أخبارأخبار عاجلةثقافة وفندوليعربيمقالات

ماكي صال: السنغال نموذج جميل للإستقرار..أفريقيا ليست أرضاً قدرُها الحتميُّ هو العُنف

أنباء انفو- يصر  الرئيس السنغالي ماكي صال ، فى كتاب “السنغال في القلب”  الذى ينشر حاليا  باللغة العربية على  شكل حلقات تصدر تباعا عن موقع “إيلاف” على إبراز وجه إفريقيا الحقيقي قبل ان يتعرض للتشويه من طرف المستعمر.

فى  الحلقة الحادية عشرة من الكتاب التى يعيد موقع “أنباء انفو” نشرها ،  يغوص الرئيس ماكي صال في انشغالات ورهانات وطموحات أفريقيا منذ بدء حصول كثير من بلدانها على الاستقلال.

على الرغم من التصورات المتشائمة لبعض الاصوات التي رأت أن أفريقيا السمراء تمضي على طريق الخطأ إلا أن الرئيس صال يرى انها ليست كذلك، لكنه في نفس الوقت يرى أن هذا التوصيف المتشائم كان موافقاً للواقع إلى حدٍّ بعيد!

يقول صال إن أفريقيا ليست قارة فلكلورية تعج بالالوان مع حكايات شعوب سمر لا تنتهي ولا تفيد. ويتطرق للوضع السياسي في بلاده السنغال قائلا: “بعد تداولين سلميين للسلطة في السنغال فإن ديمقراطيتنا المتعددة الأطراف تجد نفسها في طريق سلسة لا تراجع فيها”،مشيرا إلى أن الرئيس الراحل ليوبولد سيدار سنغور “له فضل علينا هو التمكن من بناء أمة سنغالية متجانسة وإدارة الاختلافات العرقية والدينية بنجاح”. في ما يلي الحلقة الحادية عشرة.

أفريقيا ليست على الطَّريق الخطأ!

في سنة 1962، قام ريني ديمونت بتأليف كتابٍ تضمَّنَ نقداً لاذعاً لأفريقيا السَّمراء تحتَ عنوان: “أفريقيا السَّمراء على الطَّريق الخطأ”. هذا الكتاب كان قد أثار ضجَّة كبيرة في أفريقيا، لدرجة أنَّه تمَّ حظرُ تداوله في عددٍ مِن الدُّول الأفريقيَّة. المؤلِّف كان يُبرز أوجُه النَّقص الَّتي تعاني منها أفريقيا في وقت الاستقلال. ومِمَّا يدعو إلى الأسف، أنَّ تشخيصَه المتشائم كان موافقاً للواقع إلى حدٍّ بعيد!

الزِّراعة في أفريقيا كانت، مثلاً، مُتخلِّفة وضعيفة الإنتاج، والأولويَّات في مجال التَّنمية معكوسة. وحسب ديمونت”كان استيراد سيَّارات ميرسيديس أهمَّ مِن استيراد حافلات النَّقل”.

في سنة 1962، بعيد استقلالِ دول كثيرة، كان من الطَّبيعيِّ جدَّاً أن يكتب ديمونت هذا الكتاب في النَّقد اللَّاذع لأفريقيا السَّمراء الَّتي كانت محطَّ اهتمام غالبيَّة المثقَّفين الغربيِّين آنذاك. وكان ديمونت يتعرَّض في تحليلاته للزِّراعة في أفريقيا، وكيف كانَت مُعتمدةً على الخدمات الخارجيَّة، مع استغلالٍ سيِّئ من المُستعمِر. كان المنطق في هذا الوقت يتمثَّل في الهرولة إلى العاصمة الاستعماريَّة لطلبِ الدَّعم الماليِّ. وكانت المناطق الزِّراعيَّة تُخصَّص لنوع الزِّراعة الَّتي تُناسب المستعمِر. بل إن الدُّول الَّتي حصلَت على الاستقلال للتَّوِّ، كانت تسير وفقَ نظامٍ سيِّئ لم يكن بالإمكان أن يستمرَّ.

إنَّ تحليلات ديمونت لاتزال توافق الأوضاع الرَّاهنة. كما أنَّ البنك الدُّوليَّ أكَّدَ ما ذهب إليه حين قالَ إن الزِّراعة في أفريقيا، كوسيلة للتَّنمية، أُهمِلَت خلال 25 سنة. كما دعا البنكُ الدُّوليُّ إلى تغيير المنظومة التَّاريخيَّة في هذا المجال بإعطاء الأولويَّة للحصول على الأراضي والوصول إلى الماءِ وتكوين المزارعين. فلنأخُذ الفُستق، كعيِّنة زراعيَّة، عندئذ نجد أنَّ جميع المُشتقَّات الصِّناعيَّة الَّتي كانت مُتعلِّقة بالفُستق قد انهارت. وكان مِمَّا لم يكن منه بُدُّ، استئناف كلِّ شيء من جديد في هذا القطاع، وإعادة تحديد سياسة زراعيَّة جديدة.

كُنَّا قد عانينا أيضاً مِن الجفاف الواسع، بالإضافة إلى الرَّشوة الَّتي كانت مُنتشرة. وأفريقيا، أيضاً، لم تكن تتمتَّع بالأطر المدرِّبين الكثيرين كما هو الحال اليوم.

كلُّ هذه الأمور يجب أن تحملَنا على أن نتفهَّم، بصفة أفضل، وأن نتسامح مع القادة الَّذين سبقونا.

إنَّ قارَّتنا وقعَت ضحيَّة لصور ذهنيَّة نمطيَّة سلبيَّة وسيِّئة جدَّاً، وبقيَت راسخةً في الذَّاكرة الجماعيَّة. بيد أنني أقول لكلِّ مَن تأثَّروا بهذه الصُّوَر السَّلبيَّة والَّذين لم يزوروا أفريقيا، إنَّ هذه الاخيرة ليسَت على هذه الصُّورة!

إنَّ أفريقيا، لا يمكن أن تتلخَّص في مجموعة دول تسود فيها الرَّشوة. كما أنَّها ليسَت مُجرَّد مجموعة من الصِّفات السَّلبيَّة النَّمطيَّة الَّتي يوصف بها، عادةً، السُّود، مثل وصفِهم بأنَّهم”لا يعرفون العمل” أو إنَّهم”أطفال كبار”، إلى غير ذلك من الصُّوَر النَّمطيَّة الموافقة للرُّؤية القديمة للاستعمار.

