6 أكتوبر: الموعد النهائي لجميع المخاطر!
بقلم : محمد السالك ولد إبراهيم*
مع اقتراب الموعد النهائي الشهير لـ 6 أكتوبر (تشرين الأول)، تنفتح أمام موريتانيا جميع السيناريوهات القاتمة. فهل سيصبح هذا البلد الفقير -الذي يستورد أكثر من 70٪ من حاجياته الغذائية و يعيش فيه أكثر من مليون شخص يعانون من سوء التغذية المزمن- الضحية المقبلة لعقوبات اقتصادية دولية باتت وشيكة؟ و ما هي التداعيات المحتملة لحظر قد يفرض على المعونة الإنمائية الدولية لموريتانيا؟ ذلك السلاح الرهيب، الذي بدأ التلويح به بعد وقت قصير من انقلاب 6 أغسطس (آب)، من طرف معظم الجهات المانحة، كسيف “داموكليس” الشهير، مسلط فوق رؤوس الموريتانيين؟
لأكثر من 40 سنة، ظلت موريتانيا بلدا يعتمد بشكل كبير على المساعدات الخارجية، التي يمثل متوسطها السنوي أكثر من 20٪ من الناتج المحلي الإجمالي للبلد. و ما فتئت تلك المساعدات المالية تغطي باستمرار حوالي 90٪ من برامج الاستثمار العمومي للدولة في موريتانيا. ضمن هذا السياق، يقدم هذا المقال عرضا تحليليا موجزا للمعلومات الاقتصادية والمالية المتاحة بشأن هذا الموضوع حول موريتانيا، اعتمادا على قاعدة بيانات لجنة المساعدة الإنمائية (CAD) في مقر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OCDE) في باريس. حيث تتمتع تلك المنظمة الدولية المتخصصة بنظام متطور للمعلومات يحتوي على أقدم و أشمل وأوثق المعطيات المتعلقة بمجال المساعدة الإنمائية الدولية. و مع ذلك، يبقى من المؤسف أن لا نجد بيانات جديدة قابلة للاستغلال حول موريتانيا أحدث من سنة 1999، وذلك هو سبب توقف سلسلة الإحصائيات التي سنعرضها فيما يلي عند حدود تلك السنة.
بصفتها عضوا في عدة تكتلات دولية كمجموعة أفريقا و الكاريبي و المحيط الهادي (ACP) و في الشراكة اليورو متوسطية و في جامعة الدول العربية، بالإضافة إلى تجمعات أخرى، تلقت موريتانيا في الوقت نفسه عدة تدفقات من المعونة الدولية، لا سيما من البلدان ووكالات التعاون متعددة الأطراف العربية ، ومن فرنسا وخصوصا من الاتحاد الأوروبي. ومنذ عام 1986 انضمت موريتانيا أيضا إلى مجموعة البلدان الأقل نموا لتستفيد بشكل متزايد من آليات المساعدة بشروط ميسرة.
و هكذا، فقد عرف هذا البلد منذ استقلاله ثلاث مراحل رئيسية من المساعدات الدولية. فقد تلقت موريتانيا بين عامي 1960 و 1999 من إجمالي التدفقات المالية ما مجموعه 6,087 مليار دولار من المساعدة الإنمائية الرسمية و 5,454 مليار دولار من التدفقات الصافية.
المرحلة الأولى من المساعدات الدولية لموريتانيا (1960-1972) تميزت بشح التحويلات من المساعدة الإنمائية الرسمية لهذا البلد، حيث تركزت الاستثمارات الخصوصية في قطاع التعدين على وجه الخصوص، لانطلاقة أول شركة للتعدين متعددة الجنسيات في البلاد، MIFERMA التي ستصبح فيما بعد سنيم.
أما المرحلة الثانية من المساعدات (1973-1988)، فقد كانت بلا منازع مرحلة عربية. اتسمت بوفرة المساعدات من البلدان والوكالات المتعددة الأطراف العربية، حيث منح فيها العرب لموريتانيا، أكثر من 42 ٪ من مجموع المساعدة الإنمائية الرسمية.
