المشهد السياسي، الحلقة 3 تحصين الوطن/ محمد يحيى ولد العبقري
“لا تحسبوا الوطن معصوما، واعملوا على تحصينه”
في كتابات سابقة حول (المشهد السياسي) الحلقة 1 والحلقة 2، سعيت إلى تبيان بعض المسائل بل
القضايا المهمة من وجهة نظري، بالنظر إلى دورها المحوري في الحياة العامة للبلاد، أهمها:
ـ سرد عن الحالة السياسية الماضية.
ـ اتفاق داكار.
ـ نجاح عزيز في المأمورية الأولى كطي لفترة.
ـ الإرباك السياسي وأثره على البلد.
ـ الحملة الانتخابية من منظور العامة.
ـ سيناريوهات استشرافية للاقتراع الرئاسي الأخير.
ـ ثم التقدم بمشروع معاهدة سلم اجتماعي من سبع مواد مع عرض أسباب.
أنا منطلق من قناعة مؤداها أن الفئة التي أنتمي إليها (أشباه المثقفين) منوط بها فعل الممكن للارتقاء بالأمة ولم شملها، زادها الطرح الواعي، وإثارة أصحاب الرأي العام للاستفادة من متحصل وعي الجميع ونظرته إلى الأشياء.
وأنا من دعاة اعتماد مذهب الصدق في السياسة بعدما أضحت فنا كامل القواعد، وكما في الشعر يقال:
وإن أحسن بيت أنت قائله بيت يقال إذا أنشدته صدقا
وإنما الشعر لب المرء يعرضه على الخلائق إن كيسا وإن حمقا
فمثله الخطاب أو البرنامج السياسي أنفعه ما كان الصدق صفته السائدة.
ومع أنني معترف تماما بأن العاطفة تفعل فعلها في السياسة عموما، ولكن لنميز بين الصدق العاطفي في الأدب الذي قد لا نكون بصدد شرحه، والصدق في البرامج والالتزامات.
ثم إنه لا بأس أن نبين بأن المدرسة السياسية مدرسة ملتزمة، بمعنى أن الطرح فيها ليس بالأكاديمي، فلا يطلع عليه الجميع، ولا هو بالعامي فلا يثبت الخلفية المعرفية والثقافية لصاحبه.
إن كان يعتقد أن موريتانيا من خلال الاقتراع الرئاسي الأخير طوت صفحة مهمة فإنها اليوم ومع المأمورية الجديدة تفتح أخرى، يتطلع الجميع إلى أن تقود إلى وحدة وازدهار الأمة.
لقد تجنبنا الفراغ الدستوري بالفعل بعدما لم يتسن للجميع المشاركة، فنحن كنا أمام:
ـ التأجيل وحتى التفاهم على خارطة.
ـ احترام الآجال بمشاركة المستعدين.
ولم يكن خافيا على أحد أو جهة همت بالمشاركة في الرئاسيات الأخيرة أن الرئيس الحالي هو الأوفر حظا، اللهم إذا حدثت خوارق.
إن أخذ هذا الطرح في الحسبان كان سيساعد على المشاركة، ليسهل فيما بعد طرح مقاربات وحلول ترضي الجميع – من باب النقاش حول البرلمان والبلديات وذلك باتفاق الطيف السياسي على خارطة توحي بقدر معين من حسن النية لدى الفرقاء.
أضف إلى ذلك الأخذ بالأمر الواقع، فالواقع أثبت أن القفز عليه ليس بالأمر الهين حتى إنه يخيل إلي أنه أصبح مفهوما عالميا، بل وحضاريا طاغيا على ما قبله من الشٍرعات والمذاهب والحلول، ذلك لأنه:
ـ هو الموقف القوي.
ـ وهو الموجود، وبمعنى آخر هو الواقع.
لا يقبل منا كمثقفين، كما لا نقبل لأنفسنا عدم الاكتراث بما يجري في العالم الذي نحن جزء منه.
