مقالات

من وحي “الياسمين” محمد ولد حمدو

ترددت كثيرا قبل أن أكتب عن ثورة الياسمين، ثورة الشعب التونسي، التي انطلقت من سيدي بوزيد، لتعم كل أنحاء هذا البلد الصغير، الجميل والمضياف.

لم أتردد، لأنني لا أكتب عادة عن الآخرين، إنطلاقا من أن ” ما فينا يكفينا ” في كل الأحوال، وعلى كل الأوجه!

ولم يكن ذلك تقاعسا عن واجب التحية، لمن صنعوا تلك الثورة، ولكنه كان من واقع تقدير خاص، للبلد ولسكانه، لأنني – ولأكن صريحا – لم أكن أريد، أولم يكن على الأصح بإمكاني، أن أكتب عن تونس، وهي بعد ما زالت تتململ، إثر ثورتها المظفرة الفريدة.

فأنا باختصار، لم أكن أريد أن أكتب عنها، حتى تهدأ، وتستعيد محياها الباسم، الذي ألفته من أول يوم عرفتها فيه.

لم أرد أن يفسد “التجهم” العابر الذي رسمته التطورات الأخيرة، على ذلك المحيا، تلك الصورة الوردية الجميلة، التي أحتفظ بها عن تونس الخضراء، حاضنتي لسنوات من عز الشباب، ولو أنني كنت أعيش مع أبنائها، ثورتهم العارمة، بكل جوارحي، وفاء للعهد وحفظا للود….

والآن وقد بدأت الثورة، تعيد وضع البلد على طريق العودة، إلى سالف نشاطه وحضوره، بعد ما أرست دعائم جديدة لحياة وطنية توافقية، لا تقصي ولا تبعد، أيا من أطياف الشعب التونسي، آن لي، أن أحيي البلد الذي أحببت من كل قلبي!!!

لي مع تونس قصة تطول وتتشعب، أعتقد انها تتقاطع في بعض المناحي، مع تلك التي تربط كل الموريتانيين بهذا البلد، منذ أن مر به الأمير الموريتاني يحيى بن ابراهيم الكدالي، طالبا من يساعده في إعادة الصفاء إلى الملة الحنفية في صحرائنا، بعد ما ران عليها الضلال، حينا من الدهر، قبل قرون مديدة.

لتبدأ بعد ذلك، بفضل حاضرة العلم الصامدة، القيروان، مسيرة المصلح والثائر الكبير عبد الله بن ياسين، مؤسس الرباط الخالد، الذي صحح العقائد في افريقيا الغربية، وامتد من قلب موريتاينا الحالية شمالا، إلى عدة أجزاء من المغرب العربي، ليكتب صفحات مشرقة من التاريخ الإسلامي، ، تحت راية دولة المرابطين، التي كان لها الفضل في تأخير سقوط الفردوس المفقود، الأندلس، نحو مائة سنة، حين هب أمراؤها، لنجدة ملوك الطوائف، بعد ما بلغت قلوبهم الحناجر، لما أحاطتت بهم جيوش الإسبان من كل جانب.

ومن يومها لم تنقطع الصلات بين تونس وموريتانيا…

ويكفي أن واحدا من أعرق أحياء العاصمة التونسية، وهو باب بنات، يرجع الفضل في تسميته، والعهدة على الدبلوماسي والكاتب الكبير، عبد الرحمان بلحاج علي، سفير تونس السابق في نواكشوط، إلى أميرات موريتانيات، عشن في هذا الموقع، قبل مئات السنين، وهن بنات الأمير المرابطي، يحي ابن غانية المسّوفي.

وتقول الرواية التاريخية، إن الأمير لما تتالت عليه الهزائم التي مني بها، في محاولته التصدي للدولة الموحدية، ترك بناته الثلاث في حمى الأمير، أبي زكريا الحفضي في تونس، عل ذلك يقيهن تقلبات الحياة السياسية المضطربة، في تلك الحقبة من تاريخ المغرب العربي الكبير…

وقد كان من حسن الصدف، أن تتجدد الصلة بين البلدين في العهود اللاحقة، فتكون تونس بعد الإستقلال، خير سند لموريتاينا، المغضوب عليها في المحيط العربي، ونعم المعين لها في اثبات الذات، لتتوطد الصلات وتتعمق الوشائج…!!

تلك ملامح من صلات عامة، رغم عمقها، لا تمثل الكثير، أمام ما يجمعني بتونس من ألفة وحميمية خاصة!

قصتي الشخصية مع تونس بدأت ذات يوم خريفي، قبل نحو عشرين عاما، استقبلتني حبات مطر خفيفة، وأنا أخطو خطواتي الأولى، خارج مبنى مطار تونس قرطاج الذي بدا لي هو ومحيطه جنة صغيرة، مرتبة محكمة التنسيق والإنسجام!

