أمة القبور.. العارية / عبد الله الراعي
عذرا أيتها القبورالمنهوبة حتى تفرق نورك في فضاء السماء ، عذرا أيتها الكواكب، فنحن من سرق نورك وتجاهل مجدك الذي صنعت بالذخيرة والحراب ، ولأننا لا نخجل ها نحن نحتفل بالإستقلال ..!
إلى روح المجاهد سيدي ولد مولاي الزين .. إلى روح جبل تكانت الشاهق، وشهيدهاالأغر بكار ولد اسويد احمد ..
إلى روح ولد احمد العيدة الفارس الجسور، إلى روح الشيخ ماء العينين والشيخ حسنا والشيخ وجاها وأبنائهم المجاهدين.. إلى روح البطل المجاهد محمد المختار ولد الحامد الكنتي ..إلى روح اعل ولد مياره.. إلى روح الأمير ولد اديد.. إلى روح المجاهد عبدول بوبكر كان .. إلى روح الأمير ولد عساس .. إلى روح ابراهيم ولد مكيه .. إلى أرواح مجاهدي الكدية .. إلى روح البطل محمد ولد أمسيكه .. إلى روح كل من حمل سيفا أوبندقية في وجه المستعمر الفرنسي .. إلى كل القبور المجهولة من وادي درعة الى تينبوكتو ومن تيندوف إلى جزيرة التيدرة على ضفاف الأطلسي .. إلى كل المجاهدين نقول سامحونا على ما سرقناه منكم ، فهذه طبيعة الإنتصارات يحققها الأبطال ويسرق ثمارها الجبناء ..!
هذه أرضكم التى دافعتم عنها بأرواحكم الطاهرة تقف على مفترق طرق في الذكرى الرابعة والخمسين لعيد الإستقلال المجيد ، أرضكم التى دفعتم ثمن حريتها تهددها الإثنية والطائفية وتتنازعها أطماع الشمال ونمو ديمغرافيا الجنوب..
النساء لم تنجب بعدكم سوى نسخ مزورة ومشوهة الجينات وناقصة التفكير والتكوين همها الوحيد ملؤ البطون والتباهي في الثراء، و أن تبيع الوطن وتسهر بثمنه في حانات السفور وليالي القصور الحمراء وشعبها يمزقه الفقر والتخلف والجهل..!
وتشاء الأقدار أن تصادف ذكرى الاستقلال هذه السنة مستوى غير مسبوق من هبوط الخطاب وانكشاف الأطماع والمخططات الرامية الى إحداث شرخ في وحدة الأرض ومصير الأمة الموريتانية ، بذريعة الحرية والديمقراطية .. فأي حرية هذه وأي ديمقراطية وأي حقوق..!
تقفز على تاريخ أمة وتحتقر مقدساتها .. أمة سقت بدمائها سهول الصحراء وكثبانها ونمت جبال تيرس وأدرار وتكانت على جماجم أبنائها ونزفت دماؤها من واد الذهب إلى أزواد ومن نهرصنهاجة إلى تيندوف ولازالت جراحها تنزف دون أن ترجوا تعاطفا من أحد ..!
نحن أمة الدماء السائبة لانرجوا تعاطفا من أحد ولا نقبل أن يسرق تاريخنا أوتشوه حضارتنا ..
إلى الأورام الإجتماعية التى تساوي في خطورتها فيروس الإيبولا .. إيرا وفلام..!
تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم .. واقرؤا هذه الحقائق عن تاريخ الأبطال، الذين دفعوا دمائهم ثمنا رخيصا لهذه الأرض حتى لاتظنوا أنها أخذت سلفة ولم يدفع ثمنها ..
سنقدم هذه النماذج انطلاق من خارطة توزع المقاومة..
ففي منطقة الترارزة خاضت المقاومة مئات المعارك الباسلة ضد الأعداء وكبدتهم فيها خسائر فادحة ، معركة “لكويشيش” بقياد الأمير ولد الديد ، معركة “سهوت الماء” بقيادة مجموعة من أولاد بسباع والرحاحله وتم خلالها إبادة رتل عسكري بقيادة الرقيب فليب، وغير بعيد من ذات المكان هاجمت سرية من المقاومة كتيبة عسكرية من الغزات وأعوانهم بقيادة النقيب دهيلدا، وفي شهر نفمبر من سنة 1905 أجهزت المقاومة على جيش من أعوان المستعمر تعداده مائة وخمسون عنصرا معظمهم من العملاء والسينغالين .