إنَّ أفريقيا ليست قارَّةً فولكلوريَّة تعجُّ بالألوان، مع حكايات شعوب سمر لا تنتهي ولا تفيد. كما أنَّ أفريقيا ليست أرضاً قدرُها الحتميُّ هو العُنف المُنبَجِس في كلِّ مكان منها وفي كلِّ وقت.

لا بُدَّ مِن التَّذكير بأنَّ ميثاق ماندي الَّذي جرى التَّوصُّل إليه في أفريقيا عام 1222، كان أوَّل إعلانٍ عالميٍّ لحقوق الإنسان في العالَم كلِّه. نعم، إنَّ مثلَ هذا الأمر العظيم تمَّ في أفريقيا قبلَ خمسة قرون ونصف قرن من النَّصِّ الفرنسيِّ الكبير المُنبثق من الثَّورة.

هذا النَّموذج ولد في حضن إمبراطوريَّة مالي. هذه الإمبراطوريَّة الواسعة الَّتي كانَت تمتدُّ مِن الصَّحراء إلى الغابة الاستوائيَّة، محاذية المحيط الأطلسي وحلقة النِّيجر.

إنَّ رقعة هذه الإمبراطوريَّة كانت تشتمل على جمهوريَّة مالي الحاليَّة وبوركينا فاسو وغامبيا وغينيا بيساو وموريتانيا، وقسماً كبيراً من السِّنِغال وساحل العاج.

هذا الميثاق تمَّ تخليده ضمنَ الإرث الثَّقافيِّ غير المادِّيِّ للإنسانيَّة بواسطة منظمة يونيسكو في سنة 2009.

التنظير والصياغة لمبادىء حقوق الانسان

من المدهش جدَّاً، اكتشافَ أنَّه، منذ القرن الثَّالث عشر الميلاديِّ، تمَّ التَّنظير والصِّياغة للمبادئ والمفاهيم الأساسيَّة حول حقوق الإنسان في أفريقيا. وإليكم الموادَّ المُكوِّنة لهذا الإعلان:

ليسَت هناك حياة أقدس أو أكثر حُرمةً أو أعلى شأناً من حياة أُخرى. يجب على كلِّ أحد أن لا يغضب على جارِه إلَّا بسببٍ مُوجب وأن لا يظلم قريبَه وأن لا يُعذِّبَ صنوَه. الخطأ في حقِّ الغير، يستدعي الإصلاح. كُنْ مُتضامناً مع النَّاس. اِسهَرْ على أمور الوطن. الجوع لا يليق بالإنسان، كما أنَّ استرقاق الإنسان ليس مقبولاً. يجب أن لا تخرب الحربُ أيَّة قرية بهدف جلبِ العبيد من الآن فصاعداً. وهذا يعني أنَّه لا يحقُّ لأيِّ إنسان أن يضعَ الخطام في أنفِ أيِّ إنسان آخَر، مثله، ليبيعَه عبداً، وأن يمنعَ ضربَ أيِّ شخص، ناهيك من قتلِه بسبب أنَّه نجلُ عبد. كلُّ إنسانٍ حرٌّ في القيام بأعماله في إطار احترام محظورات قوانين بلده.

كلُّ هذه الأمور الجميلة لم يدم احترامُها مع مرور الزَّمن، ولكنْ يمكنني أن أذكر، أيضاً، أنَّ فرنسا كانت قد أعادَت نظام الرِّقِّ بعد إلغائه!.

إنَّني أذكر هذا الماضي بغرضِ توضيح الحاضر، وأنَّ تاريخ أفريقيا لم يبدأ مع الاستعمار. بل إنَّ الأخير أوقف الدِّيناميكيَّة الَّتي كانت سائدة في أفريقيا.

من الطَّبيعيِّ أن تكونَ هذه الدِّيناميكيَّات مُتناقضة في بعض جوانبِها، ولكن هذا ليس مُقتصراً على أفريقيا، بل هو نفس ما ينطبق على بقيَّة دول العالم.

والآن، ماذا عن ثورة تورودو؟

في القرن الثَّامن عشر الميلاديِّ، قام علماء مُسلمون في فوتا تورو، المنطقة الأصليَّة لوالدي، بتنظيم ثورةٍ ضدَّ دينياكوبيين الحاكمين في هذا الوقت. وكان هدفُهم، بالدَّرجة الأولى، محاربة تجارة الرِّقِّ الَّتي كان يُمارسها الفرنسيُّون والبريطانيُّون, وكذلك لإيقاف غارات السَّلب والنَّهب من بعض القبائل الموريَّة.

وبتشجيعٍ من سليمان بال، قام أتباع هؤلاء العلماء بطردِ الأُسرة الدِّينيانكوبيَّة من الحُكم، كما أوقفوا غارات السَّلب من الجيران في الشَّمال، وحظروا أيضاً تجارةَ الرِّقِّ في سنة 1776. وهذا يعني أنَّهم سبقوا الولايات المتَّحدة إلى حظر تجارة الرِّقِّ بتسعين سنة.

بقي نظامُ تورودو حاكماً في فوتا إلى وقتِ مجيء الاستعمار سنة 1880. لا بُدَّ من تذكيرٍ مُوجَز بأهمِّ مميِّزات هذه الثَّورة بهدف فهمها فهماً أفضل.

على أساس استلهامِ المبادئ الإسلاميَّة، أقام هؤلاء القوَّاد دولةً قائمة على العدل في سنة 1776. كما قامَت هذه الدَّولة بإنهاء الامتيازات المتوارَثة، وتغليب معايير العِلم والكفاءة والنَّزاهة الخُلُقيَّة في مجال ممارسة السُّلطة. كان من شروط نصب تنصيب الألماميِّ (الإمام) أن تتوفَّر فيه المواصفات المذكورة.

انتصرَ سليمان بال وأتباعُه، وتمكَّنوا من إسقاط نظام دينيانكوبي بفضل خطاباتهم المُهيِّجة للجماهير والمُحرِّرة لهم.

ومن أسباب انتصارهم أيضاً، كون رؤساء جيش سالتيكي سلي نجاي الأوَّل، المنحدرين من جماعة سيبي كوليابي نقضوا التَّحالف معه، وذلك عندما أدركوا أنَّ هذا النِّظام يسعى لإهانتهم.

إنَّ سليمان بال، قائد جماعة بير سانيوخور، إدراكاً منه لمعاني النَّخوة العالية لدى جماعة كوليابي، دبَّر مكيدةً لسالتيكي. وهذا المشهَد يستحقُّ أن نتوقَّف عندَه.

