التوجهات الفكرية… الخلفية الصامتة للانقلابات العسكرية ؟! / الولي ولد سيدي هيبه
استوقفني فيما كتبه مؤخرا النائب المحترم و السياسي المرموق محمد غلام ولد الحاج الشيخ في مقال جزل حمل العنوان المثير”الحصاد المر” الكثيرُ من الأفكار الرصينة التي وردت و المستجدات و الاستخلاصات و المقارنات الفكرية القيمة التي برزت في حيز نادر من التحليل المرن و المعالجة المتحررة
من قيود “الدوغماتية” العمياء.
و لكن شدني بشكل استثنائي قوله متحدثا عن الانقلابيين الذين تولوا، بقوة على مر التاريخ العربي المعاصر، زمام الأمور في بلدانهم و قد رفعوا لذلك شعارات تعد بالتغيير من السيئ إلى الأحسن و التحول من درك الشقاء إلى فضاء الحرية و السعادة:
“…لقد تحول قادة تلك الانقلابات من ثوار خرجوا من ثكناتهم لإسعاد الشعوب وبناء رفاهية للأمة إلى عوامل هدم وتشظ لمجتمعاتهم فأعملوا فيها سوط الطغيان تعذيبا وتغريبا وأشاعوا الفساد والمحسوبية ونصبوا المشانق لخيرتها وبددوا ثرواتها مطلقين العنان للمحسوبية متنكرين لكل شعار رفعوه اللهم إلاما كان من باب الدعاية الموغلة في الإسفاف واحتقار ذهنية المتلقي وكانوا أكثر شرا وأنكى فداحة من جميع ألوان الاحتلال التي شهدها التاريخ الحديث فهم أكثر تدميرا لشعوبهم وأقل رحمة من الصهاينة وكل ألوان الاحتلال الفرنسي والإنجليزي ، والحملات الصليبية قد تكون أرحم منهم…” انتهى.
و لكن السياسي المحنك و المتتبع بإسهاب لحركة تاريخ هذه التحولات العميقة التي حصلت في مصير الأمة و مستجدات التغيير بـ”حلوها” التي رصعت تارة جسمها ببعض درر الوعي المغيب، و أثخنته تارة أخرى بـ”مرها” في تناوب لم يكن يوما سلسا، يمضي مسطرا و محللا، بقدرة فائقة على تمرير المحتوى لإنارة العقول و رفع الإشكالات حول تداعيات و ظروف الحكم و حيثياته عند هؤلاء الانقلابيين، شارحا و مستنتجا في انسيابية لا يخطئها القارئ:
“… الأمر عائد إلى أن المنقلبين لم يكونوا يمتلكون من قيم الحكم ولا تقاليد السياسة ما يسمح لهم بتدبير شؤون المخلوقات إنهم أغرار جياع تفتحت أعينهم على حظوة الملك والسطو على خيرات لم يألفوها ومكانة النفوذ والاستحواذ على كل مميزات الدولة الحديثة وهي كثيرة وفيرة، ثار البغاة على الملكيات لكنهم جاؤوا بكل سيئاتها وأكثر حيث ورثوا الحكم لسلالتهم المستنسخة ولقد أثبتت الملكيات أنها وإن كانت تقليدية وبعيدة عن التطور فإنها أكثر نضجا ورحمة بشعوبها ورفقا بمواطنيها من الأشرار المنقلبين على إرادة الأمة، السؤال المطروح بقوة علينا كنخبة ومجتمع هو هل يجوز لنا ان ندخل جحر الضب الذي تاهت فيه تلك الشعوب قبلنا لنعيد تجربة الخنوع عقودا ننتظر بأجيالنا اللاحقة سكين سلاخ يعمل فينا مديته بعد التمكن كأننا شاة عيد؟!” انتهى.
لوحة ناصعة بلوني نقض التعهدات عند الانقلابيين وسوء حكمهم التعسفي، وتناغم اللونين في سينفونية مبررات القيم النبيلة من جهة و الإضرار بمفهوم الدولة و في مقوماتها و أسسها و في المساس بمصالح الشعب و ثوابته و خلخلة دعائم وحدته و تعريض أمنه لمخاطر الانقسامات ٍمن جهة أخرى.
و لما أن هذه الاستنتاجات التي يدعمها واقع التخلف المرير الذي ما زال ماثلا عن ركب الأمم و هوان الشعوب على القيادات الذي يظل قائما و غياب الوعي المدني المُوَحد الأركان و المحدد الوجهة الذي يفقأ العيون في صفوف الجماهير و داخل قناعاتها، فإن الكاتب و السياسي المخضرم لم يتناول بما يقتضيه و تتطلبه بإلحاح ضرورة تنوير الرأي دور التوجهات الفكرية التي صاحبت و أطرت كل الانقلابات مزودة إياها بقوتها التنظيرية الدافقة و بصيرتها التوجيهية النافذة، مبررة بعقلانيتها المبصومة بالألمعية كل “التصرف” و مخففة أيضا فيها كل جانب العنف. و هي التيارات و المشارب الفكرية المنطلقة كلها، على ما تدعي لنفسها المدارس الإيديولوجية و تصر في مواثيقها و تعهداتها ونظمها التأسيسية والداخلية وخطاباتها وفلسفاتها أنه قناعات راسخة لمصلحتي البلاد و العباد، من الحرص على الشعب في كل أبعاده الوجودية:
· تاريخية،
· و ثقافية،
· واجتماعية
· و وجدانية.