كان ذلك شعوري، وأنا القادم من بلد صحراوي، لا يعرف اللون الأخضر …. ويكاد – يالسخرية القدر – أن يورده في أغلب الأحيان مرادفا للأسود!

وعندنا في موريتاينا نعتبر المطر دليل ترحاب، ونتفاءل خيرا بنزوله عند الوصول إلى أي مكان!!

كانت تلك بداية صلتي بهذا البلد، الذي كانت أصداء تجربته التحديثية، التي قادها أب الاستقلال الراحل الحبيب بورقيبة، قد وصلتني باكرا، بحكم الروابط والوشائج الخاصة.

وصلت تونس أواخر عام تسعين للدراسة، وهي بعد ما زالت محبورة، ببقية من الحلم الجميل، الذي جاء به “تغيير السابع نوفمبر” كما كان يسمى في تلك السنوات البعيدة!

كانت أغلب القوى الوطنية، تتحرك بحرية لافتة، والأكثر غرابة أن الإسلاميين، ممثلين في حركة النهضة، وكانوا يومها في آخر أيام شهر عسل، لم يدم طويلا مع النظام، كانوا ينشطون.

… لم يكن معترفا بهم رسميا – بالتاكيد – ولكن كانت لهم صحيفة ناطقة باسمهم، وكانوا يشاركون بحماسة وحيوية، في النقاش العام الدائر في تونس، بعد ترهل وشيخوخة التجربة البورقيبية، وفي إطار محاولات، ما كان يسمى حينها، في الأدبيات الرسمية، مصالحة تونس مع تراثها الحضاري العربي الاسلامي!

وحين غادرت تونس بعد ذلك بسنوات، في أواسط التسعينات، كان ذلك الحلم الجميل، قد أصبح شيئا من الماضي البعيد!

…. طوته سنوات من الملاحقة الأمنية الضاغطة، وبدت لي تونس قبل أن أغادرها، وكأنها تنزلق الى حكم “عضوض” لم يلبث أن أنشب أنيابه بقوة!

وطيلة السنوات اللاحقة، كانت الأصداء تصلني من تونس، غير مطمئنة، ولو أني ظللت، أعتبر أنها تبقى، أفضل بكثير من بلاد على شاكلتها، خاصة في الحريات ومؤشرات التنمية.

بقي ذلك هو إنطباعي، حتى طالعتني “تونس الجديدة” – وقتها – فجر يوم صيفي من عام ألفين وسبعة، حيث وجدتني أنزل بمطار تونس قرطاج، في رحلة عمل، تستغرق عدة أيام.

وكان من المتوقع، أن نجد في إنتظارنا، أنا وزميلي، من يسهل مهمتنا، بناء على ترتيب سابق، ومعه إذن بالتصوير، كنا قد أجرينا اتصالات قبل أيام، بشأن استخراجه لدى المصالح المختصة.

لم نجد شيئا من ذلك، ووجدنا أنفسنا مجبرين، على ترك معداتنا في المطار، والدخول “بدون سلاح” إلى المدينة.

ولو لم تكن الحاسة السادسة لدينا متيقظة، لواجهنا مصاعب جمة، فقد ألهمتنا الإتصال قبل مغادرة نواكشوط، بالدكتور أحمد مولود ولد أيدة، وهو صديق جمعتني به تونس أيام التحصيل، وبقي بعدي هناك، طلبا لشهادة الدكتوراة من الجامعة التونسية!!

انسحبنا أنا وزميلي، رفقة هذا الصديق “انسحابا تكتيكيا” الى العاصمة، مع ساعات الفجر الندية، تاركين خلفنا معدات عملنا، هناك في انتظار ” التصريح” .

وفي ذلك الصباح الجميل أكرم الدكتور باديدي كما نسميه وفادتنا، وأذكى في نفسي مع وصديق آخر هو الدكتور أحمد حبيبي، الذي علم بمجيئنا، وأسرع الالتحاق بنا في منزل باديدي القريب من كليتي تسعة افريل والطب، أذكيا في نفسي ذكريات طافحة من أيام “ابن خلدون” و”باردو” و”مونفليري” و” الكرم” و”حلق الوادي” و”الحديقة” و” الرابطة” وشارع بورقيبة، و”جان جوريس”، و”ميتوال فيل”، و”الرمانة” والمنار و”العمران الأعلى” ومقهى النادي الإفريقي ” لكليب اختصارا” و”التزمار” و”بي اس في” .. والديوان القومي للحبوب (!!) …. وغيرها من يوميات ومرابع ومراتع سنوات الرحلة المشتركة، في ربوع تونس الخضلة!

