منت مكناس تدشن”الويكيليكس الموريتاني”/ محمد الامين ولد ابتي/ leminebety@yahoo
لماذا كل هذه الضجة حول تسريبات موقع “ويكيلكس” لانطباعات و ملاحظات الدبلوماسيين الأمريكيين – أو “تلحاكهم” بالحسانية – حول الشخصيات القيادية و حول مجريات الأحداث في العالم، رغم معرفتنا بأن هذه الوثائق الأمريكية ممكنة التسريب ما دامت مكتوبة و مخزنة في ذاكرة الكترونية قابلة للشبك بذاكرة الانترنت الكونية، و مادام مصيرها الحتمي هو النشر بعد 50 عاما على أبعد تقدير.
نحن في وزارة الخارجية الموريتانية على الأقل ليس لنا الحق في مثل هذه الدهشة السعيدة التي عبرت القارات و ترددت لها أصداء و سقطت من مخلفات هزتها شظايا في عاصمتنا، “مدينة الرياح” و “الكزرات”. ليس لنا الحق في ذلك لأننا شهود، كل يوم و كل ساعة، على تسريب عشرات الأحاديث التي تدور في مكتب الوزيرة أو الأمين العام أو مكاتب السفراء و المدراء المركزيين في الوزارة مع هؤلاء الذين يسمون أنفسهم – أو يسميهم “العرف الدبلوماسي” الموريتاني – الدبلوماسيون الموريتانيون. أحاديث خاصة كان يمكن لبحر لنسيان أن يبتلعها بصفة أبدية لأنها شفهية لا مكتوبة، و العدد الأكبر من أصحاب هذه الانطباعات الدبلوماسية لا يكتبون و لا يقرؤون عربية و لا فرنسية، ولا يعرفون “وورد” و لا “غوغل”، ما دفع الوزيرة في الأسابيع الأخيرة إلى أن تفتح لهم قسما لمحو الأمية في قاعة الاجتماعات بالديوان.
ثم إننا في بلد الغياب التام لثقافة التوثيق و نشر الوثائق، ووزارة الخارجية رائدة في هذا المجال. و ما عليك سوى أن تزور مخزن الأوساخ الذي يسمونه أرشيف الوزارة، لتجد تاريخ الدبلوماسية الموريتانية بأكمله متروكا تحت رحمة عمال يدويين يمزجون في الكيس الواحد وثيقة إعلان استقلال البلاد و الاتفاقيات الدولية التي وقعتها، مع بقايا أعواد و علب للسجائر و جزيئات الأعشاب الذابلة و عناصر الغبار، التي تحتل المشهد أمام المكتب الصغير الذي خصصوه لأرشيف دبلوماسية، ليس لها ما تفخر به سوى ذكريات تاريخها.
الغريب أنني لم أسمع أحدا يتحدث عن هذا “الويكيليكس” المتخصص في شائعات الدبلوماسية الموريتانية، و الذي يبث يوميا على الهواء عبر موجات “أف- أم” الشاي، في مكاتب و أروقة وزارة الخارجية و البعثات الدبلوماسية و القنصلية الموريتانية في الخارج. لكنني عندما فكرت مليا في الموضوع وجدت بسهولة تفسير ذلك. ف”ويكيليكس” الأمريكيين ينشر تقارير السفراء و المستشارين الدبلوماسيين عن اجتماعاتهم مع المسئولين في بلدان الإبتعاث أو ملاحظاتهم و انطباعاتهم عن القادة و المسئولين و الناشطين السياسيين و المدنيين في تلك البلدان، بينما “ويكيليكس الخارجية الموريتانية” يحدثك عن قيل الدبلوماسيين الموريتانيين في بعضهم البعض، و صراع المدراء و السفراء حول الحظوة لدى الوزير أو الأمين العام، و صراع شبكات “اللحاكة” المختلفة.
و عندما يريد “ويكيليكسنا” أن يقودك إلى أشياء هامة و مصيرية في حياة الدبلوماسية الموريتانية، فانه سيحدثك عن الضغوط التي مارسها الوزير على الوزير الأمين العام للحكومة حتى يستخرج له و للوفد المرافق رسوم طريق ل15 يوما بقيمة 1000 أو 1500يورو و 600 لكل عضو في الوفد بدلا من 3 أيام هي عمر المهمة الرسمية التي سافر من أجلها. سيحدثك عن صراع وزير الخارجية حول صلاحياته في مواجهة مدير ديوان الرئيس، و الخلافات الشخصية بينه و بين الوزير الأول، أو الصراع حول قيادة وفد البلاد بين وزيرتين في الحكومة، و مساعي الصلح بينهما تجنبا لتطور الموضوع نحو اللجوء إلى أساليب غير دبلوماسية في قمتي هرم دبلوماسية ذات رأسين، حتى لا أقول عشرة رؤوس.