و مما لا شك فيه و بعامل إثباتات معايشة الواقع أنه على تعاقب كل الانقلابات العسكرية لم يغب مطلقا عن أي منها ما كان يروق لأهلها من خلفية المرجعية العقائدية بل قد صاحبتها كلها متقمصة و منذ أول لحظة خطابات الانقلابيين في إتقانها و توجهاتها المتمثلة في استخدام مذهل لآليات الضبط و بحبكة عالية استطاعت عند حصول أي منها أن تجنب الفوضى و تقلص إلى حد الصفر زوايا الارتجالية و تفسح المجال أمام بروز ملامح عمق فكرها و تمهد لتمرير منهجيته و تعميمه ثم تطبيقه؛ الأمر الذي أوجد في النفوس كل متناقضات الإيديولوجيات من متبنية:
· للنهج القومي بسياقات و منهجيات، إلى تحقيق الوحدة المستهدفة به، مختلفة باختلاف المدارس و ترتيبها أولويات الفكر و بـ”دوغماتية” كل منها في حكم تبنيها و إتباعها و تطبيقاتها العملية؛
· و النهج الاشتراكي منتزعا من رموش الشيوعية ذات العيون الضخام أو ذات الحدقات الضيقة في عدائية للدين أو في اتخاذ بعض المسافات منه خشية الصدام الذي قد يحدثه خدش المشاعر الروحية،
· و النهج العلماني الذي حاول جاهدا و ما زال يفعل مريدوه الوصول تطبيقيا إلى الفصل بين الدين و السياسية أسوة بالديمقراطيات الغربية التي رأت النور من رحم الثورة الفرنسية “المرجع”؛
· النهج الرأس مالي في توجهاته الجديدة و اتباع النظريات الاقتصادية التي تقلص المسافات و تربط المصالح عبر التبادلات التجارية العابرة للقارات و نشر الاستثمارات في أرجاء العالم؛
· و النهج المتبني فكر التيارات المنتسبة على اختلافها للمرجعية الدينية على خلفية عجز عقائدي بالغ أفصحت عنه الشروخ العميقة في الخطاب و الفلسفة و تباين التأويلات الفقهية في الصميم ألمعتقدي ما أبعد إمكانية أي التقاء محتمل حول القواسم المشتركة و إمكانية الاستفادة من الاختلاف في سياقات إيجابية؛
وهي التوجهات الفكرية كلها التي ما إن اشتد بها التنافس وانسدت الآفاق دون حيز الأمل الذي ناضلت لأجل بلوغه لجأت في تفاوت وعبر حقب زمنية متباينة إلى أسباب قوة ترفعها إلى الصدارة وتطلق لها العنان لتمرير ونشر وتطبيق محتوياتها. وهل أجدر من العسكر لحمل هذه الأمانة وتحقيق هذا الأمل المتقاصر عن النزاهة الفكرية وحمل هم الأمة على محمل الجد للوصول بها إلى مراقي التحضر المنشود في الحرية والبناء والتوازن النفسي والمادي لأفراد الشعب؟
وهل اسوأ في عصر الديمقراطية و العولمة الطافحة بنقاط التلاقي الإيجابية بين الشعوب وانتصار مفهوم الحرية المتوازنة وعوامل العدالة المشتركة، من الانقلابات العسكرية وسلطة السلاح المشرعة على الرقاب إلا ما يكون من بعض الإيديولوجيات الجامدة على قواعد دوغماتية لا ترحم العقل وتسد عليه آفاق التحرر من الإفك الفكري والاستعباد الذهني والطموح المشروع إلى تعديل ميزانيه الروحي في دائرة الإيمان الصحيح والمادي في دائرة صنع الإستقامة والراحة النفسية؟
وقد تنتهي جوقة الانقلابات العسكرية المستبدة و الساذجة في الوطن العربي إذا استطاعت الحركات الفكرية في مجملها وبكل توجهاتها “الطلاق” البين من دوائر ضباط العسكر الذين يجدون بها أنفسهم، وبما تحركه فيهم من نوازع الحكم و أشجانه، في الصفوف الأمامية للإنقضاض بها و لها بما تحمله من تنظير سياسي على الحكم والجلوس على كراسيه الوثيرة ليبدأوا معزوفة جديدة في دوامة الاستهتار بالشعوب ونهب ممتلكات البلد و تبديد مقدراته و الضرب عرض الحائط بقيم العدالة الاجتماعية و الحرية و الوحدة و التقيد بالمنظومة الاخلاقية المنبثقة عن دين الإسلام لقيم تماما كما استطاع السياسي و الكاتب أن يصف مبتدئا و مخبرا و قد أوردناه في مقدمة المقال حتى يقع الحافر على الحافر في نبذ الانقلابات العسكرية ورفضها وسيلة للحكم وتسييرا للبلدان و شعوبها دون السكوت على أنه تجدر الإشارة إلى ما هو ناشط من توجهات فكرية أسوء في خطاباتها و توجهاتها الضيقة من ألف انقلاب.