مقالات

خطباء الطرافة والمبالغات/بدرية البشر

منذ ثلاثين عاماً ونوع من الخطباء يزدهر، ذلك النوع الذي يسمح لنفسه أن يهاجم فئة من الناس في خطبة يلقيها في مسجد أو في مناسبة دينية أو موسم حج. هؤلاء هاجموا القنوات الفضائية التي أصبحت اليوم منبراً لنجوم الخطاب الديني، ويتكسّبون منها ثروات طائلة. هاجموا وزراء التربية والتعليم وخططها، كلما خرجت قيد أنملة نحو التطوير حتى ولو بحصة تربية رياضية لمدارس البنات في المدارس الخاصة، هاجموا تعيين امرأة نائبة لوزير التربية حتى ولو كان بينها وبين إدارة الرجال شوارع ومبانٍ وحواجز وبرقع على الوجه، هاجموا معارض الكتب، هاجموا عمل الكاشيرات، لكن وجعهم المرير كان على أشده حين وصفوا أن كتّاب الصحف وأعمدة الرأي تمكنوا بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) من أن يخالفوهم الرأي في كل هذا، وأن يعبروا عن حقيقة أن في المجتمع السعودي أكثر من رأي، ورأي مختلف عنهم.

أغرب ما شاهدته في هذه الحقبة هو تفجّعهم ونواحهم الشديد على وسائل الإعلام التي خرجت عن سيطرتهم، وقد أشاعوا لدى المسؤولين وفي فضائياتهم الخاصة وفي برامجهم المؤدلجة أن الإعلام يضطهدهم ويرفض أن ينشر لهم، وأنه مختطف من «شلة» الليبراليين الهدامين أصحاب مشروع التغريب. يا سبحان الله يمتلكون المنابر في المساجد وقنوات فضائية ونجوم يجوبون الأرض من ليبيا وقطر وحتى جنوب أفريقيا وكوالامبور والصين، لكن أكثر ما يحزنهم أن تخرج من سيطرتهم جريدتان أو ثلاث، وثلة من كتاب يقولون ما لا يعجبهم.

ولأن هذا الانتشار ليس زاهداً ولا حذراً من أن يدخله التسيس أو أن تفسد ذمته بالمحاباة والمجاملات، فإنه تعدى خطاب الإسلام العقيدة والمعاملة ومكارم الأخلاق، وأصبح مشتغلاً بكل ما يدور في العالم السياسي، من نقاطع؟ ومن ندعم؟ ومن نشغّل؟ وماذا نأكل؟ وأهم درس فيه هو كيف نموت؟ سمعت عظة لطبيب لا أدري ما الذي جعله يتقاطع مع النشاط الوعظي، السؤال الوحيد الذي كان يطرحه في عظته هو سؤال واحد: هل هذه ميتة؟ ليست القصة في أن ما شغلهم هو كيف نموت أكثر من كيف نعيش بكرامة وحرية وتقدم ونجاح، بل إن خطبهم تحوّلت إلى نكات وطرائف وحكايات تشبه فنّ (الحكواتية) الذي انتشر على المقاهي الشعبية في عهد (الأمية) حين كانت الناس تستأنس بالقص الشفاهي لعدم قدرتها على القراءة وهذا النوع من الترفيه عادة لا يجد مكاناًَ في المجتمعات المتعلمة، لكنه ازدهر عندنا في دروس العظة والإرشاد، وقد حسد بعضهم بعضاً، ودعم بعضهم بعضاً على هذا الاتجاه، لأنه استطاع أن يشد الجمهور وخصوصاً الشباب الصغير، بخفة دمه وطرافته، وأنا شخصياً لا أتحفظ على أن يكون المرء طريفاً لكنني أتحفظ على أن يكون شيخاً في درس ديني أو عظة ويضطرّه التظارف للكذب لكي يملّح الحكاية، كأن يقول إنه مسك علبة دخان، ظناً منه أنها جوّال حتى إنني اضطررت أن أطبق العملية بنفسي فوجدتها صعبة، لكن ليست هذه هي النقطة «البايخة» في الموضوع «الأبيخ» منها أن يسلم الكافر في الصين بعد سماعه طرفة، أو يقلع المدخن عن التدخين بعد سماعه موقفاً طريفاً، ثم يعيش المسلمون في سبات ونبات ويخلفوا بنين وبنات.

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button