كان الأمر عاديا، ويحدث في كل بلدان الدنيا، فأنت مطالب باحترام الترتيبات القانونية الخاصة، بالإذن بالتصوير والتنقل، داخل أي بلد، وليس في الأمر أي ضير.

لكن ما سيأتي بعد ذلك، هو مالم يكن متوقعا – بالنسبة لي على الأقل – وأساء كثيرا الى صورة تونس في نفسي، بل وكاد أن يأتي على رصيد، ومخزون هائل من التقدير والإحترام، أكنه لبلد له علي شخصيا أفضال، ليس أقلها، أن من علمك حرفا فهو مولاك!!

وبعد شروق الشمس، وأخذ قسط من الراحة، بدأنا الإتصال، تؤازرنا السفارة الموريتانية في تونس، بالمصالح المعنية على مستوى “المرحومتين” وزارة الإعلام، والوكالة التونسية للإتصال الخارجي، للإفراج أولا عن معداتنا، التي خلفناها “رهينة” مطار قرطاج، وللبدء في “رحلة” استخراج إذن التصوير، وأنا أعي تماما في هذا المقام، أني استخدمت كلمة “رحلة” عن سبق إصرار، لأن الأمر بالفعل، كان يتطلب شيئا من ذلك القبيل!!

وانتهى الأمر بنا، أن اتفقنا مع المعنيين، على الذهاب أولا، لإستلام تجهيزات العمل من شرطة المطار، ونبدأ في التصوير في أماكن محددة مغلقة، على أن نرجئ أي مشاهد خارجية، ننوي التقاطها، إلى أن ينهي طلب “إذن التصوير” رحلته، عبر أروقة عدة مؤسسات.

وقيل لنا، إنه سيرافقكم “تسهيلا” لمهمتكم، شاب من الوكالة التونسية للإتصال الخارجي، وهو في خدمتنا، حسب ما قال لنا، من تواصلنا معه من مسؤولي الهيئة.

حتى الآن لايبدو في الأمر أي غرابة!

ولكن لكم أن تتصروروا أن الشاب، الذي يتقمص شخصية الصحافي، وينتسب إلى مؤسسة ذات وقع رنان، لطابعها الإعلامي – الظاهري على الأقل – لم يكن صحافيا، ولا صلة له بعالم الحرف والكلمة.

فقد اكتشفنا حقيقته، بعد أن حاصرته شخصيا، بالأسئلة عن دفعته التي تخرج ضمنها، وعن أسماء بعض أساتذة معهد الصحافة، وزملاء من الصحافيين التونسيين الذين جمعني بهم المعهد، الذي يفترض أنه درس فيه.

رغم ذلك انتهى بنا الأمر، أن الفناه وألفنا، وصار جزءا من فريقنا بمعنى ما، كل منا يؤدي جزءا من العمل، على طريقته طبعا، فلكل منا تقاريره بدون شك!!!

كان شابا، تجاوز الثلاثين، حسب ما توحي بذلك ملامحه، يقضي أغلب وقته في التدخين، ولديه دفتر صغير، أعترف أني لم أستطع أن أتبين، ما يدون به من معلومات، فقد كانت الخطوط تتداخل وتتقاطع، ربما يفعل ذلك عن قصد…. حتى لا نفك طلاسمه.

وله صبر وجلد لاحدود لهما على ” المرافقة” يبقى لصيقا بنا من ساعات الصباح الاولى، إلى ساعات الليل الأخيرة… أذكر أننا في إحدى الليالي، أوصلناه إلى مقر الوكالة التونسية للإتصال الخارجي، القريب من شارع بورقيبة، وسط العاصمة الساعة الثانية فجرا!

وكان بالفعل وجوده معنا ضروريا، إلى أبعد الحدود ….. فقد كان هو “الترخيص” الفعلي لنشاطنا، فكم مرة أنقذنا من صولات رجال الشرطة، حين يروننا ” نمرح” و”نسرح” بعدستنا، في أحد شوارع تونس، فكلمات منه، تأتي على استحياء، وفي خلوة قصيرة معهم… تكفي لجعلهم ينكفئون على أعقابهم.

ساءني ذلك، وحز في نفسي، أن أرى تلك المعاملة، في بلد كان رائدا دائما في المدنية، وكانت تلك المشاهد التي طالعتني بها تونس في تلك المرة، وجها آخر لم أرد أن أبوح به لأحد، غيرة على صورة تونس التي أحببت، بغض النظر عن النظام السياسي، الذي يرتضيه إخوتي التوانسة!!!

للأسف الشديد أن تلك المشاهد، كانت تتكرر مع كثيرين، ثم لم تلبث، أن أجهزت في سنوات معدودات، على ثمرة عقود طويلة، من الريادة في التنمية والتعليم والحداثة والمدنية.

فكان ما كان مما لست أذكره …. فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر.

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button