المونديال: رهانات اللعب والهوية / السيد ولد أباه *
أنباء انفو- .فرح العرب كلهم، وحُق لهم الفرح، بالانتصارات الكروية الباهرة للفريق المغربي في مونديال قطر المستمر هذه الأيام. في بداية مباريات كأس العالم الجارية، ابتهجنا لفوز الفريق السعودي على أمة الكرة العظمى الأرجنتين، وسعدنا بانتصار تونس على فرنسا بطلة العالم في كرة القدم.
هذه الانتصارات العربية تندرج في سياق ما سماه عالم الاجتماع الفرنسي “جيل لبوفتسكي” بالقومية “الاحتفالية” التي تصاحب دوماً المناسبات الرياضية الكبرى.
لبوفتسكي يفرق بين هذا الضرب الاحتفائي من النزعة الوطنية وأنماط أخرى من النزعة نفسها، مثل الوطنية الجمهورية التي تشكلت في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، والوطنية الاستبدادية التي برزت في أواسط القرن الماضي (في ألمانيا وإيطاليا خصوصاً).
هل تكون المناسبات الرياضية الكبرى، وأهمها المونديال، هي البديل عن الحروب التي كانت في الماضي مظهرَ الشعور القومي الأهم، إلى حد أن هيغل اعتبر أن الحرب ضروريةً للصحة العقلية للشعوب؟!.
يبدو ذلك السؤال جوهرياً اليوم بعد أن عادت أوروبا إلى الحرب (الحرب الأوكرانية) إثر سبعة عقود من السلام، تزايد فيها الاهتمام بالمباريات الرياضية التي غدت الساحةَ الرمزية الشرعية الوحيدة للنزاع القومي بين الأمم والدول.
في كتابه “جيبولتيكا الكرة”، يعتبر باسكال بونيفاس أن الكرة غدت اليومَ عنصراً أساسياً من عناصر العلاقات الدولية الجديدة.
ومن هذا المنظور، يربط بونيفاس بين مسار هذه اللعبة الشعبية وحركية الاندماج العالمي، مبيِّناً كيف انتقلت من بريطانيا إلى مدن الموانئ التجارية في أوروبا، قبل أن تحملها سكك الحديد ثم التلفزيون إلى بقية العالَم، فتصبح إمبراطوريةً كونيةً كبرى ومحوراً من محاور المنظومة المالية والصناعية الدولية.
إن مفارقة كرة القدم تكمن في كونها من جهة أكثر رياضة شعبية في العالَم من حيث طبيعتها التقنية السهلة التي لا تتطلب تكويناً علمياً أو مدرسياً، ومن حيث جمهورها الممتد لأكثر الأحياء فقراً وهامشيةً، لكنها من جهة أخرى داخلة في صلب الرأسمالية التجارية والمالية العليا من حيث ريعها ومردوديتها إلى حد أن نجوم الكرة ينتمون إلى الطبقة الأورستقراطية المرفّهة ونوادي الكرة الكبرى أهم من كبريات الشركات والمصانع المنتجة.
ونجوم الكرة هم خليط من الأبطال الأسطوريين ومن “المرتزقة عابري الحدود”، حسب عبارة “روبرت ردكير” التي يعني بها اكتتاب النوادي الرياضية العالمية للاعبين المتفوقين من كل الدول والجنسيات، دون اعتبار للهويات والانتماءات القومية.
ومن هنا ندرك أن كرة القدم هي في أحد وجوهها آخر حصن قوي للهوية والقومية، لكنها من جهة أخرى تكرّس انتماءات رياضية من نمط جديد، حيث يترسخ الولاء للأندية التي لا وجه لها ولا هوية (البارسا وريال مدريد وليفربول وباير ميونيخ.. إلخ).
لا مناص من الاعتراف بأن كرة القدم كان لها دور متميز في بناء الهويات القومية في بلدان أميركا اللاتينية، حيث تشكل هذه اللعبةُ الشعبيةُ مرتكزاً من مرتكزات الاندماج الاجتماعي، كما أن أبطالها من نوع بيليه ومارادونا وميسي.. يعدون من الأبطال القوميين المقدسين.
وحتى في بلدان أوروبا الغربية، كانت المناسبات الكروية الكبرى أحداثاً قومية متميزةً، إلى حد أن الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك اعتبر أن فوز بلاده بكأس العالم سنة 1998 لا يختلف عن انتصاراتها التاريخية وأمجادها البطولية الكبرى.
المؤرخ الإنجليزي المعروف “أريك هوبزباوم” فسّر هذا التأثير الحاسم لكرة القدم، في الوعي القومي وفي الحس الشعبي، بالقول إن هذه الرياضة الشعبية تتمتع بخاصية استقطابِ أكثر الناس ابتعاداً عن السياسة ونأياً عن المجال العمومي، بحيث تسمح لهم دون صعوبة بالتماهي مع الأمة المجسَّدة رمزياً في منتخب محدود العدد. وما دامت كل أمة هي مجموعة «متخيلة» وليست حالة طبيعية بديهية، فإن التعبير الرمزي عنها في فريق لا يتجاوز أحد عشر لاعباً يبدو أكثر فاعليةً وأبعد تأثيراً.
والمثير في الأمر، أن أبطال المعارك غابوا عن الواجهة في الوقت الذي ارتفع فيه صيت أبطال الكرة.
لا أحد يعرف اليوم اسم أي من أبطال الحرب الأوكرانية الأخيرة التي اشتعلت منذ شهور في قلب القارة الأوروبية، بينما لا أحد يجهل أسماء اللاعبين والهدّافين الكرواتيين والإنجليز والفرنسيين.
ومن الواضح أن ذائقة السلم في العالم انتصرت على طبول الحرب، وغدت المواجهة الاحتفالية بين الأمم، والتي لا خطر فيها، المتنفسَ الوحيدَ للهويات القومية التي كثيراً ما دفعت في السابق للتعصب والحروب.
* باحث وأكاديمي