الثورات: بداية البداية أم نهاية النهاية ؟ / دداه محمد الامين الهادي
لا أحبذ عادة الكتابة المتسرعة، والحكم على الأشياء في آن حدوثها، فالحياد القيمي مطلب أساسي بالنسبة لي، والأحكام المسبقة لا تقدم رؤية منطقية للحلول والآفاق، بل تعجز عن رؤية الموضوع أساسا، وتغرق في دوغمائية عمياء تقتل قدرتنا على التفكير الإبداعي، وعلى التصور المبني على أسس
منهجية موضوعية سليمة، وفي نظرنا ليست الثورات إلا مادة بحاجة إلى أن نتدبرها بعيدا عن تشيعنا لمذاهبنا العقلية والنقلية، الماثلة في عقولنا، والظاهرة في الكتابات المتطايرة عن الربيع العربي، وإمكانية ربيع إفريقي يبدأ من بوركينافاسو.
لقد كتبت عن ما كان يحدث في ليبيا، واصفا الأمر حينها بأنه مصادرة للمال الليبي في جيوب “المنتفع الدولي”، الذي هو أوربا، التي استفادت من الاطاحة بالزعيم الليبي معمر القذافي، ونددت حينها بتدخلات دول “الشرق الأوسخ” في إمالة الكفة صوب الظهور بمظهر الثورة، وأكدت “للصداميين” المعجبين بصدام حسين أن الموضوعية في المقارنة بين النهايتين ليست واردة، فصدام مات بعد أن جلس في السجن، وتدبر الحال والمآل، وبالتالي وجد وقتا للعودة للذات، والتسليم بأن الأمور ليست بيده، وهو في البداية كان فاتحا فاه للأمريكيين عند سقوطه في يدهم، لم يكن زعيما عند سقوطه في قبضة جنود أمريكا، بل كان متعاونا في هوان وذلة، يفتح فمه عن أضراس يحاول الأمريكيون من خلالها التثبت من هويته –ربما-، أما القذافي فلم يجد فرصة للزعامة في النهاية، فمن قصف موكبه، وذوبان مراكبه ذهب للسكاكين التي غرسها الثوار في مؤخرته، وسميت تحرشا جنسيا في “النت”، ومن ثم بدأت جموع الثوار تسبب له الدوار، تضربه .. تركله .. تهينه .. تنتفه كالطائر الجريح .. تقتله في النهاية، ولا تعرف من قتله!
صدام وجد متنفسا ليجلس مع نفسه، والفجأة في موته كانت متوقعة له، بحكم السجن، والمقاضاة، والحكم، وحتى الوقوف تحت المقصلة، أما القذافي فمن صواريخ الجو المدمرة، إلى أيادي آثمة، ضيعت على العالم فرصة معرفة حقيقة الرجل من خلال المحاكمة العادلة، ومن خلال منحه فرصة زوال هلعه وخوفه وحالة الهيستيريا، التي تملكته من رهبة قصف موكبه بوابل من الصواريخ والقنابل، والنيران المشتعلة.
وفاة القذافي أظهرت العرب عرايا، فالعرب ليسوا من يقتلون الأسير ساعة الظفر به، وهو بقية من آثار عبث الأسود به، عبث الطيران الغربي به، وليس العرب من يقتلون الجريح، ويرقصون طربا على جثته، وليس العرب من يعرضون موتاهم على قارعة الطريق ليتعلم الأطفال القسوة والشدة والبؤس، وإن كانت العرب في جاهليتها فيها من عرف بذلك، فأين العرب في إسلامها ؟ …
كان جليا أن موت القذافي يشترك مع موت صدام/حسين في خصلة واحدة، ألا وهي أن الغرب كان هو القاتل، والعرب لم يكونوا إلا مقتولا به، أو مفعولا به، والرجلان كانت لهما على اختلافهما مشاكل مع الغرب، وخلافات مع الخليج العربي.
والثورات العربية ليست حقيقة نابعة من العرب –كما يروج- بل هي وجبات غربية مسمومة نضجت في أفران الغرب، وهناك تم تسميمها، وقدمت للعرب في قوالب حلوى، على أنها منتجة في مخابزهم، وفي النهاية هي “تنظيرات وتهويمات” اليهودي الشهير، الفيلسوف برنارد هنري ليفي، الذي سبق أن شارك في الثورتين المصرية والليبية، فكان في مصر ينام بميدان التحرير، ويقسم الماء والخبز، وفي ليبيا يتقدم مع الثوار على الجبهات، ويرش من رشاشاتهم تشجيعا لهم على ما يرونه بطولة، وهو انتحار واندحار، وألقى محاضرة في جامعة تلأبيب شرح فيها أهمية إسقاط بشار الأسد، فنطق اسم ليبيا مكان سوريا غلطا، واستدرك قائلا: “لا فرق المهم أن تسقطا”.