السيدة الناها منت مكناس وزيرة الشؤون الخارجية الحالية بحكم كونها جديدة على قطاع الشؤون الخارجية، و لم تجد من الوقت ما يكفي لفهم حقيقة “شبكات الدبلوماسيين اللحاكة” أو ماسميته هنا “ويكيليكس الشائعات في الخارجية الموريتانية” و سميته في مواضع أخري ” لوبي الفساد الدبلوماسي”، ربما أيضا لكونها سيدة صريحة و تعمل بشفافية تامة و لا تريد إخفاء المعلومات التي زودها بها مستشاروها و بنت عليها قراراتها، عن الشعب الموريتاني و نوابه – هذه السيدة – قامت دون أن تدري بتوفير منبر نادر “لمطبخ المعلومات المزورة في الويكيلكس الموريتاني”، شهورا قبل نشر “ويكيليكس” للوثائق الدبلوماسية الأمريكية، و تحديدا أثناء استجوابها أمام البرلمان يوم الأحد 12 يونيو 2010 (راجع مقال “وزيرة الشؤون الخارجة و سياسة إقصاء السلك الدبلوماسي” المنشور هنا في موقع “منتدى الإصلاح الدبلوماسي” تغطية و عرضا و مناقشة لخرجة السيدة الوزيرة أمام النواب رفقة اثنين من كبار معاونيها).
في داخل قبة البرلمان و على مسامع نواب الشعب، قامت الوزيرة ببث مجموعة الملاحظات و الانطباعات التي زودها بها مستشاروها حول مجموعة الدبلوماسيين المهنيين، الذين تعمدت هي إقصاءهم بصفة تامة من مذكرة 12 بريل 2010 التي تضم 57 تعيينا في البعثات الدبلوماسية في الخارج، و ما يزال إقصاؤها لهم متواصلا حتى اليوم، رغم صدور مذكرتين للتعيين في الخارج تضم 12 تعيينا يوم 9 نوفمبر الماضي، و رغم شكوى المعنيين الأمر إلى رئيس الجمهورية. و الإقصاء تام حتى من المناصب في الإدارة المركزة رغم أن هذه الإدارة مشلولة بفعل شغور ما يصل إلى ثلثي المسؤوليات المهمة فيها.
قال لها مستشاروها فقالت هي للنواب:
” هؤلاء مجموعة لا يصلحون لتمثيل موريتانيا في الخارج، و هم ينقسمون إلى مجموعتين:
– المجموعة الأولى 15 معلما في التعليم الثانوي و الابتدائي، تخرجوا بعد 4 أشهر فقط من التكوين في المدرسة الوطنية للإدارة، و إذا كانوا يعتقدون أن ذلك يكفي ليتم تعيينهم في السفارات، فهم قد ضلوا الطريق. و أنا أعرف أن خمسة منهم بالضبط هم الذين يثيرون كل هذه الضجة… لم تقل بالضبط ما ستفعل بهم و لكن السياق سياق تهديد.
– المجموعة الثانية 20 شابا متخرجون من الجامعات في مجالات القانون و الاقتصاد، و هم يتميزون عكس الآخرين بالاستعداد للقيام بكل ما يكلفون به، حتى عمل الاستندر و التكفل بفتح الباب”.
تلك هي تسريبات الوزيرة لإفادات مستشاريها. و نأسف كثيرا لكون تلك الإفادات ليست مكتوبة و لا نعرف بالضبط المدير أو المستشار الذي زود بها السيدة الوزيرة. لكننا لا نشك أنها هي قد ارتكبت خطأ إداريا فادحا بتحملها أمام نواب الشعب و في خطاب مسجل و مبثوث في وسائل الإعلام السمعي البصري، مسؤولية هذه المعلومات. خطأ لا تخشى “هيلاري كلنتون” الوقوع فيه، لان كل الاستشارات الدبلوماسية التي تعتمد علها – سربت أم لم تسرب – مكتوبة و موثقة لديها، و بالتالي لا تتحمل لوحدها مسؤولية القرارات الخاطئة التي تتخذ في ضوء تلك التقارير و الملاحظات.
و إذا كانت قليلة هي وثائق “ويكيليكس” التي تم الطعن فيها، فإنني هنا أطعن تماما فيما ورد في هذه التصريحات، و كنت قد فعلت ذلك في مكتوب سابق. فالمجموعة التي استهدفها مستشارو الوزيرة – مختبئين وراء غطاء سرية لن يدوم طويلا – هي غرة جبين الدبلوماسية الموريتانية، و قد شرفها رئيس الجمهورية بأن عين منها المدير العام لتشريفات الدولة، و هي اليوم في واقع الحال المجموعة التي تقوم بكل ما يمثل عملا دبلوماسيا بالمعنى الأصيل للكلمة في مختلف إدارات وزارة الشؤون الخارجية.