ومن المعيب جدا لنخبنا عدم أخذ العبرة مما تشهده بلاد مماثلة، كما أن محاولة إقناع الناس بعدم الخوف من اللاأمن واللاسلم المنتشر هنا وهناك، هي مسألة فاشلة؛ إذ الكل مطلع ووسائل الاتصال تتنبأ بما سيتم، أما ما تم فحدث ولا حرج عن وفرة أخباره.
ولئن كان من الجائز في الأدب تقديم الإنتاج كما لو أنه جاء عفو الخاطر مع التكلف الفعلي له، فذاك في السياسة وعر، بل مستحيل.
وسائل الاتصال والبرق و العنكبوت كلها تجعل الناس يعيشون الأحداث أولا بأول.
وليس من الطبيعي في نظري لأي سياسي أو إصلاحي أن يطلب من الناس التنازل عن الوعي بالتجارب المحيطة ومن ثم أخذ الحيطة التامة.
جدير بنا أيضا أن نتفطن جدا ونختار بين:
ـ أن نبقى ننتظر حتى يحصل ما لا نرجو.
ـ أن نعكف جميعا لنجني تقاربا وتناغما وعهدا من التوحد نعصم به أمتنا من الزلل، ونسلك به طريق غير المغضوب عليهم.
إن هذا متاح وإن مدخله من عدة جهات:
ـ النظام لأنه يحكم وهو المسئول عن ديمومة الاستقرار وبرامجه معقودة على النفع العام، ثم لأنه ظل فاتحا لباب الحوار.
ولي أمر الأمة إذا أنصت لبعض شعبه أو ماشاه في غير ضرر بين، فتلك حكمة لأن من هو أعلى لا يضره الانحناء الذكي بل يرفعه درجات على السلم القيمي، هذا إذا استثنيت المتشددين الذين سيلجؤون إلى القراءات الممجوجة: كالاعتراف بالآخر، التنازل، متجاهلين أن الانفتاح على الغير ركن من أركان الديمقراطية.
هؤلاء دافعهم الحقيقي هو الاستحواذ على التقرب من السلطة، واحتكار القرار.
الرئيس اليوم وأقولها جهرا وبصراحة رئيس الجميع بدء بالمتكلم والأغلبية والمعارضة، ليس هذا موقفا بل واقعا.
إن الذين يطمحون إلى قيادة الدولة، حقهم مكفول بحكم القانون، لكن إذا لم تتح لهم الفرصة، فعسى أن يقدر الله للمرء ما يريد، مع أن العامة تطلق عن وعي على المترشحين ـ الغالب على الظن إقناعهم للناخب باحتمال النجاح بنسبة معينة ـ لقب الرئيس، فهذه ميزة شرفية لها مدلول وليد اعتبارات موضوعية.
وغالب الظن أن المعول عليه في كل هذا هو التسديد وبعد النظر والسعي إلى التراضي انسجاما مع الشرع الداعي للتلاحم جاعل الفتنة أشد من القتل.
وهناك مثل آخر معروف ومعمول به (ما لا يوجد كله لا يترك كله).
إن المراهنة على الزمن أولى من أية أفعال غير محسوبة، إن علم بدؤها فقد يجهل كيف ومتى ستكون نهايتها.
والذي يجب على المرء إنما هو السعي والنضال، وفي رأيي أن هذا بالنسبة لكثيرين قد تم.
لئن كانت هذه النظرة متكلة عند البعض زاهدة، فهي مع ذلك بأي تحليل موضوعي صائبة، أضف إلى ذلك ما ذكرنا آنفا وهو أن الواقع وازن، لا يتجاوز ولكن يبنى عليه.
إن على الجميع التحلي بقدر من المسئولية إزاء ما يجري، بمعنى أن يتحمل كل جزء، وذلك تأسيا بـ:
(مالي لا أرى الهدهد)؛ فسليمان عليه السلام يحمل نفسه جانبا من مسئولية تغيب الهدهد.