هلل العرب لثوراتهم، واستبشروا خيرا، واعتقدوا البداية مع الديموقراطية حانت، وفي أقل من سنة كانت الأكاذيب تتهاوى، فمصر سقط حاكمها بفعل الجيش، الذي كان مشاركا في الثورة المصرية لمآرب اتضحت فيما بعد، فيما دوت البنادق في ليبيا، واستحالت الجماهيرية مطلبا جماهيريا لمن خبروا في نتائج الثورة الموت للجميع، ورأوا النهاية بأم العين مرعبة، حيث الموت في كل مكان، والموتى في كل شعب.
والجزيرة التي كانت مناصرة للثورات، والتي نقلتها من ثورات إلى توراة، محيطة إياها بالقداسة والهالة والنبوءة، سرعان ما تصدعت رسالتها، بفعل فشلها في إنهاء بشار الأسد، الذي قاوم بكل قواه مسار النهاية المفروض، وحولت مقاومته المنطقة كلها إلى جهنم مشتعلة، فانتشرت المجموعات المسلحة، والجيوش الحرة، وحركات التمرد، والسلفية، والقاعدة، وظهرت “داعش” الخليجية أصلا، مهددة السلم الخليجي ذاته، وتهاوى العراق المتهاوي أصلا، وأصبح حاكم البحرين بين بحور الرصاص باحثا عن ملاذ، من حرب ستنتشر في المنطقة.
وستكون قضية سوريا والعرق تحديدا–حسب بعض المحللين- بداية النهاية، فالشام أصلا مكان محذور في النصوص، وبوابة للآخرة، ولطالما أكد أهل العلم أن المساس بالشام يحمل نهاية العالم، ونهاية العالم صارت حديث ناسا الأمريكية، وهناك في الشام ينتظر المهدي عند السنة والشيعة.
وهنا أستشهد للفائدة بما ورد في مقابلة في الإطار، كانت قد أجرتها “يومية الشعب” مع العلامة الجليل محمد فاضل/محمد الأمين، الذي قدم استشهادات وتحليلات في محلها –في نظرنا- رابطا بين النصوص الشرعية من جهة، وبين الواقع المعاش في حالة الاقتتال السوري-السوري، المدعوم من الأجانب، وفي حالة عموم الفتن في المشرق العربي، حيث يراى العلامة المذكور تقاربا بين فتنة “الدهيماء”، الواردة في الحديث النبوي، وبين الفتن الآنية، ويقدم مسوغات بديعة، وعجيبة لكلامه، حيث يقول محمد فاضل/ محمد الأمين: “وقد قال صلى الله عليه وسلم: فتنة الدهيماء لا تدع أحدا من هذه الأمة إلا لطمته لطمة، فإذا قيل انقضت تمادت، و هنا مسألتان، أولاهما العموم أي أنه لا ينجو منها أحد من المسلمين غالبا، أي بلد، فأحد هنا قد تكون بمعنى بلد، وقد تكون بمعنى فرد، وأوضح من ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- فيها: وإذا قيل انقضت تمادت”، فكلما ظنت أمة أنها أنهت مسارها إذا بها تبدأ من جديد، مثلا بعض هذه البلدان لما تستقر بعد، رغم مرور أكثر من عام على ما اعتبر نهاية للأحداث فيها، …. إلخ، وبلاد أخرى على فوهة بركان، ومنها ما هو الآن في الامتحان.
