
إن الحقيقية التي لا مراء فيها أن “الحرطين” (عرب موريتانيا السمر)، والذين يعدون بالملايين (8 ملايين في السنغال ومالي وموريتانيا، والمهجر)، يعيشون في أسوأ الظروف المعيشية، ويشكلون خزان الفقر الأكبر في شبه المنطقة، وقد شكلوا دائما مجالا لتصريف الظلم والتهميش والنسيان .
وكل ما يقدم لهؤلاء حتى الآن ليس سوى “تابوهات” سياسية، و”مسكنات” مصلحية لا ترقى لمعالجة هذا الملف معالجة جادة وحاسمة .