مقالات

رسالة مفتوحة إلى فقهائنا الأجلاء /دحان أحمد محمود

أيها الفقهاء الأجلاء إنكم أئمة المسلمين وأسوتهم في الدين والأخلاق، وإيثار طاعة الحق على مرضاة الخلق، والزهد فيما عند الناس، والتعلق بما عند الله تعالى، فأنتم ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه على دينه، وقد أراد الله بكم خيرا إذا فقهكم في الدين، فكنت بذلك أكبر منزلة وأجل قدرا عند الله تعالى وعند عباده المؤمنين من أن تنزلوا من علياء مرتبتكم الرفيعة إلى الاستغراق في جزئيات العمل السياسي اليومي، أو تصبحوا – من حيث لا تشعرون – جزءا من الدعاية السياسية لأي جهة سياسية سواء أكانت في السلطة أم في المعارضة، أو تصبحوا شركاء في الصراع الدائر حول تسيير الشؤون الجارية؛ لأنكم دعاة رسالة الإسلام الحضارية الشاملة، وأئمة الأمة جمعاء، ولكم سلطة الفقه والدين التي هي أجل في نفوس المؤمنين من غيرها من السلطات الأخرى، وإذا أصبحتم طرفا في نزاع سياسي فقد لا يبقى لكم تأثير معنوي إلا على الجماعة التي اخترتم الانحياز لها ، والغالب على الظن أنها لن توليكم العناية الكبيرة التي تستحقونها؛ لأن زعماء الجماعات السياسية لا يقبلون المنافسة الداخلية، مما يفرض عليكم – في تصور ناصح لكم أمين – التريث كثيرا قبل إصدار الفتوى الشرعية كما كان دأب سلفكم من هذه الأمة – وأنتم أعلم بذلك- وأن تبتعدوا عن الحديث في الأمور المعقدة التي لا تحيطون بها علما؛ لأن حديثكم فيها يجر للإسلام من المفاسد ما لا يجلب له من المصالح، ومن هذا القبيل حديثكم في الأمور العلمية المعاصرة وقضايا السياسة، والاقتصاد والعلاقات الدولية وغيرها من الأمور المعقدة ، التي يتطلب الحديث فيها المزج بين كثير من الاختصاصات المتشعبة، ولعل أقرب مثال على ذلك فتوى حديثة لأحد كبار فقهاء هذا البلد – لا مطعن في علمه وورعه – ذهب فيها إلى وجوب مساندة السلطة القائمة وحرمة معارضتها، وهو اجتهاد يتناقض بشكل مطلق مع جوهر النظام الديمقراطي القائم على إعطاء المواطن حرية الاختيار بين الموالاة وبين المعارضة – و حرية الاختيار من باب ما يسمى بلغة الفقهاء:”الإباحة التي تعني استواء الفعل والترك”- وليست من باب الواجب والمحرم الذي لا خيرة فيه للمسلم، والقول بوجوب معارضة النظام أو مساندته يعني أن الشعب الموريتاني – بولي أمره وعامة مواطنيه – قد خالف الشريعة الإسلامية عندما اختار النظام الديمقراطي وسيلة لتداول السلطة، وأنه كان عليه أن يتبنى نظاما شموليا استبداديا لا مكان فيه إلا للرأي الواحد والحزب الواحد.

ولو أن المعارضة استصدرت فتوى من أحد فقهائها بوجوب الخروج على السلطة الحاكمة وحرمة تأييدها، مثل ما يقوم به فقهاء الجماعات المتطرفة وأئمتها، لكان ذلك فتنة في الدين ومفسدة في الدنيا وانتهاكا لحرمة الشرع
وهذا ما جعلني أتوجه إليكم – وأنتم سادتنا وأئمتنا- راجيا منكم جميعا – الذين هم منكم جزء من المؤسسة الدينية الرسمية، والذين هم جزء من غيرها– أن تَُبْعدوا الإسلام عن الصراعات السياسية الضيقة حتى يبقى كما أراده الله تعالى سيدا متبوعا لا يُعصي له أمر، لا كما يريد أصحاب المصالح أن يكون خادما طيعا يسير خلفهم أينما ساروا، وأن يبقى كما كان عامل توحيد لهذا الشعب المسلم لا عامل تفرقة وفتنة

أيها الفقهاء الفضلاء

إنني أشعر بالغرابة والحيرة عندما أجد فقيها يصدر فتوى شرعية اليوم، ثم يصدر في الغد فتوى شرعية أخرى مناقضة لها، تبعا لموقف سياسي مستجد لم يكن طرفا في اتخاذه، ولم يطلع على حيثياته وخفاياه، أو يستشر فيه ابتداء، وكأن المفتي تابع لا متبوع، وكأن الفتوى الشرعية بضاعة في السوق يمكن أن تباع أو تشترى حسب قانون العرض والطلب، أو موقف سياسي يختلف باختلاف التحالفات السياسية لا حكم شرعي ثابت وملزم للجميع، مما سبب حيرة علمية وقلقا نفسيا لدى المسلم المعاصر بسبب تضارب هذه الفتاوى السياسية التي ترى أن الممسك بالسلطة صاحب حق شرعي ما دامت السلطة بيده، لا يجوز أن يزاحمه فيها مزاحم ولو بالطرق الدستورية بحجة أن طاعته واجبة والخروج عليه حرام، وإذا خرجت السلطة من يده بانقلاب عسكري أو غيره، صارت طاعته محرمة، وهذه نظرية في السياسية الشرعية غريبة، تشي بأن مصدر الحق والشرعية هو القوة والتغلب لا رضا الأمة، وأن الشيء المحرم ابتداء تعتبر آثاره شرعية ، وهذا التصرف من جانبكم يسد باب التداول السلمي للسلطة، وهو ما من شأنه أن يدخل على الأمة من المفاسد، ويمنع عنها من المصالح ما لا يخفى على ذي لب.

أيها الفقهاء الكرام

سيروا في الأرض واقرؤوا تاريخ الأمم، وستجدون أن الغرب إنما همش الدين، وحرم على رجاله ممارسة السياسة بعد أن جعلوا آراءهم جزءا من الدين، ثم جعلوا هذه الآراء خادمة للمصالح الخاصة، وانخرطوا في الصراع السياسي حتى إنهم كانوا يعزلون الملوك من مناصبهم، ويصدرون صكوك الحرمان تصفية لحساباتهم الضيقة، وكانت النتيجة أنهم اليوم معزولون في كنائسهم بعيدا عن السياسة وأهلها وهو ما لا نريده للإسلام إطلاقا

إنني أدعو جميع الموريتانيين وخاصة الفاعلين السياسيين إلى احترام الثوابت الوطنية التي هي القواسم المشتركة بين أبناء هذا الشعب وأساس وحدته وانسجامه، وإبعادها عن الصراع السياسي، والتجاذب الحزبي، واستصدار قانون من البرلمان الموريتاني يحرم استعمال هذه الثوابت – وعلى رأسها الإسلام – لأغراض الدعاية السياسية، وحتى تبقى للفتوى حرمتها الشرعية، وللفقهاء هيبتهم الدينية وصيانة للدماء والأموال والأعراض فإنه بات من اللازم على الدولة الموريتانية ومؤسساتها الدستورية أن تنشئ هيئة وطنية للفتوى تكون لها الكلمة الفصل، وإليها المرجع في شأن الفتوى الشرعية، وعدم ترك هذا
المجال فوضى، ومنع إصدار الفتاوى الفردية خاصة في الشأن عام سدا لذريعة الفتنة

والله ولي التوفيق

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button