إذن هذه الفتنة التي تشهدها بلاد العرب والمسلمين هي أقرب ما تكون إلى الدهيماء لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا تدع أحدا من هذه الأمة إلا لطمته لطمة فإذا قيل انقضت تمادت، يصبح الرجل فيها مؤمنا، ويمسي كافرا حتى يصير الناس إلى فسطاطين، أي تجمعين كبيرين، (والفسطاط هو البناء المفتوح الذي تتجمهر فيه الناس بدون حدود)، فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه”، وهذا ما اتجهت إليه الآن “الثورات”، لأن الكل يريد أن يصل نهاية غرضه، ونهاية طموحه، ولا ينظر إلى كونه أقلية أم أكثرية، من هنا إذن ستعطى الحرية للجميع حتى يظهر إيمان المؤمن، الذي كان يكتمه ربما في بعض الأزمنة خوفا من الفتن، وأيضا نفاق المنافق، الذي كان أيضا يكتمه في بعض الأزمنة خوفا من الفضائح ومن وصمه بالمنافق، والحديث لم ترد فيه عبارة كافر، وذلك لأنه على ما يبدو يتكلم عن العالم الإسلامي، عن واقع هذا العالم الإسلامي حتى يصل الناس إلى فسطاطين، “فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، فإذا كان ذاكم فانتظروا الدجال من يومه أو غده”، وهذا محل خطورة أخرى، وهو أن هذه “الثورات” تتواصل بشكل أو بآخر في بلد، أو آخر حتى تتمايز الناس إلى قسمين، قسم حر بلغته، وقسم آخر حر بلغته هو الآخر، ذاك يريد الإسلام، وذاك يريد حريته وشهواته، فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه.
وفي نهاية هذه المرحلة يأتي الدجال “فانتظروا الدجال من يومه أو غده”، ولا ننسى أن هناك مؤشرا آخرا يصدق هذا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر:” عمران بيت المقدس خراب يثرب”، ولا ننسى أن قطر كانت تبني مدينة في القدس بفلسطين، و(إسرائيل) تبني مدنا أخرى في فلسطين، بمعنى أن هناك حملة للبناء جانب منها من طرف (إسرائيل)، وحانب آخر من طرف العرب والمسلمين في جانب فلسطين، ومن هنا تبدو الصورة صورة حملة معمارية في بيت المقدس بكامله، وفي فلسطين كدولة، إذن هنا تكون الصورة واضحة، وهي أن المشوار بدأ في قوله صلى الله عليه وسلم “عمران بيت المقدس خراب يثرب”، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية وفتح القسطنطينية خروج الدجال، كأنه سلك تتتابع حباته واحدة تلو الأخرى، بدأ بعمران بيت المقدس ثم خراب يثرب ثم الملحمة العظمى، وتلك معروفة حيث يكون جيش المسلمين فيها في دمشق، وجيش الكفار في شمال سوريا في الحدود بينها مع تركيا، في مكان يقال له “الأعماق أو دابق”، وكنت سألت سفيرا سابقا لسوريا فقال لي: “إن دابق معروفة بوقعة مرج دابق، وهي مكان يقع على حدودنا مع تركيا”، إذن شمال سوريا وحدودها مع تركيا، أو مع العراق هي التي يكون فيها معسكر الكفار، أما معسكر المسلمين فسيكون في دمشق، وهذه أحاديث صحيحة في هذا الموضوع، وهناك أحاديث كثيرة صحيحة في هذا الموضوع ومنها ماهو في صحيح مسلم” انتهى الاستشهاد.
والملاحظ عموما هو أن إيران رمت بكل ثقلها لتنقذ الأسد، وروسيا رفضت الاستكبار الأمريكي بقوة، وتركيا بدأت تدخل الأزمة كمفعول به، فصارت هي الأخرى تواجه في الداخل التمرد، وتضيق بالمهاجرين من سوريا، ولم يقبض أردوغان الثمن بسهولة كما فعل يوما مع القذافي، الذي باعه للغرب، وسهل على الآخرين التخلص منه.
وأردوغان هو الذي جاهر في “دافوس” ببغض اليهود أمام السفاح شمعون بيريز، وهاجم سكوت العالم عن المجازر، وكان تلقى صفعة من خلال ضرب
اليهود لسفينة “مرمرا”، تلك السفينة التي سببت أزمة دبلوماسية بين الأتراك واليهود، وفي لحظة تاريخية عاد الصفو والدفء للعلاقات بين الاثنين، وكانت المعلبات التركية هي طعام الجنود اليهود في الحرب المنصرمة على غزة 2014.
