مقالات

(لم يرحل ولد الطايع .. ولم يرحل بن على)… وما خلعوه ولكن شبه لهم! /رائد قاسم

عندما أطاح العباسيون بحكم بني أمية كانوا قبل ذلك قد رفعوا شعارات كثيرة من أهمها الانتصار لآل بيت النبي محمد (ص) وإقرار العدالة والمساواة بين أبناء الدولة الإسلامية ، فالتحقت بهم الكثير من الشرائح والفئات والطبقات التي عانت الاضطهاد من سياسات الحكومة الأموية ، في مقدمتهم العلويين والموالي من الفرس ، وقد ارتكبت الجيوش العباسية مجازر مروعة بحق الأمويين ومواليهم ، حتى بلغ بهم الأمر نبش قبور خلفاء بني أمية والتمثيل بجثثهم، وقد تمكن بعض أبناء البيت الأموي من النجاة، منهم عبد الرحمن ابن معاوية، حفيد الخليفة هشام ابن عبد الملك ، الذي سارع بالذهاب للأندلس، التي كانت خاضعة اسميا للدولة الأموية ، ولم تصلها بعد جيوش بني العباس ، وقد تمكن ابن معاوية من الاستيلاء على السلطة هناك وبدأ في تكوين دولة جديدة للأمويين في الغرب بعد انهيار دولتهم في الشرق، وقد عارضه الكثيرون وخرج عليه العديد من زعماء القبائل العربية والاتجاهات الدينية المتطرفة ، وقد ارتكب بحق معارضيه كافة صنوف القتل والتعذيب والإبادة، وحكم الأندلس بقبضة من حديد ، تثبيتا لأركان دولته وسلطانه ، حتى دانت له الأندلس وكون في أرجائها الفسيحة دولة عربية قوية ، بلغت أوج مجدها في عهد عبد الرحمن الناصر لدين الله .

عبد الرحمن الداخل الذي فر هاربا من بطش العباسين مارس البطش في الاندلس ، لتنطبق على كلا البيتين الحاكمين مقولة : ليس المقتول بأفضل من القاتل! .

في عهد الحكم المستنصر بالله ظهر المنصور ابن أبي عامر ، كان في بداية أمره مجرد طالب علوم دينية في جوامع قرطبه، ثم تدرج في بلوغ منازل الحكم وإدارة الدولة الأموية حتى بلغ منزلة من المستنصر الذي جعله وصيا على ابنه وولي عهده هشام المؤيد بالله ، وما أن توفي حتى بدا الصراع المحموم على وصاية الخليفة الطفل، وبدأت المؤامرات والمكائد المشوبة بالدماء، حتى تمكن ابن أبي عامر من الاستيلاء على الحكم وإقصاء منافسيه والحجر على الخليفة هشام ، ولقب نفسه بالملك المنصور، فكان خليفة المسلمين في الأندلس إلى جانبه رسما بلا معنى !
كلا من عبد الرحمن ابن معاوية ومحمد ابن أبي عامر خططا لبلوغ طموحهما في بيئة سياسية غير مدنية ، أي بيئة لا تقوم على النظم المدنية والطرق الشرعية في المنافسة والصراع ، فكان بلوغ الإرب وتحقيق الهدف والوصول إلى الغاية يقوم على سفك الدماء وتدبير المؤامرات والمناورات والخداع وكافة صنوف الوصولية والانتهازية ، فلم يكن لابن معاوية الذي بكى لمقتل أهل بيته وسجد لله شكرا على نجاته من بطش العباسيين إلا القتل والغيلة والغدر من اجل الوصول إلى السلطة والمحافظة عليها ، ولم يكن أمام ابن أبي عامر من خيار وهو الذي درس الفقه والعلوم الدينية وتفسير القران والأخلاق سوى سفك الدماء والقتل على الظن من اجل تحقيق حلمه الكبير بحكم الأندلس .