عندما حضر الشَّيخ سليمان بال مجلساً لسلي نجاي الأوَّل، بعد أن دعاه الأخير لحضورِ هذا المجلس، سأل الشَّيخُ مُضيفَه عن السَّبب الَّذي جعله يتزوَّج بمائة زوجة، بينما الإسلام لا يُجيز إلَّا أربع زوجات؟

أجابَ الحاكِم على سؤال الشَّيخ بقوله: “إنَّني لم أتزوَّج، حقيقة، إلَّا بأربع نسوة فقط. والباقيات كلُّهنَّ إماء، وغالبيتهنَّ من جماعة سيبي كوليابي”. هذا هو الجواب الَّذي دقَّ ناقوس الخطر على حُكم دينيانكوبي (1526-1776)، وجعلَ الجيش ينقلب عليه. وبعد ذلك تمَّ إعلان قيام الألماميَّة على أسس ومعايير لاتزال مَثارَ إعجابٍ كبير لدى الباحثين المعاصرين. وهذه الأُسس هي:

فوتا منطقة واحدة لا تقبل التَّجزئة، والنَّهر لا يُشكِّل فاصلاً ولا حدوداً، لأنَّ الَّذين يسكنون في ضفَّتيه فلانيُّون. احترام مساواة الجميع أمام العدالة. رؤساء الولايات والقُرى، مساندة القضاة، هم الَّذين يُسيِّرون القضايا الاجتماعيَّة، وفق مبادئ الشَّريعة الإسلاميَّة. النِّزاعات الَّتي تقع بين الجماعات المحلِّيَّة ( البلدية والقروية) المتجاورة، يجب رفعُها إلى الألماميِّ لكي يصدر الحُكم اللَّازم فيها أو يدلَّ على الطَّريقة الَّتي تتمُّ بها تسوية النِّزاع. كلُّ شخصٍ له الحق في طلب استئناف الحُكم الصَّادر من أحد الرُّؤساء لدى الألماميِّ، إذا كان يشعر بأنَّ هذا الحُكم جائر أو غير مُنصف في حقِّه. الألماميُّ، بما أنَّه المسؤول عن الدِّفاع الوطنيِّ، يحقُّ له تجنيد كلِّ رجل قادر على ذلك. يجب حماية اليتامى والأطفال والشُّيوخ. لقب سالتيكي، أصبح مَحظوراً، واللَّقب الجديد لرئيس فوتا هو: الألماميُّ. الألماميُّ يجب تعيينه من مجلس Tagordé (هيئة النَّاخبين الكبار)، الَّذين يتمُّ انتخابهم من الولايات السِّتِّ لفوتا. وهذا القرار يجب أن يُصدِّقَ عليه مجلس BatuFouta (دار النَّدوة لأهل فوتا).

إنَّ العلماء الَّذين قاموا بثورة 1776،ذهبوا إلى أبعد مِن كلِّ ما سبق، حيث وضع لهم الشَّيخ سليمان بال توصيات عظيمة جدَّاً في مجال اختيار الحاكِم وممارسة السُّلطة.وهذه التَّوصيات هي:

الألماميُّ يجب أن يكون شخصاً مُتجرِّداً وزاهداً، لا يهتمُّ بجمع المال لنفسه ولا لأهله. إذا كان يتربَّح من منصبه، فإنَّه يجب عزله وأن تنتزع منه الأموال الَّتي تربَّح بها. إذا رفض التَّنحِّي، فإنَّه يجب عزلُه بالقوَّة وطردُه. بعدَ طرده، يجب استبداله برجلٍ آخَر كفؤ، مهما كانت أصوله الاجتماعيَّة. وظيفة الألماميِّ ليست بالوراثة. يجب أن لا يُنَصِّبَ الألماميُّ إلَّا رجلاً مؤهَّلاً.

وأذكر هنا، بأنَّني أنحدر من جماعة كوليابي المعروفين بتعلُّقهم الشَّديد بمعاني الشَّرف والقِيَم الأخلاقيَّة والشَّجاعة.

دحض كلمات واد

وهذا يكفي لدحضِ الكلمات المُنتِنَة الَّتي تفوَّه بها سلفي (عبد الله واد)حول أصول أُسرتي. هذه الكلمات التي أثارت سخطاً واسعاً على المُتفوِّه بها من جميع المثقَّفين السِّنِغاليِّين والأفارقة. إنَّ هذا الكلام كان يُشكِّل، في الحقيقة، شتيمةً لتاريخنا.

من خلالَ هذا التَّاريخ، نرى بأنَّ أفريقيا كانَت قد جسَّدَت الوحدة الوطنيَّة ومبادئ العدالة ومفهوم الممتلكات العامَّة. وهكذا، فإنَّ الاستعمار لم يكتفِ بإيقاف تطوُّرِنا الذَّاتيِّ، بل أضاف إلى ذلك تمزيق وحدة قارَّتنا، وجسَّدَ فيها ما يُسمِّيه سلفي ليوبولد سيدار سينغور “سياسة البَلْقَنَة”.

الرئيس السنغالي الأسبق ليوبولد سيدار سينغور

نظرة على خريطة أفريقيا

اليوم، عندما نُلقي نظرةً على خريطة أفريقيا، نندهش للتَّقسيم الَّذي خطَّطته ونفَّذته القوَّات الاستعماريَّة في مؤتمر برلين 1885،حيث قَطَّعُوا قارَّتَنا إلى دويلات تقطيعاً. مثال غامبيا والسِّنِغال من أغرب الأمثلة، إنَّهم رسموا شريطاً داخل السِّنِغال وقالوا :’’هذه القطعة تكون ناطقةً بالإنكليزيَّة، والقطعة الكبيرة المتبقِّية ناطقة بالفرنسيِّة، هذا في الوقت الَّذي يرجع فيه جميع هؤلاء السُّكَّان إلى أصلٍ واحد’’.

إنَّنا هنا، لا ندعو إلى إعادة هذا التَّقسيم الَّذي جرى منذ أكثر من مائة سنة، إذ أنه لا يمكن مراجعة ما هو ثابت في التَّاريخ، ولكن يمكننا أن نعملَ لتجاوز هذا التَّقسيم, أو التَّخفيف من آثاره، على الأقلِّ، بإيجاد مناطق للتَّبادل الحُرِّ وتنقُّل الأشخاص والأموال والخدمات، وأن نعمل حتَّى يشعرَ الأفارقة بأنَّهم عند ذويهم في كلِّ مكان في أفريقيا، سواءٌ في دولهم الأصليَّة أو في غيرها.