و مجموعة ال15 لم يتخرجوا يوما من المدرسة الوطنية للإدارة و إنما مروا بتدريب فيها شأنهم شأن الولاة و الحكام و القضاة و النواب، و كل موظف أو شخص عمومي يخضع لتكوين مستمر في هذه المؤسسة المكلفة بذلك. و على العكس فإنني – و أعتقد أنني آخرهم تخرجا – قد تخرجت من الجامعة بالمتريز عام 1990 و من المدرسة العليا للتعلم عام 1991، و دخلت سلك الوظيفة العمومة منذ ذلك التاريخ. بينما بقية المجموعة تخرجوا كلهم قبل ذلك و منهم من دخل سلك الوظيفة العمومية عام 1983. و ليس فيهم معلم واحد – مع العلم أن المعلمين هم قمم سامقة بالنسبة لهؤلاء المعينين أيام 12 ابريل 9 نوفمبر 2010 – بل كلهم خضعوا لإعادة ترسيم بعد مسابقة لا يمكن الترشح لها إلا لموظف عمومي من الفئة ( أ طويلة) و بأقدمية لا تقل عن 15 سنة في هذه الفئة.
أما بخصوص مجموعة ال 20 الذين قالت عنهم الوزيرة بأنهم يقبلون مهمة الاستندر و عمل البواب، فأقول إن واحدا منها تفوق على عدد كبير من الموظفين الذين تنافسوا معه على مقعد وحيد، و أنه قادم من منصب الكاتب الخاص لوزير العدل. و البقية يوجد من بينهم حملة لشهادة الدكتوراه، و هم قد اختيروا من بين 1500 شاب موريتاني يحملون شهادات عليا في القانون و الاقتصاد. و إذا كان مستشاروكم قد قالوا لكم بان هذه المجموعة قد وصلت الأيام بالليالي في التحصيل العلمي في الداخل و الخارج قصد الوصول إلى منصب بواب أو مكلف بالرد على الهاتف في وزارة الخارجية، فجربوا تعيينهم في مثل هذه المهمات لنرى.
أستغفر الله من كل ما قلته، فليس لي أنا الآخر “الحق في التعجب” مادمت منذ ثلاث سنوات أعمل في وزارة العجائب و المفارقات هذه. ثم إن كلمة “الحق في” ممنوعة من الصرف في هذه الوزارة، فكل ما هو لديك فيها – و معه ما يمكن أن تأمل به – يدخل في دائرة العطاء و التكرم لا في دائرة الحق. و ما دام اسمك لم يعط للحرس لمنعك من الدخول فعليك بشكر هذه النعمة. نعمة التجول بحرية و شرب الشاي في وزارة “الدبلوماسيين الموريتانيين”.
و قد قال لي بعض المحامين عن خيارات الفساد الإداري في وزارتنا بنبرة وعظ و نصيحة : “اتق الله و ارض بقضائه، فليس لك من حق سوى ما أعطاه لك ربك و منحه لك وزيرك. و هذا النوع من الحديث عن الحقوق يدل على أنك لست من أهل الخارجية و إنما من أهل التعليم المسكونين ب”فيروس الحقوق و النقابية”، و يدل كذلك على انك بحاجة إلى مراجعة علاقتك بربك و تصحيح عقيدتك، حتى تصل إلى ذلك المقام الإيماني الذي تعتاد معه على أن بواب الأمين العام أو فني الكهرباء في الديوان أو سائق أحد السفراء يعينون في رتب سفير و مستشار أول بالسفارة لتعين أنت بدل أحدهم، و تقبل بذلك سعيدا، و تقيم احتفالا بالمناسبة في البيت. فهذا و ذاك من فضل الله، ثم من فضل الوزيرة.
و حكى لي – و هذه الطبقة من المطبلين لسياسات الفساد في وزارة الخارجية هم من كبار القصاصين و وضاع الأحاديث الشريفة و غير الشريفة – ما ورد في أحد تسريبات “ويكيليكس الموريتاني”، من أن أحد الدبلوماسيين قال للسيدة الوزيرة معبرا عن وصوله إلى هذا المقام من العرفان و التجرد الإيماني من الذات محتجا على ما ورد في المواقع الالكترونية من اعتراض الدبلوماسيين المهنيين على مذكرة تعيينات 12 ابريل 2010 : ” ما تفعلينه أنت و ما تفعله الإدارة بنا يدخل في دائرة صدق كلمة: “تصرف المالك في ملكه يسمى عدلا لا جورا”.
ربما .. ربما .. يكون ذلك ما قصدته وزيرة الخارجية عندما ألمحت إلى أننا – خصوصا الخمسة المشهود لهم ب … لست أدري ماذا – قد نكون ضللنا الطريق، و أننا لا نصلح لتمثيل موريتانيا في الخارج، عندما تحدثنا بافتراض وجود شئ اسمه المعايير و الحقوق في هذه الوزارة.
فقط أنبه إلى أنه حتى بخصوص مقام الذات العلية – ولله المثل الأعلى – جادل بعض المؤمنين الذين لا يشك في إيمانهم في مسألة العدل الإلهي. ومنهم ابن عباس و الحسن البصري و غيلان الدمشقي – الذي قتله هشام بن الحكم صبرا وقطع أعضاءه عضوا عضوا في سبيل ذلك – و أعلام المعتزلة. فقد قال هؤلاء بان صفة العدل واجبة في حق الله، و لا يجوز أن نثبت في حقه تعالى ما يتنافى عقلا و مقتضيات العدل.