مقالات

الخلفية الخفية لانقلاب 682008 في موريتانيا

بقلم الدكتور : أحمد سالم بن سيد محمد

Abu_albara1974@yahoo.com

من الطبيعي لدى أي مراقب للشأن الموريتاني أن يَحدث انحراف في المسار الديمقراطي الذي أشرف العسكر على تنظيمه بعد انقلابهم بتاريخ3\8\2005 بقيادة العقيد على ولد محمد فال لأسباب ستُظهِرها فقرات هذا المقال.

معلوم أن توقيت انقلاب 2005 كان مناسبا، لما كانت الساحة الداخلية تعج به من أزمات خانقة، وملفات معقدة من جهة، ولكون الانقلاب تم والرئيس خارج البلاد، وكان العقيد مدير الأمن الوطني الموكلَ بإدارة الدولة في غياب الرئيس، فلم يكلفه الأمر غير إعلان النبأ في وسائل الإعلام، ثم رفعَه سماعةَ الهاتف على السفراء الأجانب ليأتوا إليه فيشرح لهم الدواعي ويبرر لهم الخطوة التي كان ينتظرها المجتمع المدني والأحزاب السياسية وشيعتها بفارغ الصبر، ولم يحتج لصناعة مظاهرات تؤيده، بل خرجت الجماهير تلقائيا وملأت الشوارع ابتهاجا وسرورا برحيل العقيد القديم، لا بقدوم الجديد، بل كان ذلك محل ريبة من طرف الكثير من العامة، فضلا عن المثقفين.

ولعل ولد فال كان على يقين أن الحقد على النظام الطائعي ذو خط بياني متصاعد، وأن كراهيته في قلوب الشعوب بلغت غايتها القصوى، وبحكم شراكته العضوية في جميع الملفات، وانطلاقا من كونه راسمَ السياسة الأمنية ومنفذَها على مدى عشرين سنة فإنه سيكون أكبر المتضررين لو انفجرت الأمور وخرجت عن السيطرة، فوازن بين خياراته، وضر ب أخماسا بأسداس، فأنتجت حساباته ضرورةَ التخلص من معاوية، وأن عليه أن يهندس صيغةً يحصل بها على عفو ضمني من المجتمع عن تاريخه في مكتب الأمن، ويأخذ بذلك حصانة داخلية وخارجية من الملاحقات، بل سمت همته إلى أن يصبح رمزا وطنيا، لأن ذاكرة الفرد الموريتاني وإن كانت قوية في حفظ النصوص فإنها ضعيفة في عملية التوثيق للأحداث وتسجيل الوقائع.
وفي سبيل خطته تلك قاد الانقلاب، وحدد مدة زمنية لبقائه في الحكم، ومنع أفراد المؤسسة العسكرية من الترشح لأي منصب انتخابي، وأدار العملية بتواصل قوي مع الإعلام أقنع فيه المراقب الخارجي والعامة من الشعب الموريتاني بصدقه وحياده، مستعملا خبرته البوليسية وشخصيته الحديدية، فلم يثنه عدم البيان عن التحدث، ولم تؤثر عزلته الطويلة عن الأعين عليه، لعله يجد نفسه في آخر المطاف نِدا لسوار الذهب، مخلصا للبلد، راغبا عن السلطة، وفيا بما قال، مُرحَّبا به في جميع المحافل العربية والدولية، يؤخذ برأيه، وتتوالى عليه الدعوات لحضور المؤتمرات، وترغب الهيئات الفكرية والمؤسسات الإعلامية في الاستماع لحديثه، لعل الحكام يستفيدون من تجربته الفذة، وقدرته النادرة في التخلص من شهوة الحكم وسلطان الكرسي.
أما الجزء الخفي في انقلاب 6\8\2008 ( انقلاب ولد عبد العزيز) فهو ما لم يُقًلْ حتى الآن، والحديث عنه يحتاج إلى استحضار قوي للأحداث الماضية، وقراءة إيحاءاتها، وتحليل ما لها من دلالات، ذلك أن أواخر الأحداث لا يمكن أن تنفصل عن أوائلها في المشهد السياسي.

وأكبر مؤشر على حتمية الانحراف في المسار الديمقراطي هو تدخل العساكرة أنفسِهم في العملية الانتخابية، مما جعل فئة من الشهداء على ما جرى – وبينهم كاتب هذه السطور – تدرك أن كل ما تم إنما هو تنفيس للاحتقان، وتخفيف للأزمة، ولم يعد الأمر أن كان ترحيلا للملفات المعقدة، وتأجيلا لما كان ملحا من حلها.

