مكتبة المفكر الجزائري “أركون” تهدى بأكملها للمغرب
الخزانة التي وهبت للمكتبة الوطنية في الرباط، تضم أكثر من 12 ألف كتاب (خمسة آلاف مؤلف وسبعة آلاف مجلة)، معظمها ينتمي إلى حقول الفلسفة والنقد والتاريخ والترجمة. وتم توقيع “اتفاقية هبة” بين إدارة المكتبة الوطنية وعائلة المفكر الراحل ممثلة في زوجته ثريا اليعقوبي، رئيسة مؤسسة محمد أركون للسلام بين الثقافات. وتقضي هذه الاتفاقية بنقل محتويات خزانة محمد أركون المغربية فضلاً عن أرشيفه إلى فضاء خاص بالمكتبة الوطنية للمملكة المغربية، لتكون متاحة لعموم الطلبة والباحثين، كما ستخصص المكتبة الوطنية حيزاً يكون بمثابة متحف رمزي يضم مكتبه والأدوات التي كان يستعملها الراحل في الكتابة. وقد حضر حفل التوقيع وزير الثقافة ووزير الشؤون الإسلامية ورئيس مجلس الجالية المغربية بالخارج، ووجوه من عالم الثقافة والفكر، فضلاً عن أصدقاء الراحل.
وقد عبر مدير المكتبة الوطنية محمد الفران عن افتخاره بحصول مؤسسته على هذا الإرث الثقافي والفكري الكبير، مؤكداً أن هذا الحدث هو مناسبة للعودة إلى تجربة أركون من لدن الباحثين والدارسين المغاربة، كما أكدت أرملة المفكر الراحل حبه للمغرب، وانشغاله الدائم بالتراث الفكري والحضاري لهذا البلد الذي كان يضعه في المرتبة نفسها التي يضع فيها بلده الأصلي الجزائر.
الخصوصية المغاربية
ويأتي حب أركون للمغرب في سياق احتفائه الدائم بالخصوصية المغاربية، وتقديره تاريخ المغرب الذي يمتد إلى قرون عدة، وما عرفه هذا التاريخ من تحولات كبرى بدءاً من الحضارة الأمازيغية العريقة إلى مرحلة وصول الإسلام وما بعدها. فأركون، المؤرخ قبل المفكر، يعرف تاريخ المغرب جيداً، وقد احتفى بهذا التاريخ مرات عدة في مقابلاته التلفزيونية، خصوصاً في الوسط الإعلامي الفرنسي.
ويعتبر محمد أركون رمزاً للمثقف الذي يؤمن بضرورة اندماج البلدان المغاربية في نسق تفاعلي يعود على المنطقة بالنفع، بدل الانجرار وراء صراعات سياسية تضع بلداناً متجاورة ويجمع بينها مشترك ثقافي كبير في فخاخ النزاعات التي لا طائل منها.
وإذا كانت الجزائر هي البلاد التي ولد فيها محمد أركون سنة 1928 فإنه عاش منذ الخمسينيات في منزل بشارع سان ميشيل بالعاصمة الفرنسية باريس. واعتبر أن هذا الشارع كان فضاءً أساسياً لتجمع الطلبة المسلمين القادمين من بلدان المغرب العربي.
وكانت هذه النزعة المغاربية حاضرة بقوة لدى الطلبة المنتمين إلى المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا، وكانت تسبق، بحسب أركون، انتماءهم الوطني.
وعلى عكس المفكر الراحل محمد عابد الجابري الذي كان يدعو إلى تهميش اللهجات المحلية والانتصار للعربية وحدها، كان أركون يرى أن الأمازيغية كانت اللغة الأولى لقرون في بلدان شمال أفريقيا، وأن العمل على إلغائها وإبادتها يعتبر جريمة، مؤكداً أن ثقافات الشعوب تزداد غنى بالتعدد اللغوي، لذلك دعا إلى الفصل بين السياسة والأيديولوجيا من جهة، ومصائر اللغات والثقافات الإنسانية في الفضاء المغاربي من جهة ثانية. وانتقد أركون بشدة كل المحاولات الخارجية لإلغاء الخصوصية المغاربية.
ولد أركون في الجزائر وعاش في فرنسا ثم دفن في المغرب. وإذا كانت هذه البلدان الثلاثة هي مدار حياته، فإنه بالمقابل لم يكن يؤمن بأية هوية ضيقة. يقول في هذا الصدد “إبداعك هو هويتك التي اكتسبتها بعملك، لا بمولدك”.