وأما المرحلة الثالثة من المساعدات، فقد كانت بامتياز مرحلة أوروبية تضم مرحلتين فرعيتين. هيمنت على الأولى منهما المساعدات الفرنسية التي بدأت من عام 1988 لتستمر على مدى أكثر من 8 سنوات. أما الثانية، فكانت بين عامي 1996 و 1999 واتسمت بهيمنة المساعدات القادمة من الاتحاد الأوروبي. وابتداء من عام 1996 عرفت تدفقات المعونة من الاتحاد الأوروبي ارتفاعا كبيرا نتيجة للتعويضات المالية (نحو 57 مليون دولار في السنة خلال الفترة 1996-2000 ونحو 75 مليون دولار في 2001) الممنوحة بموجب اتفاقيات الصيد بين الاتحاد الأوروبي وموريتانيا. هذا التعويض المالي، الذي يمثل مستحقات استغلال سفن الصيد الأوروبية للموارد السمكية الموريتانية، يتم تسجيله في إحصائيات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية كجزء من المساعدة الإنمائية الرسمية. و بشكل عام، يوضح توزيع صافي تدفق المساعدة الإنمائية الرسمية بين عامي 1960 و 1999 لصالح موريتانيا حسب الجهة المانحة، ما يلي:
– الدول و وكالات التعاون العربية مجتمعة، منحت لموريتانيا 1.16 مليار دولار من صافي المساعدة الإنمائية الرسمية أو 22.2 ٪ من إجمالي المساعدات؛
– فرنسا قدمت مليار دولار أي 18.4 ٪ من إجمالي المساعدات والاتحاد الأوروبي قدم 941 مليون دولار، أي 17.3 ٪ من إجمالي التدفقات الصافية. ألمانيا الفدرالية قدمت 356 مليون دولار أي نسبة 6.5 ٪ من إجمالي المساعدات .
– منظومة الأمم المتحدة تأتي في المرتبة الرابعة بـ 405 مليون دولار أي 7.4 ٪ من إجمالي التدفقات الصافية.
– المؤسسة الإنمائية الدولية IDA (البنك الدولي ، إلخ) قدمت 398 مليون دولار ، أي 7.3 ٪ و صندوق النقد الدولي قدم 115 مليون دولار، أي 2.1 ٪ من مجموع صافي المساعدة الإنمائية الرسمية.
– قدمت اليابان ما مجموعه الصافي 325 مليون دولار ، تمثل 6 ٪ من مجموع صافي المساعدات.
– مجموعة من البنك الإفريقي للتنمية منحت صافي 179 مليون دولار، أي 3.3 ٪ من المجموع.
– وتتوزع حصة 572 مليون دولار بين جهات أخرى مانحة، أي نسبة 10.5 ٪ من مجموع صافي المساعدة الإنمائية الرسمية.
أما من حيث التوزيع القطاعي للمساعدات، فيبدو أن ثلث المساعدات الإنمائية الرسمية كان وجها للبنية الأساسية والخدمات الاجتماعية ، بينما خصصت نسبة 40 ٪لدعم الإنتاج والبني التحتية الاقتصادية. أما القطاعات التي استأثرت بصفة رئيسية باتفاقيات التعاون الدولي والشراكة من أجل التنمية خلال العقدين الأخيرين فكانت الأشكال المتعددة لمكافحة الفقر و تحسين البنية الأساسية للنقل بوصفها وسيلة لتحقيق التكامل الإقليمي والتجارة في المناطق الداخلية للبلاد ومع شبه المنطقة، و كذا تقديم الدعم لتطوير الحكم الرشيد، وعلى وجه الخصوص، دعم اللامركزية والتنمية المحلية وتحديث الدولة و نظام العدالة ودعم المجتمع المدني.