والخلايجة على اختلافهم فهموا أن دمارهم في تدبيرهم، فعادوا أدراجهم نوعا ما، حيث صاروا خائفين من شظايا وحمم مخططاتهم، الرامية لإنهاء حكام العرب بأساليب طائشة، تقوم على الإعلام المزيف للحقائق والأكاذيب، وعلى دعم الغربيين واليهود في مساعيهم لنشر الفوضى الخلاقة كفكر وواقع هدام، سينسف السلم العربي أولا، والعالمي ثانيا، ومن هنا فإن البداية ليست إلا بداية النهاية، حيث سيشتعل “الشرق الأوسخ” الأوسط يعني، وسيهب “المنتفع الدولي” المجتمع الدولي يعني للإطاحة بالعروش والكراسي العربية، وفي النهاية تشتعل المناطق العربية دولا وجزرا وخليجا، ولا يكون الغربي قادرا على التحكم في الفوضى –كما توقع-، وينقلب السحر على الساحر، فتبدأ النهاية الغربية، التي ستأتي من انعدام الطرق الآمنة للحصول على النفط العربي، وعلى المواد الأولية العربية، التي هي قوت الإنسان الغربي، الذي سيلجأ لأساليب بديلة لن تستطيع توفير حاجياته، وفي النهاية سيبدأ الربيع الغربي، وهو فعلا يبدأ الآن من خلال الصراع الروسي الأمريكي-الأوربي على “أوكرانيا”، هذا الصراع الذي سببه “الغاز”، الذي هو سبب الصراع في سوريا، والجوار السوري، حيث تؤكد الأبحاث والدراسات الدولية على وجود وأهمية احتياطات تلك المنطقة منه.
والذين يراهنون على الثورات هم مجموعات مصرة على التغاضي عن الحقائق، عن أن الثورات تحمل أسباب الفشل التالية:
-هي ثورات مبرمجة بالأكاذيب الأعلامية؛
-هي احتكام للقوة من قبل أنظمة فاشلة، وميليشيات مدعومة من الخارج، لا تمثل إلا نفسها، وطموحها للثراء بلا سبب؛
-هي ثورات تقوم بمنأى عن عامل القيم، وتتحلى بالفوضى؛
-هي ثورات نشرت القتل والدمار والهرج والمرج حتى غاب الأمن والأمان، وانسلخ مفهوم الخوف من قتل النفس المؤمنة؛
-هي ثورات نشرت منطق التكفير الطائفي والعرقي والأثنولوجي، وأذكت شرارة إنهاء التعايش السلمي بين الأعراق والقوميات المختلفة.
والأسباب كثيرة التي تجعل الثورات مسار نهاية، وليست مسار بداية، والدم مسكون بثورات مؤجلة هو الآخر، ويحمل لعنات كبيرة، وبالتالي فإراقة الدم التي ينظر لها المتفائلون بشكل عبثي ليست مسألة بسيطة، فلن توفر الخبز المشتهى، بقدر ما ستوفر عوامل إجرامية، تكون حاضنة لاستمرار العبثية والظلامية، وستشوى فيها أوطان بكاملها.
وليس سقوط حاكم بوركينافاسو “ابليز” كومباوري إلا كسقوط أغباغبو “حاكم كوديفوار”، وكسقوط “القذافي”، وسقوط “توماني تورى” في مالي، فهذه أشياء لا تقدم، فأزمة هذه الأوطان المسقوط عنها عميقة، ومتجذرة في الشعب ذاته، حيث الأمية والفقر المدقع، وسطوة التفكير الميثولوجي، وربما فات الوقت على معالجات ملفات إفريقيا بالتي هي أحسن، وما يعطى للأزمات الإفريقية هو مثيل ما يعطى للأزمات العربية من مهدئات ومسكنات، تسكن الألم، وفي لحظة معينة سيلزم المريض التخلي إما عن عضو، أو عن حياة بكاملها، وإذا كانت ثمة إمكانية للمعالجة فستكون من خلال الاقتتال نفسه، فكلما سقط شعب في نار الهرج والمرج، وذاق ويلات الموت والخراب سيسعى بنفسه للابتعاد عن حالة الفوضى الخلاقة، ومن هنا يتبلور معنى لفظة “خلاقة”، ومن هنا ستخلق الشعوب المبتلاة آليات خاصة بها للسلم إن كانت قادرة، وهذا ما فعلته أوروبا، بعد الحرب العالمية الثانية، فدمارها الكلي، وهلاك الحرث والنسل فيها، هو ذاته الذي ألهمها حتى وصلت لحالة الاستقرار الراهن، ولكنها اليوم تبحث عن دمار جديد، بنشرها للفتن في إفريقيا والشرق الأوسط، واعتقادها بأنها ستكون قادرة على إبعاد الارهاب عن أراضيها، حين تمحق به الآخيرين البعيدين.