يرجع إلى السَّاسة أن يشعر المواطن الغامبيُّ أنَّه عند ذويه في السِّنِغال، والعكس صحيح.

إنَّ مثلَ هذه التَّطوُّرات جارية، ولكنَّها ستستغرق عقوداً من الزَّمن. فالدُّول الكبيرة الَّتي تُعرف اليوم في العالم، تطوَّرَ تكوُّنها خلال مائتي سنة. إنَّه لا يُمكن مطالبة الأفارقة بإنجاز الأمورِ نفسها خلال مُدَّة أقلَّ من الآخرين. المهمُّ هو أنَّ المسار قد بدأ يتحرَّك.

مِن بين الأحداث الرَّاهنة الَّتي وقعت خلال 2018، زيارة المستشارة الألمانيَّة أنجيلا مركل للدُّول الأفريقيَّة.

في 30 أغسطس، استقبلتُ هذه الزَّائرة في دكار. ولم يكن بُدٌّ مِن أن نتحدَّث عن أزمة الهجرة الَّتي تُزلزل، حاليَّاً، قارَّتينا ابتداءً من 2015.

نُجانبُ الحقيقةَ إذا قُلنا إنَّ جميع الشَّباب والنِّساء في أفريقيا لا يُفكِّرون إلَّا في مغادرتها. أنا أعتقد أنَّ الهجرة قديمة قِدَمَ العالَم. فأفريقيا كانت مهدَ الإنسانيَّة، ولكن بسبب هجرات قديمة،انتشرَ أجدادُنا في مختلف بقاع العالَم. إن هذه الظَّاهرة كانت موجودةً، دائما بين القارَّات. فالأوروبيون ذهبوا إلى الولايات المتَّحدة لاكتشافِ القارَّة الجديدة، وبدأت التَّبادلات بين أوروبَّا وأفريقيا منذ عهد الاستعمار، وذلك منذ مجيء الأوروبيِّين إلى القارَّة الأفريقيَّة في إطار التِّجارة المُثلثَّة، بهدف ممارسة تجارة الرِّق الَّتي هي أبشع جريمة ضدَّ الإنسانيَّة.

خلال الفترة الاستعماريَّة،جرى الاستنجاد بالأفارقة للمشاركة في تحرير بعضِ الدُّول الأوروبيَّة. وهكذا، قامت كلُّ قوَّة استعماريَّة بجلبِ جماعات بشريَّة مِن المخزون الأفريقيِّ لاستخدامها في الحرب. وتمَّ هذا الاستنجاد خلال الحربَين الكونيَّتَين اللَّتين سفكتَا دماءً كثيرة في القرن العشرين.

علينا ألا ننسى بأنَّ الأوروبيِّين استعانوا باليدِ العاملة الأفريقيَّة بعدَ الحرب العالميَّة الثَّانية. في هذا الوقت، لم تكن هناك حاجة إلى التَّأشيرات خلال موجات الهجرة الأولى. وكان كلُّ مَن يرغب، يُسافر إلى أوروبا وتُقدَّم له، في الحال، أوراق الإقامة.

من سنة 1950 إلى 1970، استقرَّت موجات الهجرة الأولى في أوروبَّا. وكون هؤلاء المهاجرين أُسَرَاً، أصبحوا قاطِنين وأصليِّين،بحسبَ التَّعبير الجاري.

منذ هذا التَّاريخ، بدأت مشاكل الاندماج تطرح نفسَها في أوروبَّا. وذلك لأنَّ هؤلاء المهاجرين،استوطنوا مع ثقافاتهم وتقاليدهم الَّتي لم تكن تتوافَق، بالضَّرورة، مع الثَّقافة الأوروبيَّة. والنَّتيجة معروفة، هي أنَّ النَّاس في ضواحي المدن الأوروبيَّة، الَّذين يُشكِّل كثيرون منهم ذُرِّيَّة المهاجرين، بدأوا يتذمَّرون ويتمرَّدون بسبب شعورِهم أنَّهم يعانون إقصاءً في حضن المجتمع الأوروبي.

اليوم، نُعاني من ظاهرة جديدة ناجمة من حربَين حديثتَي العهد هنا : الحرب الَّتي وقعَت في ليبيا، وتلك الَّتي وقعَت في سوريا. إنَّ هاتين الحربين، سبَّبتا موجة هجرة واسعة لا مثيل لها. هناك أكثر من مليون سوريٍّ فرُّوا من بلدهم ودخلوا أوروبا، كما أنَّ هناك أكثر من ثلاثة ملايين سوري في تركيا و1. 5 مليون في لبنان.

إنَّ مركل استقبلت، بدورها، مليون مهاجر من جميع الدُّول. هذا الوضع كانت له نتائج سيِّئة جدَّاً في السَّاحة السِّياسيَّة الألمانيَّة، كما سبَّبَ صعوبات كبيرة في أوروبا.

بعض النَّاس قد يعترضونَ عليَّ ويقولون: هذه الموجة من المهاجرين لا تتعلَّق بجميع الدُّول الأفريقيَّة. فسوريا وليبيا ليستَا مثل السِّنِغال أو مثل نيجيريا، وأنَّ عدد المهاجرين، تنامى بصفة مُطَّردة بعد تفكيك الحِلف الأطلسيِّ لليبيا إثرَ سقوط حُكم العقيد معمر القذَّافي، وأنَّ هذا التَّفكيك جعلَ النَّزعة القَبَليَّة سائدة في

ليبيا، كما أنَّها أضعفَت هذا البلد كثيراً، لأنَّه لم يعد هناك أيَّة دولة مركزيَّة، وأنَّ هذا الوضع فتحَ الفرصةَ لكافَّة أنواع الجرائم: تهريب البضائع المحظورة، والنَّقل غير الشَّرعيِّ للمهاجرين, وتجارة الرِّقِّ وعصابات المافيا النَّاشطة في مجال النَّخاسة الجديدة. كلُّ هذه الأوضاع تجعل جنوبَ أوروبَّا مُعرَّضاً لهذه الموجة من الهجرة الآتية من أفريقيا، كما أنَّ شرقَها يُعاني أيضاً من موجة الهجرة القادمة من سوريا ومن العراق. إنَّ أوروبَّا تجد نفسَها، الآن، أمامَ تيَّارات عاجزةٌ عن التَّعامل معها. أنا أفهم، من جهة، سعي أوروبَّا لإعادة تنظيم أمورها الدَّاخليَّة، كما أفهم عدمَ حِرصِ الأفارقة على أن لا تتفكَّك أوروبَّا، لأنَّ ذلك لا يصبُّ في مصلحتِهم أبداً. والحلُّ لا يكمن في القول إنَّه لا بُدَّ مِن ترك النَّاس يهاجرون هجرةً غير شرعيَّة، وأنَّ على أوروبَّا أن تواجه مشكلتَها هي بما تستطيع.