و مع أن موريتانيا لا تقع ضمن ركب البلدان الأفريقية التي تتلقى أعلى نصيب للفرد من المساعدة الخارجية، مثل السيشيل وساو تومي و برينسيبي والرأس الأخضر، الخ.، إلا أن حجم نصيب الفرد فيها من المعونة الخارجية يعتبر مرتفعا، خصوصا بالمقارنة مع عدد سكانها المحدود والذي يقدر بحوالي 3 مليون نسمة. وهكذا، بين عامي 1973 و 1999، تلقت موريتانيا في المتوسط 106 دولار لكل فرد سنويا (و هو ما يمثل خلال الفترة 1960-1999، متوسطا مقداره 86 دولار)، وفي الواقع يعتبر هذا لرقم، بموجب هذا المعيار، واحدا من أكبر معدلات المساعدة للفرد في شبه المنطقة.
ويبين الرسم البياني أعلاه – على مدى أكثر من 40 عاما- بأن الموريتاني تلقى من صافي المساعدة ما يقارب ستة أضعاف المبلغ الذي حصل عليه المغربي و نحو ضعفين ونصف المبلغ الذي منح للسنغالي وأكثر من ضعفي ما تلقاه المالي و أكثر من أربعة أضعاف لمعدل نصيب الفرد من المعونات المقدمة إلى القارة الأفريقية ككل.
ومع ذلك، فموريتانيا تحصل على مبلغ متواضع بالمقارنة مع نصيب الفرد من مجموعة البلدان الأفريقية ذات أعلى نصيب للفرد من المساعدة الخارجية. وهكذا فقد تلقت في 1998 أقل بنحو ضعفين من نصيب الفرد من المساعدات في الرأس الأخضر و أقل بنحو ضعفين من نصيب الفرد من المساعدات في السيشل ، و اقل بنحو ضعفين و نصف من نصيب الفرد من المساعدات في ساو تومى.
و يتضح من خلال ما تقدم أهمية المساعدة الإنمائية الرسمية التي تجعل الاقتصاد الموريتاني جد ضعيفا وحساسا بشكل خاص تجاه القرارات و التوجهات التي تتحكم بنظام تعبئة المعونة الدولية، مع كل ما يعنيه ذلك من تبعية على جميع المستويات.
عقب انقلاب 6 أغسطس (آب)2008 في موريتانيا، هدد الاتحاد الأوروبي ، و حكومة الولايات المتحدة والبنك الدولي بتعليق أو إلغاء دفع أكثر من 500 مليون دولار من المعونة غير الإنسانية، وفقا للإحصاءات التي جمعتها شبكة المعلومات الإقليمية المتكاملة و مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، كإجراء لإدانة الانقلاب العسكري و ردا على تنحية و اعتقال رئيس الجمهورية المنتخب ديمقراطيا، السيد سيدي ولد الشيخ عبد الله.
و يبدو أن هذه الأموال كانت موجهة في الأصل نحو دعم مشاريع للتنمية الريفية وأنشطة التثقيف الصحي وعمليات إزالة الألغام و عمليات حفظ السلام ومكافحة الإرهاب والتدريبات العسكرية وبناء الطرق. وبصرف النظر عن تسعة ملايين دولار مجمدة من قبل البنك الدولي ، فأن أيا من هذه المساعدات المجمدة لم تكن تتعلق بمساعدات إنسانية أو غذائية.
بدورها بادرت وكالة التنمية الفرنسية (AFD)، التي تعتبر أهم الجهات الثنائية المانحة بالنسبة لموريتانيا، إلى تعليق أي تمويل جديد إلى أن تقوم حكومة شرعية بإدارة شؤون البلاد. و بما أن تدخلات(AFD)هي من المشاريع الثقيلة التي قد تمتد لعدة سنوات، فإن تأثير العقوبات لن يظهر بالضرورة على الفور. وعلى الرغم من ذلك، يعتقد مراقبون بأنه سيكون من الصعب على المجلس العسكري مقاومة فرض عقوبات اقتصادية صارمة. ففي وقت يعاني فيه العالم من أزمة مالية قاسية، تهدد الأسواق الرئيسية في جميع أنحاءه، فإن تجميد مبالغ أكثر من 100 مليون يورو (142 مليون دولار) على مدى ثلاث سنوات هو أمر لا يستهان به.