في هذا المعنى فان الأرض التي لا ينمو فيها سوى البصل لن يجدي نفعا قطع شجرتها منها وزراعة الفاكهة عوضا عنها! فلن ينمو فيها إلا هذا البقل !! والخلل هنا في الأرض لا ثمار الفاكهة، إذ يجب إصلاحها وتهيئتها لكي تنموا فيها ثمار أخرى إلى جانب البصل!! وان هذا هو حال البيئة الإنسانية بمختلف تشكيلاتها وأنظمتها وجوانبها، فالمقتول قد يتحول إلى قاتل ! وصاحب الطموح الرفيع قد يتحول إلى دكتاتور، وان كانا في بدايات أمرهما في حالتهما الإنسانية السوية، فالإنسان ابن بيئته، يتطبع بها شاء أم أبى ، خاصة إذا ما كانت ذات مسار واحد كالبيئة السياسية العربية قديما وحديثا.

لتوضيح المقصد فان لبنان منذ تأسيسه وهو في صراع أزلي ما بين مكوناته الطائفية وتنظيماتها السياسية، فقبل الاستقلال خاض المسلمون والمسيحيون معارك دموية طاحنة ، انتهت بتأسيس نظام لبنان السياسي القائم على المحاصصة الطائفية ، إلا إن الصراع ما بين اللبنانيين لم ينتهي ، ففي عام 1958 انفجر صراع سياسي دو جذور آيدلوجية وطائفية ما بين رئيس الجمهورية كميل شمعون الذي كان ضد القومية العربية وعبد الناصر ومؤيدا لبقاء لبنان دولة خارج نطاق الأمة العربية ، ومؤكدا على هويته المسيحية الفينيقية وما بين المعارضة ذات الاتجاه القومي الإسلامي ، الذي يؤكد على هوية لبنان العربية والإسلامية ، ورغم تسوية الأزمة إلا إن لبنان سرعان ما مر بصراعات حادة فجرت حربا أهلية استمرت لـ 15 عاما ، وحتى بعد اتفاق الطائف وتكوين الدولة اللبنانية مرة أخرى ، فان لبنان ظل يعاني من الاضطرابات والصراعات ، لذلك فان الذي يعتقد أن المشكلة في لبنان هو حزب الله وسلاحه فقط ، لم يقرا تاريخ لبنان الحديث ونظامه الوطني القائم على الطائفية السياسية وهيمنة الطائفة على سيادة الدولة، فحتى لو تم القضاء على حزب الله كقوة عسكرية وسياسية فان البيئة اللبنانية القائمة على تفوق سلطة الطوائف على سلطة الدولة ،وبكل ما تحمله من جوانب ضعف وتخلف في الأنظمة الأساسية الأخرى ، سوف تولد صراعات جديدة وأزمات متلاحقة لن تنتهي .

والعراق الذي خرج فيه عبد الكريم قاسم على الحكم الملكي وقتل العائلة المالكة بوحشية، انقلب عليه بعد أربع سنوات من حكمه ضباط بعثيين وقوميين ، فقتلوه وواروا جثمانه في مكان مجهول، وعين التحالف البعثي والقومي عبد السلام عارف رئيسا للجمهورية ، وبعد أربع سنوات قتل عارف في حادثة مروحية غامض، فخلفه شقيقه عبد الرحمن عارف ، الذي انقلب عليه حزب البعث بقيادة احمد حسن البكر وصدام حسين ، وبعد 11 عاما استفرد الأخير بحكم العراق وأصبح صاحب السلطة المطلقة، الذي قتل في عهده ملايين العراقيين وذلك في الحروب الطاحنة التي خاضها العراق ، كان آخرها حرب الحواسم التي سقطت فيها الدولة العراقية برمتها .

كان الجميع يقول إن الخلل في العراق يكمن في حكم صدام حسين وحزب البعث العربي الاشتراكي ، إلا أن الأحداث الدامية التي شهدها العراق في السنوات التي أعقبت سقوط النظام العراقي وطبيعة النظام السياسي الجديد في العراق القائم على المحاصصة الطائفية بكافة تفاعلاتها وصراعاتها التي لا تهدا تكشف حقيقة فساد وتخلف البيئة العراقية ، الأمر الذي ينذر بخطر سقوط الدولة العراقية الحالية وتفكك العراق ما بين طوائفه وقومياته المتعددة.

