انقلاب موريتانيا قابل للهضم!
أعلن الجنرال محمد ولد عبدالعزيز أنه يتعهد الحفاظ على دولة القانون والمؤسسات الديموقراطية. ما يعني أن ما وقع في موريتانيا كان تصحيحاً لمسار رأت المؤسسة العسكرية أنه حاد عن طريقه. غير أن رؤيتها تعكس الموقع الذي تضطلع به، فهي لم تكن بعيدة عن رقابة التطورات السياسية، وربما أن خطأ الرئيس المخلوع محمد ولد الشيخ عبدالله أنه أراد أن يتخلص من معارضيه ومن قبضة الجيش دفعة واحدة، لكنه ترك منافذ مفتوحة كانت أكبر من أن يحتويها قرار إقالة قادة متنفذين في الجيش مشهود لهم بالتزامات وطنية.
وفيما يشبه تجربة تركيا يحتل الجيش في موريتانيا دوراً يزيد عن حماية البلاد في اتجاه حماية ديموقراطيتها. وحين بدا لقادته المتنفذين أن الرئيس السابق أعلى ولد محمد فال استطاب موقعه الانتقالي في السلطة تنادوا الى تسريع انتخابات الرئاسة، وغاب عن ولد الشيخ عبدالله أن ما لم يستطع محمد ولد فال تحقيقه وهو في موقع بارز في الجيش والرئاسة لا يمكن انجازه على عهد الرئيس المنتخب وفق أهواء جلبت عليه انتقادات المناصرين والخصوم على حد سواء.
في معادلة الصراع في موريتانيا ان الجيش ظل سيد اللعبة، وعلى امتداد الفترة الانتقالية التي جاءت برئيس مدني منتخب اهتم الشركاء السياسيون بطلب ود المؤسسة العسكرية، من جهة لأنها أوفت بالتزاماتها في تسليم السلطة على إيقاع أجندة الانتخابات، ومن جهة ثانية لأنها حازت شرعية محلية أهلتها لأن تقدم نموذجاً آخر في الانقلابات العسكرية التي تضمن بعض الخلاص لشعوبها.
كل المؤشرات كانت تفيد أن نظام الرئيس ولد الشيخ عبدالله استنفد شرعيته ديموقراطياً، ليس لأنه انقلب على المسار الديموقراطي، ولكن لأن الرهان على الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية في ظرف وجيز كان أكبر من قدرات الحاكمين، وزاد في صعوبة الموقف أن الانفتاح الديموقراطي لم يترك أزمة أو قضية الا وفجرها في طريقه. ففي بعض الديموقراطيات الناشئة تكون ضريبة الانفراج أشد وطأة من الانغلاق، والمشكلة أن حساسيات النخب السياسية في فترة بهذا القدر من التعقيد وتداخل المصالح تزيد ازاء أي سلوك يفهم أنه يروم العودة الى الوراء. فلم تكن مبررات الرئيس المنتخب في اعادة بعض رجال العهد السابق الى الواجهة مقبولة ومفهومة.
في مجتمع مثل موريتانيا له قابلية لاستيعاب تعايش الخصوم لم يكن استثناء أن تظهر زعامات من بين مدانين بأحكام قاسية أو من بين معارضين وموالين، فهو مجتمع مسالم ينبذ العنف واللجوء الى تصفيات الخصوم، ومن الطبيعي أن تغلب فيه نزعة الحوار والتفاهم على الإقصاء والتهميش على رغم ارتفاع أسوار الخلافات. وكما ان المجلس العسكري للعدالة والديموقراطية لم يحظر حزب الرئيس معاوية ولد الطايع، لم يجد الرئيس المنتخب ولد الشيخ عبدالله مانعاً من إشراك رجاله في الحكومة، غير أن ذلك جلب عليه المزيد من المتاعب.
بين خيار التمسك بشرعية الرئيس المنتخب وإبداء الولاء لمجلس الدولة الذي يقوده الجنرال محمد ولد عبدالعزيز سيستمر صراع لن يدوم طويلاً. وبالقدر الذي ستتسارع فيه وتيرة الوفاء بتعهدات العودة الى الحياة المدنية والمنافسات الانتخابية بالقدر الذي سيخبو بعض الأصوات، خصوصاً في حال التأكد من أن عهد ولد الشيخ عبدالله انتهى فعلاً. وما قد يشفع للانقلابيين الجدد القدامى أن حركتهم ذات بعد داخلي صرف، وأكثر ما يخشاه شركاء موريتانيا الأوروبيون والأفارقة والأميركيون ألا يكون انقلاب السادس من آب (اغسطس) الأخير من نوعه. كون استقرار البلاد أصبح مطلباً اقليمياً ودولياً، إما بدافع تسخير الجهود كافة في الحرب على الإرهاب الذي باتت منطقة الساحل جنوب الصحراء مصدراً حقيقياً لمخاطره المتنامية، وإما بدافع المحافظة على التوازن القائم.
لم يترك عسكر موريتانيا للمجتمع الدولي أن يهضم انقلاب آب 2005، لكنهم بالقدر الذي سيقدمون طبخة ديموقراطية غير عسيرة على الهضم محلياً يمكن لهذا المجتمع أن يتعايش معهم كما يتعايش الموريتانيون مع بعضهم.