أما الاتحاد الأوروبي، فقد سبق أن تفاوض مع موريتانيا على دفع حوالي 300 مليون يورو (426 مليون دولار) على مدى السنوات الأربع المقبلة، من اجل الحصول على تصريح لصيد الأسماك في المياه الموريتانية اعتبارا من 31 أغسطس (آب)2008. و بعد مرور بضعة أسابيع على بدأ العمل بهذا الاتفاق، إلا أن أي مبلغ لم يدفع حتى الآن لحساب موريتانيا.
كما هدد مسؤولون من الاتحاد الأوروبي بتجميد جزء من 230 مليون دولار من المساعدات كانت مبرمجة لصالح موريتانيا حتى عام 2013. أما مشاريع الاتحاد الأوروبي التي كانت موجهة للاستثمار في البنية التحتية، بما في ذلك، تجديد 200 كم من الطريق بين نواكشوط و روصو، فقد تم تعليقها فعليا.
وإذا كانت تداعيات الحظر على المعونة الإنمائية ستطال على الفور و بشكل مباشر الشركات و المؤسسات ومقدمي الخدمات و القطاع الخاص ، الخ…) و ستخلق صعوبات كبيرة للمزيد من الموريتانيين بتعريضهم للأزمات الإنسانية، فإن تأثيرها الحاسم، على الأرجح، سوف يستغرق على الأقل من ستة أشهر إلى سنة ليصبح مخلا بسير شؤون الدولة.
أما شبكة نظم الإنذار المبكر ضد المجاعة و هي هيئة غير ربحية متخصصة في مراقبة الأمن الغذائي، فقد رصدت مؤخرا حصول بعض التحسن في مجال الأمن الغذائي في بعض المناطق الريفية من موريتانيا، حيث يقوم السكان المحليون عادة بزراعة محاصيل غذائية في فصل الخريف. لكن هذه الهيئة قد لاحظت كذلك في تقريرها عن الأمن الغذائي، أن الوضع في موريتانيا ليس مستقرا.
و تظل المساعدات الدولية لموريتانيا- فضلا عن الدروس المستفادة من التحليل التقني لتقلباتها المستمرة- في جوهرها قضية سياسية كبرى بامتياز. كما أن “استخدامها” السياسي الحاصل حاليا ضمن موضة الموسم، في لعبة الاستيلاء على السلطة، إنما يشكل مسرح ظل للدمى “أراجوز” حيث يجري صرف انتباه الرأي العام الوطني عن الأبعاد الخطيرة لمسألة إستراتيجية بالغة الأهمية بالنسبة لمصير البلاد.
و أيا كانت نتائج الموعد النهائي لـ 6 أكتوبر، فإن واقع الأزمة المستمرة في موريتانيا ينذر بحجم التحديات الخطيرة التي تواجه هذا البلد. و لن يكون مستبعدا بعد الآن أن تؤدي تداعيات الظرفية و مخاطر التحولات السياسية و الاجتماعية البنيوية غير المكتملة، إلى انهيار سريع لأصول التفاهمات السياسية و المجتمعية في موريتانيا. و إذا لم تتدخل العناية الإلهية لتلهم الجميع نحو إجراء إصلاح حقيقي للدولة قبل فوات الأوان- وهو أمر يمر حتما بتحقيق تقدم فعلي في مجال تمكين الديمقراطية و تأهيل السياسة الخارجية و تفعيل الحكم الرشيد و تطوير اللامركزية- فمن غير المرجح أن يكون لموريتانيا أي مستقبل منظور!
***
* باحث، ADECA – CMRDEF (نواكشوط : www.adecarim.org)
عضو تحرير شبكة MULTIPOL” أقطاب متعددة” (جنيف : www.blog.multipol.org