الرئيس السنغالي ماكي سال مستقبلًا المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عند وصولها إلى مطار بليز ديان في ضواحي داكار يوم 29 أغسطس 2016

التعاون مع أوروبا لإبقاء قوانا العاملة في قارتنا

الحلُّ الصَّحيح يكمن في أنَّه يجب علينا أن نتعاونَ مع أوروبَّا لكي تبقى قوانا العاملة في قارَّتنا. إنَّ أفريقيا تُسجِّل نموَّاً مُستمرَّاً وقويَّاً يجعلها في أمسِّ الحاجة إلى مواردها البشريَّة، وإلى شبابها، ولكنَّ هؤلاء الشَّباب لا بُدَّ مِن تكوينهم وإبقائهم في أفريقيا في ظروف مُستقبليَّة واعدة، كما يجب علينا أن نعملَ معاً في مثل هذه الملفَّات، مِن أجل إيجاد مشاريع بديلة تُعطي الشَّباب تَطلُّعات مُستقبليَّة تجعلها لا تُفكِّر في الهجرة إلى أوروبَّا.

إليكُم ما قُلته لمركل: “إنَّ الهدف الوجوديَّ للشَّباب الإفريقيِّ ليس الغَرق في البحر الأبيض ولا الهجرة السِّرِّيَّة. إنَّه يجب علينا محاربة الهجرة السِّرِّيَّة والعصابات المُتاجرة بالبشر، مع العمل على بذلِ مزيد من الجهود لتشجيع حرِّيَّة الانتقال وإيجاد الفرص المواتية في أفريقيا”.

إبراز الصعوبات

في كلِّ مرَّةٍ يجري الحديث فيها حول أفريقيا، إنِّما يكون بهدف إبراز صعوباتها. ويجدُ البعض صعوبةً أن يكون مُتفائلاً عندما يتعلَّق الأمر بأفريقيا. وهذا النَّوع من الخطاب، لا يُشجِّع الشَّباب على البقاء فيها.

أظنُّ أنَّه إذا كان يجب أن نكون شركاء، ندَّاً لند، فإنَّه على الأفارقة أن يهتمُّوا بتكوين شبابهم، وأن يُوفِّروا لهم فرص التَّوظيف بالتَّعاون مع الاتِّحاد الأوروبي.

أرى أنَّه من الأفضل الاستثمار معاً في تطلُّعات مُستقبليَّة تُحقِّق الآمال للجميع، وتؤدِّي إلى التَّفتُّح والنَّجاح، وخاصَّةً للشَّباب الإفريقيِّ، وأن نسمحَ لدولنا وللدُّول الأوروبيَّة بعيش مُريح، بدلَ إنفاق المليارات لمراقبة الحدودِ الَّتي دلَّت التَّجارب على أنَّها قليلة الجدوى.

إنَّ كثرة الحوادث المؤسِفة في فضاء شينغن، تُبرهن على قلَّة جدوى هذه الأساليب. فَالحلُّ يجب أن يتمَّ بواسطة شراكة بينيَّة مُخلِصة،وبالتالي فإنَّ واجبنا هو ألا نترك شبابنا تحت رحمة مهربي البشر. إنَّهم يعاملون معاملة سيِّئة جدَّاً من ميناء إلى آخَر، كما لو كانُوا أشخاصاً منبوذين. إنَّ هذا يصدمنا صدمةً قويَّة، ومِن غير المعقول أن تقولَ بعضُ الدُّول “إننا أخذنا منهم خمسة أو عشرة أو خمسة وعشرين”،لذا يجب علينا أن نعملَ معاً، يداً بيد.

لقد وضعنَا بعضَ التَّرتيبات مثل”المقاولات السَّريعة للشَّباب وللنِّساء”.وبالتَّعاون مع إسبانيا أيضاً، أطلقنَا مشروع “الأرض المزرعة” الَّذي يتمثَّل في تهيئة مساحات للزِّراعة ولتربية الأسماك في أحجام مُختلفة. وهذه المزارع تُسمَّى “مزارع الازدهار” (ناتانكي). إنَّها مزارع أُسريَّة في مساحات تتراوح ما بين خمسة إلى عشرة هكتارات. نقوم بهذه المشاريع مع إسبانيا فقط، ولكنَّا ندعو بقيَّة دول الاتِّحاد الأوروبي إلى التَّعاون معنا فيها. هناك حلول يمكن لأوروبَّا أن تتعاون فيها مع القارَّة الأفريقيَّة. إنَّنا مُقتنعون أنَّه ليس هناك أيُّ حلٍّ آخَر، سوى مواجهة كابوس حروب لا تنتهي.

إذا تأمَّلنا في السِّنِغال، سنجده مُتشبِّثاً بسياسات الإدماج الاقتصاديِّ والإقليميِّ في قارَّتنا. نحن ثبَّتنا هذا التَّوجُّه في دستورنا، حيث جاء فيه: “السِّنِغال يعمل من أجل وحدة القارَّة الأفريقيَّة”، عندنا ولدينا علاقات ديبلوماسيَّة في دوائر مُتداخلة .هناك، أوَّلاً: علاقاتنا مع الجيران المباشرين في إطار منظَّمة استغلال نهر السِّنِغال، ومنظَّمة استغلال نهر غامبيا، واللَّجنة المشتركة بين دول السَّاحل لمحاربةِ الجفاف.

ثانيا،علاقاتُنا مع دول المنطقة في إطار جمعيَّات خاصَّة بالجماعة الأفريقيَّة مثل الاتِّحاد الاقتصاديِّ والنَّقديِّ لدول غرب أفريقيا، وكذلك المجموعة الاقتصاديَّة لدول غرب أفريقيا (سيدياو).

السِّنِغال أدرك دوماً أنَّه بلدُ الحوار وترقية قِيَم السَّلام، لأجل هذا، كُنَّا نقوم دائماً بأدوار مُهمَّة في احتضانِ هذه المنظَّمات منذ الاستقلال.

عندنا ورقة رابحة، تتمثَّل في أنَّ مدينة دكار كانت عاصمةً لأفريقيا الغربيَّة النَّاطقة بالفرنسيَّة. هذا الوضع جعلَ النُّخبة الأفريقيَّة النَّاطقة بالفرنسية تعتادُ أن تجعل من دكار محلَّ إقامة لها.