وإذا كان منتقدوه في العالم العربي يعيبون عليه جنوحه إلى الغرب، فإنه صرح مراراً بأن هذا الغرب لم يفتح له أحضانه ولم يحتفِ به على النحو الذي يتصوره معارضوه. فالفرنسيون ينظرون إلى أي حامل جديد لجنسيتهم بريبة، ويظل بالنسبة إليهم محل شبهة، هذا ما أكده أركون بقوله “الفرنسي ذو الأصل الأجنبي مطالب دائماً بتقديم أمارات الولاء والطاعة والعرفان بالجميل، وباختصار إنه مشبوه باستمرار، وبخاصة إذا كان من أصل مسلم”. وقد كانت مقالة أركون عن سلمان رشدي في جريدة “لوموند” محكاً لخطاب الحرية الفكرية في فرنسا. فما إن انتقد أركون صاحب “آيات شيطانية”، وطرح عليه السؤال المحرج “كيف تريد أن تفتح حواراً حضارياً وأنت تطعن في أهم شخصية بالنسبة إلى المسلمين؟”، ويقصد بها الرسول، حتى انهالت على المفكر الجزائري الانتقادات اللاذعة، وصفات الأصولية والتطرف والتزمت وغيرها، وتم نبذه لفترة طويلة في الأوساط الثقافية الفرنسية.
يقول عن تلك التجربة “لقد نهضوا جميعاً ضد هذا المسلم الأصولي الذي يسمح لنفسه بأن يعلن أنه أستاذ في السوربون، ويا للفضيحة! لقد تجاوز أركون حدوده، وفي حين كانوا يدعون إلى التسامح والرأفة مع رشدي، ألحوا على نبذ أركون وعدم التسامح معه بأي شكل من الأشكال، لقد عشت لمدة أشهر طويلة بعد تلك الحادثة حالة المنبوذ”.
وفي الوقت الذي كان منتقدوه من العالم العربي يرون أنه يخدم أجندة غربية ضد الإسلام، كان هو حريصاً بالمقابل على تقديم نفسه في الأوساط الأوروبية بصفة “مثقف مسلم من أصل أمازيغي”، بحسب ما أورده الأكاديمي الفرنسي جيرار لوكلرك في كتابه “العولمة الثقافية. الحضارات على المحك”.
انخرط أركون في الحداثة، وكان من قادة مشاريعها في العالم العربي، إذ رأى أن العودة إلى الماضي ليست بالضرورة هي الحل لمشكلات العصر، حتى وإن كان ذلك الماضي مشرقاً، لذلك كان يتساءل في هذا الصدد “ماذا ينفع أن نفتخر بالماضي إذا كان حاضرنا بائساً؟”.
انتقد المفكر الراحل ظاهرة “الجهل المقدس” في المجتمعات العربية. ورأى أن المجتمع هو الذي أدى إلى تقديس الفاعلين الاجتماعيين للجهل، فالخطاب الديني المتداول في المجتمعات العربية يرسخ، بالنسبة إليه، عقائد دوغماتية من دون إخضاعها إلى تحليل تاريخي. وإذا كان أركون قد استعار مفهوم “الجهل المقدس” من المفكر الفرنسي أوليفيي روا فإنه نحت بالمقابل مفهوماً آخر سماه “الجهل المؤسس”، وينتقد عبره البرامج التعليمية التي تضعها مؤسسات الدولة في البلدان المغربية تحديداً، وهي برامج بالنسبة إلى أركون تقف ضد حرية التفكير، وتكرس بالتالي انغلاقاً معرفياً وفكرياً لدى أجيال متعاقبة، وتعمل على تقييد العقول حتى لا تنتج. وتساءل من باب التمثيل عن طريقة تدريس التاريخ العربي والإسلامي لطلاب المدارس والجامعات في البلدان العربية. وعاب على المدرسين العرب ضعفهم في التكوين والإدراك، ورأى أن الأستاذ الذي لا ينتج ولا ينجز البحوث ولا يقدمها للنقاش هو مساهم بالضرورة في الجهل المؤسس.
كان أركون يشكو عدم تشجيع البحث العلمي في البلدان العربية في مجال علوم الإنسان والمجتمع، وعبر عن سعادته بوجود مفكرين عرب في عصرنا لا يتوقفون عن البحث وطرح الأسئلة أمثال محمد عابد الجابري وحسن حنفي وعبدالله العروي وهشام جعيط وطيب تزيني، وتأسف بالمقابل لعدم وجود نقاش بين هؤلاء وغيرهم. وعزا غياب هذا الحوار إلى طبيعة العلاقات السياسية والثقافية بين بلدان العالم العربي، التي تنحو في غالبيتها إلى الانفصال وعدم التنسيق.
– المصدر : الإندبندنت عربية