ولو عمد الكل إلى هذا المنهج لسهل العلاج، وتم تخطي الصعاب.
وعلى كل حال فلا نرجو أن يكون قابل أيامنا كـ”صنم قاديس” الذي يجهل ما حوله، ولا أحد وقف على خبر صحيح عنه لتسلط دوابه وهيجان موجاته.
ومن جهة أخرى علينا أن نفهم جيدا أن الشطب التام على أي مكون غير ممكن، ولا يصب في الصالح العام، لأن تنوعنا مصدر قوة.
زين للبعض تفاقم التململ والصيد في المياه العكرة بل العفنة، بينما الأولى الكلمة السواء التي لا تهمش ولا تستثني، بل تنظر للجميع كل بحسب جدارته وعطائه.
المستفيدون من الحملات:
لا جدال في أن الاستفادة الطبيعية ينبغي أن تكون منوطة بجهود فعلية معروفة، يحصل أصحابها على ترقيات ومكافئات عامة.
أعتقد أن الرئيس باطلاعه على الواقع بحسب ما يصله عن سير الحملات والمضحين الفعليين للمصلحة العامة، يكافئ الجميع، كل حسب جهده.
لكن الواقع المر قضى باستحواذ من يعتمدون “الشطارة” آلية، واستغلال جهود الآخرين منهجا، به يقطفون امتيازات أصحاب الحق، من دون توكيل شرعي أو قانوني، ومن دون الوعي بأن هكذا تصرف مخل بالتوجهات العامة للرئيس.
هذه الظاهرة جديرة بأن تكيف:
ـ أهي استغلال الإنسان لأخيه؟: العمل المجرَم.
ـ أم هي سرقة سياسية؟: العمل المدان أخلاقيا.
على فقاء القانون أن يجتهدوا في هذه الظاهرة، لإيجاد صيغة قانونية تحرم ذلك الفعل، وتحمي حقوق الجميع.
إن من شأن هذا السلوك ـ إن لم يتدارك ـ أن يعمل على عزوف الكثيرين عن العمل السياسي لشعورهم بالإحباط، نتيجة عدم أخذ جهودهم بعين الاعتبار، وقد يجعلهم ذلك يفكرون في تغيير وجهتهم السياسية، مكرهين لا راغبين، خاصة أن الميل إلى التقاعد السياسي عندنا معدوم.
لقد أفلح قوم حكموا على أنفسهم بالواقعية في التعامل السياسي وتجنبوا البحث عن المبايعة الشعبية على حساب الدولة، لأن ذلك خطر على بقائها.
لنجتهد جميعا في عدم إزعاج من لا يملكون سوى البقاء في هذا الوطن مهما كانت الظروف، وأن نعلم أن اللسع السياسي أكثر ضررا على المواطن العادي منه على الحاكم، الذي سيعلل كل النواقص بالاهتمام بالأمن في المقام الأول – وهو محق – قلا تتم أية تنمية بدونه.
إن الدعوة للعنف والانتقام والتنافر والفتنة والتعصب للحزب والشريحة واللون والثقافة واللوبي والحركة واللجنة، كلها أمور لا ينبغي أن يصار إليها، لأضرارها الحتمية، ولأن الوطن بما يخبئ من موارد وطاقات قادر على احتواء الجميع.
وإلى الذين يفضلون السلم الاجتماعي على غيره فإن تتالي النعرات والتنافر والخصام والتظاهر غير المضبوط وحركة الشارع غير المحسوبة، كل ذلك إذا حدث ـ لا قدر الله ـ فمعناه أنه يراد منه أن يصار إلى سيناريوهات غير محمودة العواقب، ولا أحد يتمناها.
مع رجاء الخير للجميع.. يتواصل
محمد يحيى ولد العبقري