حسابات العسكر تقول: إنهم أكثر المسئولين تعرضا للخطر إذا سلموا الأمر لسلطان مدني، ذي إرادة مستقلة، وقدرات قيادية، فكل من نفذت بحقهم أحكام جائرة، أو منعوا حقوقا طبيعية لهم على يقين نابع من المعرفة أن العسكر وضباط الأمن هم أداة ذلك التنفيذ ومنفذو ذلك المنع،هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى تقول حساباتهم: إن إدارة الدولة بالقبعة العسكرية لم تعد سائغة، لا داخليا ولا خارجيا، فما المخرج؟

المخرج في نظرهم هو تسليم السلطة لرئيس انتقالي، صاحب تجربة طويلة في الإدارة، وذي رأس مشتعل شيبا، من تيار مقبول إقليميا، منتسب لعائلة ذات رصيد من العلاقات الداخلية، لا يريد من السلطان إلا أن يتوج حياته السبعينية بالدخول في نادي الرؤساء، وإن بقيت في العمر بقية فليتمتع بما يمنحه القانون من ميزات لأمثاله.

وبعد البحث والتنقيب وجدوا ضالتهم في السيد سيد محمد، والفاعلون القبليون في المجتمع الموريتاني طيلة المرحلة الفالية كانوا يسمرون على ما كان يبديه ولد عبد العزيز من استماتة وإصرار على إنجاح سيد محمد، إصرارٍ يصل مع البعض منهم درجة التهديد، وقد قال لعين من أعيان الولاية الأولى ستكون إحدي بناته لاحقا وزيرة: إنه سيدافع عن وصول سيد محمد للقصر ولو كلفه ذلك استعمال بندقيته – ولك أن تتخيل حياد العسكر – والنخبة السياسية تعلم جيدا أن الجنرال المنقلب حاليا كان من يتولى عقد الولاءات قبل الحملة، وأثناءها، وبعد التنصيب، وعند تشكيل الحكومات الثلاث التي لم يزد مجموع عمرها على 15 شهرا، وكان يقوم بذلك بوصفه le porte parole عن سيد محمد من جهة، وعن ولد محمد فال من جهة ثانية، فأهل البلد يعرفون ما بينهما من وشائج القربى وأواصر الصلة.

ومن الغباء في السياسة أن يفهم تفكيك الحزب الجمهوري، وتشتيته أيدي سبأ، وتحويله إلى كتلة للمستقلين تصرفا بريئا وخطوة عبثية، ومن ضعف الإدراك السياسي الاعتقاد بأن ما شُنَّ على حكومة الدكتور الزين ولد زيدان من حملات تشنيع، وتخوين، واتهام بالقصور والعجز والفساد وما توالى عليها من ضغوط أفضى في استقالتها قد تم دون عقل يدبره، وما التشهير بزوجة الرئيس، وفتح ملف للتحقيق معها، ومحاولة حجب الثقة عن حكومة لم تقدم برنامجها التسييري، ودعوة البرلمان لتشكيل محكمة العدل السامية، وإقدام الصحافة المأجورة على رسم الرئيس وهو يرتدي تنوره إلا حلقات ممهدة للفصل الأخير.
وقد حاول السيد الرئيس أن يتعالى على تلك الحيثيات وأن يترفع بحكم سنه ومكانته عن صغائر المشوشات، مؤكدا ثقته في ضباطه الذين آزروه في الانتخابات، ورد لهم جميلهم بترفيعهم وترقيتهم على من هم أرسخ منهم قدما، وأكثر تأهيلا في القوات المسلحة، وما كان يخطر بباله انه بتلك المراسيم يرسم نهايته بيده، وما كاد يسدل الستار على الفصل الأخير حتى أدرك أن الأمر جد، وأن مرحلته الانتقالية آذنت بالزوال، وأن المهمة التي جيء به من أجلها قد انتهت، فتحرك مقيدا ليسجل نقاطا لعلها تحسب له لاحقا، فبدل أن يُعزل محاكما بالخيانة العظمى فضل العزل بقرار إقالة ولد عبد العزيز، ولك أن تتخيله يحرر قرار الإقالة مرددا قول الشاعر:

إذا لم يكن إلا الإقالة مركبا فما حيلة المضطر إلا ركوبها

فكان ما جرى…….. ولا يستبعد أن يكون الشيخ الوقور في عزلته الجديدة قد تفرغ لأداء الوظائف، وترتيل الأوراد، وإذا كان الجنرال البارحة في لقائه مع اكريشان قد طمأن الجميع على صحته فإنه لم يحدد عدد المرات التي يتلو فيها الرئيس ورده الجديد:
وقلدته أرقى النياشين رتبـــــــــــــــــــة فأخـــــــــــــرجني قصري وأودعني سجنا
فمن مخبري، هل لي إلى القصر عودة؟ وهل ( مَصْكُهُمْ) يلقى عن العين إن عجنا؟
الخلفية الخفية لما جرى هي أن أصحاب النياشين والأسلاك والأوسمة لا يريدون في رأس السلطة إلا شريكا حقيقيا لهم في سوابقهم، تجمعه معهم وحدة المصير، ليوفر لهم أمانا في المستقبل من المحاكمات والمساءلة.