قريبا من العالم العربي تبرز باكستان التي يسودها نظام سياسي ديمقراطي منذ تأسيسها عام 1947م ، إلا إن الحياة السياسية الباكستانية تعج بالعنف والفوضى والجرائم والصراعات السياسية كان آخرها حادثة اغتيال رئيسة الوزراء السابقة بناظير بوتو .

في الصومال كان الرئيس سيا دبري رمزا لطغيان الدولة ودكتاتورية الحاكم ، إلا إن الصومال بعد سقوط نظامه أضحى بلدا يعاني من قيام دولة مستقلة غير معترف بها شمالا وحرب أهلية طاحنة وسطا وجنوبا.

في مصر استولى الضباط الأحرار على الحكم واسقطوا النظام الملكي ، ووعدوا شعبهم بالحرية والحقوق والازدهار ، إلا إن النظام الجمهوري سرعان ما تحول إلى نظام دكتاتوري ودولة ينخر فيها الفساد ، ورغم هامش الحرية في عهد الرئيس حسني مبارك ووجود مؤسسات مجتمع مدني وسياسي ناشطة ، إلا إن البيئة الوطنية المصرية تعاني من كافة أشكال التخلف والعجز في مختلف أنظمتها ، لا سيما في نظامها السياسي ، ومنذ ثورة يوليو 1952م وحتى عام 2011م لم تتحول مصر إلى دولة ديمقراطية، ومنذ انتهاء صراعها مع إسرائيل بتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978م لم يتمكن النظام الجمهوري من تحقيق أهدافه في الرفاه والازدهار والتطور .

موريتانيا مثال بارز، فبعد الإطاحة برئيسها الأسبق معاوية ولد طايع بعد حكم دام (21 عاما)، على يد ضباط في الجيش ، سارع قادته برفع شعارات الديمقراطية والحرية والرفاه ، وقد نظموا فعلا انتخابات حرة ونزيهة ، فاز فيها الرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ ، إلا إن العسكريين سرعان ما استولوا على السلطة مجددا عبر انقلاب غير دستوري على الرئيس المدني المنتخب، وقد نظموا انتخابات جديدة فاز فيها قائد الانقلاب الجنرال محمد ولد عبد العزيز !.

في الجزائر التي تعج بالثروات ويعيش شعبها في الفقر والفاقة وفي أثناء مراسيم تسلم الرئيس الأمريكي باراك اوباما السلطة خلفا لسلفه جورج دبليو بوش أعلن عن تعديل دستوري يتيح لرئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة ترشيح نفسه لعدد غير محدود من الولايات الرئاسية.

في ليبيا استولى العقيد معمر ألقذافي على السلطة في انقلاب عسكري أطاح بالحكم الملكي ، ووعد شعبه بالحرية والازدهار والسعادة ، وها هي ليبيا بعد 35 عام من ثورة الفاتح دولة ريعية تقتات على النفط ، ونظام حكمها من أكثر الأنظمة دكتاتورية وشمولية وفسادا في الشرق الأوسط.

في فلسطين أقيم الحكم الذاتي الفلسطيني على مبدأ الانتخاب والتداول السلمي على السلطة، وكانت النتيجة صراع على الحكم ما بين فتح وحماس، أذى إلى وجود سلطتين فلسطينيتين في كل من رام الله وغزة!

في الكويت ثمة برلمان منتخب وذو صلاحيات فاعلة ودستور قويم ، إلا إن الكويتيين لم يستفيدوا من نطاق الحريات المتاحة أمامهم ولم يستثمروا نظامهم السياسي الدستوري في التنمية المستدامة وتطوير البيئة الوطنية الكويتية ، فظلت الكويت دولة ريعية ، وانشغل البرلمان منذ تأسيسه في خوض صراعات عنيفة مع الحكومة ، واستغلت مؤسسات الدولة لتحقيق المنافع الشخصية والفئوية وساحة لتصفية الحسابات، فتراجع دور الدولة لصالح التنظيمات البدائية دينيا ومذهبيا وطائفيا وقبليا ، والكويت اليوم دولة متأخرة بالرغم من ثروتها النفطية الهائلة وبنيتها التحتية السياسية المتقدمة قياسا على دول المنطقة .