واقعيَّاً، لم نكن يوماً بلداً في حالة حرب، والسِّنِغال أيضاً، لم يعرف هذه النِّزاعات الدَّاخليَّة والخارجيَّة مثل بعض دول أفريقيا.

إنَّ بلدنا يُشكِّل نموذجاً جميلاً للاستقرار. فمنذ القرنين السَّابع عشر والثَّامن عشر، كان السِّنِغال ينتهج سياسةً مُنفتِحَة. وقبل مجيء المُستعمر، كان السِّنِغال حافلاً بحياة نشيطة جدَّاً في المجال العلميِّ والرُّوحيِّ. اذ كان على رأس جميع مراكزنا الدِّينيَّة شيوخ وعلماء كبار، فمنذ القرن الثَّامن عشر ضمَّت الجامعات عندنا، علماء متخصِّصين. كما كان لدينا، جنباً إلى جنب، المدرسة العربيَّة الإسلاميَّة والمدرسة الفرنسيَّة.

نحن نعيش في تسامحٍ وتعايشٍ سلميٍّ مُشترَك بين الجميع.

السنغاليون والحرية وروح المبادرة الجميلة

إنَّ الشَّعب السِّنِغاليَّ يتميَّز، دائماً، بالحُرِّيَّة وروح المبادرة الجميلة في المجال العقليِّ والسُّلوكيِّ. هذه معطيات أساسيَّة، كانت السُّلطات الاستعماريَّة تأخذها بعين الاعتبار في التَّعامل مع السِّنِغاليِّين بالأمس، وكذلك الدَّولة المستقلَّة اليوم.

لأجلِ هذا، فإنَّ الحياة العموميَّة في السِّنِغال كانت، في وقت مُبكِّر، تُحرِّكُها تشكيلاتٌ سياسيَّة، على رأسها قادة ومُفكِّرون ذوو مكانة مرموقة. واليوم، بعدَ تداولَين سِلميَّينِ للسُّلطة نالَا استحسان الجميع، فإنَّ ديمقراطيَّتنا المُتعدِّدة الأطراف،تجدُ نفسَها في طريق سَلِسةٍ لا تراجُع فيها.

من الواضِح أنَّه لا يوجد نظامٌ كاملٌ من جميع النَّواحي، من ثمَّ، فإنَّ علينا أن نسعى، دوماً، لتحسين صورة ديمقراطيَّتنا، حتَّى تقوم بأدوارها على أحسن وجه.

خلال الانتخابات الَّتي جرت، حتَّى الآن، في بلدنا، ظهرت بعض أوجه النَّقص إلى جانب أوجه قوَّة في ديمقراطيَّتنا. إنَّا شرعَنا في بذلِ جهود عمليَّة هادفة إلى مزيد من العَقلَنَة والتِّنقية لأجوائنا السِّياسيَّة الَّتي يتعايش فيها ثلاثمائة حزبٍ سياسيٍّ.

من المعلوم أنَّ هدفَ وجودِ هذه الأحزاب السِّياسيَّة، هو السَّعي للحصول على أصوات النَّاخبين ومُمارسة السُّلطة إذا حصلوا على الأغلبيَّة، أو أن يكونُوا في المعارضة من دون هذه الأغلبيَّة. إنَّ الحصول على الأغلبيَّة والحُكم بواسطتها أو القيام بالمعارضة السِّياسيَّة، كلُّ واحد منهما أساسيٌّ وضروريٌّ لتحقيق أفضل سير لديمقراطيَّتنا.

بوصفي رئيس الجمهوريَّة والضَّامن القانونيَّ للحُرِّيَّات الأساسيَّة، فإنِّي شديد التَّعلُّق والحرص على توفير أفضل صحَّة لديمقراطيَّتنا. لا أدَّخرُ جُهداً مُمكناً في سبيل ترسيخ هذه الدِّيمقراطيَّة وجعلها مُتفتحة دونَ عائق.

سنغور بنى أمة سنغالية متجانسة

إنَّ فضلَ الرَّئيس ليوبولد سيدار سنغور ومُناصريه علينا، هو التَّمكُّن من بناء أُمَّة سنغاليَّة مُتجانسة، وإدارة الاختلافات العِرقيَّة والدِّينيَّة بنجاح، والعمل على تقوية إرادة مُشتركة للتَّعايش السِّلميِّ. نحنُ ورثة تقاليد مُمتدَّة الجذور في هذا المجال.

علينا ألَّا ننسى أنَّه في سنة 1914، تمَّ انتخاب بليز ديان كأوَّل نائبٍ برلمانيٍّ سنغاليٍّ

في قصر بوربون بفرنسا. ثمَّ انتُخِبَ بعد ذلك كالندو ضيوف في سنة 1934، ثمَّ لمين غي في سنة 1946، ثمَّ سنغور، المشهور جدَّاً، والَّذي كان وزيراً للجمهوريَّة الفرنسيَّة.

لا شكَّ أنَّنا عانينا مشاكل دستوريَّة بعد الاستقلال,وهي مشاكل ترجع إلى طبيعة نظامنا شبه البرلمانيِّ. فرئيس المجلس ورئيس الجمهوريَّة، لم يكونا يتَّفقان دائماً. كُنَّا قريبين جدَّاً مِن مواجهات عنيفة، مَا استدعى تدخُّل الجيش في إطار انقلابٍ عسكريٍّ مَظنون، لكنْ كلُّ شيءٍ عاد بعد ذلك إلى الشَّرعيَّة، رغم فترة من تاريخنا تميَّزت بتمزُّقٍ حادٍّ.

فمنذ هذا التَّاريخ، تمكَّنَّا من بناء مكوِّنات الدَّولة، وخاصَّةً، الجيش، على أساس نظام في التَّجنيد يتَّصِف بفعاليَّة عالية.

إنَّ جنودَنا يكتتبون مِن جميع أقاليم السِّنِغال وفقَ طريقة الحصص. لأجل هذا، فهو جيشٌ حقيقيٌّ للشَّعب، وجيشٌ جمهوريٌّ للغاية.

حدثت لدينا سبعُ تعديلات دستوريَّة منذ الاستقلال. وبعض هذه التَّعديلات كانت طفيفة، وبعضها كبيرة.