ومن قلة الحصافة السياسة أن تُعَد الصورة التي تم بها انقلاب6\8 سيئة الإخراج أو ناقصة الأجزاء، بل كل ذلك مقصود، حتى لا يشي اكتمالُها وحسنُ إخراجها بأن الأمر وليدُ تدبيرٍ عمرُه سنوات ثلاث، فتأخر البيان الأول، وارتباك كاتبه وقارئه، وانعدام التفاصيل فيه، وما حدث بعد ذلك من غموض في البيان الثاني من عدم تحديدهم فترة زمنية لبقائهم، إنما هو جس للنبض، ونوع من إطالة المد والجزر بين الجبهة المعارضة للانقلاب والمنقلبين أنفسهم، حتى إذا استحكمت الأزمة واستعصت على الحل، ولم يحظ الانقلاب بالشرعية التي حظي بها انقلاب 2005 تحتم البحث عن الحل الوسط، وحينئذ سيخرج صوت من خارج السرب ظاهريا ينادي بترشيح العقيد علي ولد محمد فال بوصفه رمزا وطنيا، ورجل المرحلة، ولا شك لدى صاحب ذلك الصوت أن العقيد ( سابقا) قد نسي البدلة العسكرية، ومحا من ذهنه الخبرة الأمنية، وسيُبَرَّرُ ذلك بأن المدنيين يحفظون له ذمة الوفاء بوعوده معهم، وإشراكه لهم في العملية السياسة، وتسليمه السلطة إياهم، وأما المؤسسة العسكرية فهو ابنها البر بها، ولن يفرط بأركانها أو يحط من هيبتها، ناهيك عن أنه من أنشأ المؤسسة الأمنية ورسم مصالحها، ووضع برامج عملها، وفصل وخاط الإجراءات، وسن وشرع القوانين.

وعندما يُصْغى لمثل ذلك الطرح سيتداعى الجميع إلى القبول به بشكل توافقي، وتبقى بعد ذلك حيثيات وتفاصيلُ يتم الاتفاق عليها لاحقا، هل سيتم ذلك بتغيير للدستور من طرف البرلمان؟ أم ستجرى انتخابات مباشرة يكون له فيها الحظ الأوفر إن لم يكن الوحيد……..

وما عدم تعليقه على الحدث، وصمته المطبق إزاء ما جرى إلا أحد المؤشرات على ما يحاول هذا المقال أن يتلمسه، فمثل هذا الأمر لا يصلح لمن هو على شاكلة العقيد أن يغيب عن إدانته إذا كان فعلا مؤسس العهد الديمقراطي ومنقذ البلد من الدكتاتورية.

على أن أهم المؤشرات لمن لا تخونه ذاكرته هو ما كان يجيب به الأسئلة المتكررة من طرف الصحافة : هل تنوي الترشح للرآسيات مستقبلا؟ هل ستؤسس حزبا وتخوض الانتخابات لاحقا؟ في كل ذلك كان يبدى ابتسامة عريضة لو لم يغطها الشنب لأدرك الجميع الحقيقة من ورائها، ثم يقول: إن الأمر سابق لأوانه مع أنه لا مانع منه.

وفي خاتمة هذا المقال؛ أذكر أني كنت أتداول مع بعض الزملاء في مساء 19\4\2007 حديثا حول توقعاتهم عن مدى صبر ولد محمد فال على ولد الشيخ عبد الله هل سيتركه يكمل مدته؟ أم سيعاجله؟ وكان الذي يترجح لدي، ولدى الدكتور محمد فاضل ولد الحطاب أستاذ التاريخ الحديث هو ما حدث بالفعل، فتلك هي الخلفية الخفية للانقلاب، ومن حين لآخر ستظهر أحاديث إعلامية وتسريبات خجولة تهيئة للموضوع، مثل ما ذكره مراسل إذاعة BBC في نشرتها الصباحية بتاريخ 8\8\2008 من أن بعض المراقبين يتوقعون عودة على ولد محمد فال، وقد تترد شائعات في المقابل مفادها أن الجنرال والعقيد ليسا على قلب رجل واحد…..

ومن أكبر الدلائل على مثل هذا الطرح إعادة إنتاج ما تم من صفقة في الماضي بين العسكر وزعيم المعارضة، حين أعطوه وعودا، كانوا لبسوا عليه في الوفاء بها في الفترة الماضية، حتى منحهم تزكية لعملهم، وشهادة بنزاهة الانتخابات، ليظهر بعد ذلك ملتوي اللسان، ناقما على ول عبد العزيز، مطالبا إياه بخلع جنازيره ودخول المعترك السياسي من بابه المعروف، ( فهل تغير ولد عبد العزيز بين شهري كانون الثاني وآب)، وها هم الآن يمنونه بالتنسيق معه فيجدون منه مباركة لانقلابهم يسوقونه بها في الدوائر الغربية، وما أدري ما ذا سيقول حين يتحقق هذا التحليل على أرض الواقع، والخلاصة أن كلا من الرئيس وزعيم المعارضة يصدق عليه المثل العربي “على نفسها جنت براقش”، أما العقيد على ولد محمد فال فإنه الآن يجني ثمار غراس استمر زهاء ربع قرن.

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button