زبدة الكلام وخلاصته أن البيئة العربية تعيد إنتاج الاستبداد! ومهما شيدت فيها المؤسسات الوطنية التي تقوم على الانتخاب والتداول القانوني على الإدارة والحكم، وأجريت فيها الانتخابات فان ذلك لن يجدي نفعا! لان الأرض بحاجة إلى إصلاح لكي تنموا فيها الفاكهة ! والبيئة العربية إن لم تستصلح لن يجدي فيها زرع نظام قائم على الانتخابات والتداول الدستوري على السلطة، كما في مصر والسودان والجزائر وموريتانيا ولبنان وغيرها، والتجربة الأمريكية في العراق ( وكذلك في أفغانستان) شاهد على ذلك ، فالأمريكيين لم يعمدوا إلى إصلاح البيئة العراقية المدمرة ، واعتقدوا أن تأسيس نظام ديمقراطي كفيلا بأعمار العراق وإعادة بناءه من جديد، فكانت النتيجة نظاما طائفيا ودولة هشة معرضة للانهيار في أي وقت.

لتدليل ذلك تبرز التجربة اليابانية ، فبعد الهزيمة التاريخية لليابان في الحرب العالمية الثانية كانت اليابان دولة محطمة ومدمرة تماما وتعاني من ذل الهزيمة وعار الوصاية الأمريكية ، إلا إن اليابانيين وفي فترة قياسية وجيزة أسسوا نظاما سياسيا ديمقراطيا في ظل الملكية الإمبراطورية التاريخية ، وأعادوا تأسيس اقتصادهم وأنظمتهم التعليمية والثقافية والاجتماعية وغيرها ، فتحولت اليابان إلى دولة صناعية عظيمة وأصبحت رمزا حضاريا عالميا يمثل قدوة للكثير من شعوب العالم ، ومن التراث العربي تبرز تجربة نبي الإسلام وسيد العرب محمد ابن عبد الله (ص) الذي بنا دولة عربية مستقلة وقوية في الجزيرة لعربية ، ولم يكن له ذلك إلا بإصلاح الأنظمة المركزية للبيئة العربية ، من خلال تأسس نظام ديني جديد ، ألا وهو الإسلام ، والقيام بإصلاحات واسعة النطاق في الأنظمة الاجتماعية والحقوقية ، ما مكنه من جمع قبائل العرب في دولة مركزية ، انضمت أليها فيما بعد بلاد العراق والشام ومصر واليمن ، واتسعت في عهودها اللاحقة لتشمل بقاع واسعة شرقا وغربا، وقد حقق العرب والمسلمون من خلالها انجازات حضارية لافتة ، آثارها لا زالت ماثلة للعيان حتى هذا العصر.

ما حدث في تونس اليوم يسترعي الانتباه، فتغيير الأشخاص كالرئيس المخلوع زين العابدين بن علي لن يجدي نفعا ! فان لم يبادر التونسيون إلى إصلاح بيئتهم الوطنية، بما تشمله من أنظمة سياسية وثقافية وحقوقية وقانونية فان احتمال عودة الدكتاتورية من جديد أمر حتمي الحدوث، لان البيئة التي أنجبت ابن علي ستنجب غيره !! ما لم يتم إصلاحها من خلال قطع جذور الدكتاتورية والطغيان السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي ، وزرع مؤسسات سياسية وثقافية جديدة تمنع نشوء الديكتاتورية في مختلف الأنظمة المركزية المنظمة للبيئة الوطنية التونسية ، وتقوم على معطيات الفكر البشري المعاصر بكل ما يشمله من مبادئ وقيم ونظم لا بد منها لتشييد أنظمة مركزية حيوية تحقق هدف مركزي يتمثل في ازدهار البيئة وتطورها المتجدد والمستمر.

إن التونسيين اليوم في مرحلة تاريخية مصيرية، فان لم يبادروا إلى إصلاح بيئتهم الوطنية وزراعة أنظمة جديدة فيها فان بيئتهم التي أنتجت لهم دكتاتورهم المخلوع سوف تنتج دكتاتور آخر وسوف يعود بن علي جديد ليحكمهم وتذهب بذلك دماء شهدائهم هدرا وليستيقظوا على قع نداءات من السماء تقول “وما خلعوه ولكن شبه لهم!”.

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button