في عام 2000 ، قام الرَّئيس عبد الله واد بإصدار دستورٍ جديد بعدَ وصوله إلى السُّلطة. أمَّا أنا، فقد حافظتُ على هذا الدُّستور مع إجراء إصلاحات وتعديلات فيما يتعلَّق بإدارة الموارد الماليَّة، وتوسيع حرِّيَّات المواطنين بصفة أكثر امتداداً، وتقوية سُلطة البرلمان.

كنتُ أوَّل رئيس يسمح للجمعيَّة العموميَّة الوطنيَّة بإجراء تقييم لجميع السِّياسات العموميَّة. وتمَّ أيضاً تعديل المجلس الدُّستوريِّ في عهدي. هكذا أصبح رئيس الجمعيَّة العموميَّة الوطنيَّة يُعيِّنُ عضوين من سبعة أعضاء المجلس الدُّستوريِّ. أمَّا مِن قبل، فقد كان رئيس الجمهوريَّة هو الَّذي يُعيِّن جميع الأعضاء.

ومن الصُّوَر النَّمطيَّة المثيرة للسُّخرية، حقَّاً، في أفريقيا، هؤلاء الرُّؤساء الَّذين يتمُّ انتخابهم بنسبة 90 في المائة في غياب أو تغييب معارضة جادَّة.

أمَّا في السِّنِغال، فقد أُتيحت الفرصة لمترشَّحين مُتعدِّدين جدَّاً، لأجل هذا طرحتُ مسألة “الرِّعاية الانتخابيَّة”.

الرعاية الانتخابية

فمنذ 1963، نص في دستورنا بحروف من نور”أنَّه لا بُدَّ من الحصول على الرِّعاية الانتخابيَّة لكلِّ مُترشَّح للانتخابات الرِّئاسيَّة. وتتمُّ هذه الرِّعاية الانتخابيَّة بجمع توقيعات خمسين من المواطنين، عشرة منهم يجب أن يكونوا نُوَّاب برلمانيِّين. وهذا الأمر كان شبه مُستحيل، وتغيَّر، الآن، مع التَّطوُّر الدِّيمغرافيِّ الَّذي حدث في البلد.

ابتداءً من سنة 1992 ، أصبحَت هذه الرِّعاية الانتخابيَّة تقتضي الحصولَ على عشرة آلاف توقيع، خمسمائة منها مُتوزِّعة بين ما لا يقلُّ عن سبعة من الأقاليم التِّسعة الَّتي كان السِّنِغال يتألَّف منها. بعد ذلك، وصلنا إلى تنامٍ كبير جدَّاً لعدد الأحزاب السِّياسيَّة. الآن عندنا أكثر من 300 حزب في وقتِ كتابتي لهذه السُّطور.

في 2014، رأينا 47 قائمة تتزاحم في الانتخابات المحلِّيَّة. إزاء هذا الأمر، كُنَّا مُضطرِّين لوضع نظامٍ لضبط هذه الحالة. في الانتخابات التَّشريعيَّة لشهر يوليو 2017 ، كان عددُ القوائم الانتخابيَّة المتوفِّرة 47، الأمر الَّذي كان يُشكِّل عشرات الأطنان مِن بطاقات التَّصويت. من ثمَّ، طلبنَا إصدار حُكم من المجلس الدُّستوريِّ، يسمح للمنتخبين بالتَّصويت على أساس خمس قوائم فقط دون المرور، إجباريَّاً، على 47. وهذا لا يمكن أن يكون تصويتاً مواطنيَّاً، بل يُشبه نوعاً من القِمَار!.

في ما يتعلَّق بالانتخابات الرِّئاسيَّة المُقبلة في 24 فبراير 2019، ومع هذه الأوضاع، يُمكننا أن نرى تَرشُّح مائة حزبٍ سياسيٍّ. لأجلِ هذه الأمور كلِّها، قُمنا بتعديل كيفيَّة الحصول على الرِّعاية الانتخابيَّة.

الآن، لا بُدَّ من الحصول على ما بين 0.8 و1 في المائة من مجموع المُسجَّلين في اللَّائحة الانتخابيَّة على المستوى الوطنيِّ. وهكذا أوجدنا رعايةً انتخابيَّةً مواطنيَّة.

ما بين 1990 و1992، كان عدد النَّاخبين في السِّنِغال 2.1 مليون، أمَّا الآن، فإنَّ عددَهم وصل إلى 6.8 ملايين. الآن، لا نطلب الرِّعاية الانتخابيَّة مِن المُنْتَخَبِينَ فقط، بل أصبحت مُمكنة لجميع المواطنين المُنْتَخِبِينَ. كان مِن شأن استمرارِ الحالة السَّابقة أن تكون لصالح السُّلطة أكثر من المعارضة.

إنَّ هذه الرِّعاية الانتخابيَّة واجبة على الأحزاب وعلى المترشَّحين المُستقلِّين على حدٍّ سواء. الرَّئيس المنتهية ولايته، يجب عليه أن يسعى للحصول على الرِّعاية الانتخابيَّة مثل أيِّ رئيس حزب آخَر أو تحالف أحزاب. إنَّ تكاليف الحملة الانتخابيَّة تقع على عاتق الدَّولة. ويجب على كلِّ مُترشَّح أن يتدبَّرَ أمورَه كما يرى.

إنَّ عربون المشاركة في الانتخابات، يساوي 65 مليون فرنك سيفا، أي ما يساوي 100 ألف يورو. وهذا المبلغ سيتمُّ تخفيضُه إلى 50 في المائة. وهذا يعني أنَّه، من الآن، يُمكن التَّرشُّح على أساس تقديم مبلغ 30 مليون فرنك سيفا.

إذا حصل المُترشِّح على أكثر مِن 5 في المائة من أصوات النَّاخبين، يُردُّ إليه المبلغ الَّذي دفعَه عربوناً للمشاركة.

 

خوض الحرب لترسيخ السلام

نحن كُنَّا دائماً ندعو إلى السَّلام والحوار، ولم تكن لدينا في أيِّ يومٍ نيَّةُ الهيمنة.حتَّى لو أردنا هذه الهيمنة، فإنَّ وضعَنا لا يسمح لنا بذلك.إنَّ السِّنِغال لم يَخُضْ يوماً حرباً إلَّا في سبيل ترسيخ السَّلام.

منذ 1961، كُنَّا حاضرين في مجال السَّلام في كونغو، كما سبق أن كُنَّا حاضرين في مختلف بقاع أفريقيا لخدمة هذه الرِّسالة النَّبيلة. وكُنَّا في الاونة الاخيرة في ليبيريا وفي كوت ديفوار ، كما كُنَّا في دارفور في إطار بعثة الأُمم المتَّحدة. وحاليَّاً، نحن موجودون في مالي وفي غينيا بيساو وفي غامبيا. جيشنا من مُكوِّنات القُبَّعات الزرق للأمم المتَّحدة في لبنان وفي هايتي وأماكن أُخرى. كُنَّا من الأعضاء غير الدَّائمين في الأمم المتَّحدة مرَّتين، كما انتُخِبنَا، أخيراً، في مجلس حقوق الإنسان التَّابع للأمم المتَّحدة لمدَّة ثلاث سنوات.

كلُّ هذه الأمور تدلُّ على أنَّ لنا دوراً نقوم به، بكلِّ تواضع، ومُعتَرفٌ به لدى جميع دول العالَم.

فلنفكر في الجانب الاقتصادي

فلنُفكِّر الآن في الجانب الاقتصاديِّ للقارَّة الأفريقيَّة، الذي قد يصعب فهمُه. ولنتعرض لذكرِ أحوال الدُّول التي تشترك في استعمالِ عملة’’فرنك سيفا’’، الَّذي يُحقِّق لهم وحدةً اقتصاديَّةً ونقديَّة.

إنَّ فرنك سيفا،وحدةٌ نقديَّة أوجدتها فرنسا منذ فترة الاستعمار. وبعد الاستقلال، تغيَّرت هذه العملة من حيث الاسم، لكنَّ آليَّاتها بقيت كما كانت.

في الفترة الاستعماريَّة، كان مقرُّ البنك المركزيِّ في باريس. في سنة 1973، تمَّ تحويل المقرِّ إلى دكار. وبعد هذه الفترة، كان الأفارقة هم الَّذين يراقبون السِّياسة النَّقديَّة لهذه العملة. الآن، نتطوَّر، بصفة طبيعيَّة، نحو الإمساك الكُلِّيِّ بأيدينا بكل ما يتعلَّق بعملتنا. ولكن يجب أن نتجنَّب التَّسرُّع، لأنه يُمكن أن يُسبِّبَ لنا أموراً خطيرة جدَّاً.

إنَّ محيطُنا النَّقديُّ يشمل ثماني دول هي: كوت ديفوار وبوركنا فاسو ومالي وبينين والتوغو والنِّيجر والسِّنِغال وغينيا بيساو.

كلُّ هذه الدُّول تستعمل معاً عملة فرنك سيفا الَّتي هي، أُذكِّر، عملة المجموعة الماليَّة لأفريقيا. هذه الدُّول تشترك إذاً في مسائل ماليَّة مُوحَّدة بينها. هناك سياسة مُشتركة مع معايير مُحدَّدة بهدف دعم قوَّة عملتنا وقابليَّتها للصَّرف. عندنا أيضاً، تسعيرة خارجيَّة، تمَّ تبنِّيها على المستوى الجماعيِّ في مجموعة سيدياو، وتتعلَّق ب 15دولةً في منطقة غرب أفريقيا. إنَّنا نعمل، بكلِّ جِدٍّ، لتحقيق تجانسٍ نقديٍّ كامل.

الاتِّحاد الإفريقيُّ هو الَّذي يُشكِّل، الآن، المُنظَّمة المشتركة بين الحكومات الَّتي تعمل لجمعِ كافَّة الهيئات السِّياسيَّة في المجموعة الأفريقيَّة، في إطارٍ اتِّحاديٍّ على مستوى القارَّة كُلِّها، مع مواقف قويَّة في مجال العلاقات الدِّيبلوماسيَّة وترسيخ السَّلام والأمن.

في هذا الجانب أيضاً، يقوم السِّنِغال بدور مهمٍّ بوصفِه يتولَّى، حاليَّاً، الرِّئاسة الفعليَّة لِلَجنةِ التَّوجيه لرؤساء نيباد (الشَّراكة الجديدة من أجل تقدُّم أفريقيا).

نحن نعمل لكي تكونَ قارَّتنا في قلب أولويَّات عالَمنا، سواءٌ تعلَّق الأمر بمجموعة السَّبع أو مجموعة الثَّماني أو مجموعة العشرين أو مع شركائنا ثنائيِّي الأطراف من خلال قِمَم كثيرة: القمَّة الصِّينيَّة – الأفريقيَّة، والقمَّة الأفريقيَّة – الأوروبية، والقمَّة الأفريقيَّة – الفرنسيَّة.

مِن المُسَلَّم به، سواءٌ صرَّحنَا بذلك أم لا، والتَّصريح به أحسن، أن نقولَ بأنَّه لا يمكننا أن نوافقَ على فرض خيارٍ مُستقبليٍّ واحد لشبابنا يتمثَّل في استمرار الهجرة غير الشَّرعيَّة نحو أوروبَّا. إنَّ السَّبب الَّذي من أجله وُجِدَت الدُّول، يتنافى تماماً مع استمرارِ هذا الوضع. إنَّه لا بُدَّ من احترام كرامة الأفارقة. وهذا يستلزم مِنَّا أن نبذلَ كلَّ ما في إمكانيَّاتنا لتطوير مشاريع اقتصاديَّة حَيَّة في بلداننا. وللوصول إلى هذا، لا بُدَّ مِن توفُّر مزيد من العدالة في العلاقات الدُّوليَّة، والقيام بأفضل استخدام لمصادر الثَّورة الماليَّة في القارَّة الأفريقيَّة، والعمل على توقيع عقودِ شراكةٍ

على نحوٍ يجعل الثَّروات المنتجة موزَّعة توزيعاً قائماً على القِسط، وبالتالي لا بُدَّ من وجود علاقةِ شراكةٍ عادلة يربح فيها جميع الأطراف.

مِمَّا تقتضيه العدالة بإلحاح، إيجاد نظامٍ جديد في مجال استغلال ثرواتنا الطَّبيعيَّة. لقد جعلتُ من هذا الأمر معركةً شخصيَّة لي مع بعض الرُّؤساء الأفارقة. إذ يتوجَّبُ على قارَّتنا أن تُشجِّعَ إيجادَ قوانين مُتناسقة تُجنِّبُ بلادَنا التَّنافسَ المتصادم بين بعضنا البعض.

إنَّنا إذا استغلَّينا ما نستحقُّ مِن جهودنا وثرواتنا، لن نعود في حاجة إلى المعونة الرَّسميَّة الدُّوليَّة الّتي لا يمكنها أن تحلَّ أيَّةَ مُشكلة حقيقيَّة.

– المصدر- إيلاف

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button