وفي معركة “دشنو” تم سحق قوة من خمسة عشر قناصا على يد مجموعة من مجاهدي اولاد بني السباع ، وفي ” اعكيلت انعاج” نفذت مجوعة من المجاهدين مشكلة من اولاد ادليم ولعلب واولاد بني السباع وأولاد دمان، عملية نوعية ضد وحدة من قوات المستعر وأعوانه، وفي منطقة اينشيري لم يستطع المستعر ان يستقر بفعل ضربات المقاومة مرورا بمعركة ام التونسي وحتي تدمير الحامية العسكرية في اكجوجت فلا تكاد توجد نقطة من منطقة انشيري وآمساكة إلا ووقعت في مواجهات دامية مع القوة الإستعمارية، وفي لبراكنة وغير بعيد من بوكي، غارت مجموعة مقاومة قادمة من تكانت على مركز للعدو وأجهزت عليه، وفي شكار وقعت معركة طاحنة ضد الاعداء بقيادة الامير أحمدُ، وفي منطقة مال التى جعل منها المستعمرمركزا عسكريا، وقعت مواجهة دامية قادتها كتيبة من ايدوعيش ، كما تم تدمير “مركز ميت العسكري” على يد مجموعة من المقاومين، بقيادة الأمير بكار ولد اسيود احمد، وفي مكان غير بعيد من بحيرة “صرك ” نفذت مجموعة من المجاهدين، بقيادة الأمير ولد عساس عملية نوعية ضد كتيبة من الجمالة تابعة للمستعمر، قادمة من تكانت واستشهد في هذه المعركة الأمير ولد عساس وعدد من المجاهدين.
وفي كوركول وسيلي بابي دمرت قوة من المقاومة، تتكون أساسا من أولاد غيلان واولاد بني السباع وأولاد ابراهيم، مركز امبود العسكري ، وفي تكانت وآدرار أخذت المقاومة طابعا أكثر تنظيما، حيث طبيعة الأرض تسمح بالتخفي وشن هجمات مباغة اربكت العدو ودمرت دفاعاته وحصونه القوية، وكانت أولى المعارك الشرسة في تكانت معركة “دركل” في منطقة جبلية غير بعيدة من لحصيرة، وتم خلال هذه المعركة إبادة كتيبة فرنسية من المشاة والخيالة واستولت المقاومة على الكثير من العتاد والذخيرة ، وفي شهر ابريل من سنة 1905 ، وقعت معركة “بوكادوم” وتكبد العدو الكثير من الخسائر وتم استشهاد الأمير بكار ولد اسويد احمد ، وبسرعة انتقل خبر استشهاد شيخ المجاهدين إلى المقاومة في آدرار، فتشكلت مجموعة فدائية بقيادة الشريف سيدي ولد مولاي الزين ونفر من بطون قبيلة ايديشلي البطلة، وتوجهوا نحو الحامية العسكرية في تجكجة وفي الثاني عشر من مايو سنة 1905، اقتحمت الكتيبة قلعة تجكجة واجهزت على الحاكم الفرنسي في موريتانيا “اكزافي كبولاني”، وبعد موت كبولاني قاد امير آدرار ولد احمد العيدة جيشا من القاومة باتجاه تكانت واشتبك في عدة نقاط مع العدو وكبده خسائر كبيرة في القوة والعتاد، واستمرت هذه المعاركة قرابة عام كامل دون توقف ، وفي اكتوبر سنة 1906 وصل الشريف مولاي ادريس على رأس تعزيزات من المجاهدين تم تنظيم صفوفهم في أحراش تكانت بالقرب من منطقة النيملان ، حيث جرت معركة حاسمة شاركت فيها كل قبائل الشمال والشرق تحت قيادات مختلفة من أبرز قادتها الشريف مولاي ادريس ، وعثمان ولد بكار ، والمجاهد محمد المختار ولد الحامد الكنتي وتم سحق العدو في بلدة النيملان ” معركة النيملان الشهيرة “.
هذه المعركة خسرت فيها القوات الفرنسية نخبة قيادتها الميدانية ، وفي السادس من نفمبر من نفس السنة حاصرت المقاومة ، بقيادة مولاي ادريس، قلعة تجكجة بجيش قوامه ثلاثة آلاف مجاهد واستمر الحصار لأكثر من شهر، وانتهى بصول تعزيزات للمستعمر قادمة من السينغال ، وفي المنطقة الرابطة بين آدرار وتكانت لايوجد موطأ قدم إلا وشهد مواجهات عنيفة بين المقاومة وقوات المستعمر، حيث تظهر سجلات المستعمر أكثر من مائة وخمسة وثلاثين معركة مابين شهر مارس وشهر نفمبرمن سنة 1909 وبمعدل قتلى يتراوح مابين ثلاثة ضباط وخسمة ضباط صف لليوم وعشرات القتلي والجرحى من السينغالين والعملاء ، ومعظم هذه المعارك وقع في منطقة آدرار والمنطقة الفاصة بين آدرار وتكانت، ولعل أشهر المعارك التى وقعت على الخط الفاصل بين تكانت وآدرار هي معارك “المينان” و”تالمست” اللتين تمت فيهما إبادة كتيبة نخبة الجمالة في القوات الفرنسية، بقيادة النقيب مانجان الملقب “بوضرس” والرقيب “منغيين” وقد شاركت في المعارك تشكيلات مشتركة من قبائل المنطقة بقيادة الشيخ حسنا ولد الشيخ ماء العينين.
وبوصول الغزات الى مشارف آدرار اشتدت ضراوة المقاومة وقدمت في سبيل الأرض آلاف الارواح الطاهرة، التى صعدت إلى ربها دفاعا عن حرمة الأرض والدين ” معركة آماطيل ” معركة حمدون ” معركة بوكطرة ” وغيرها من المعارك الخالدة ،ولأن آدرار يمثل بنسبة للفرنسين الخطر الأكبر فقد تم التركيز عليه بشكل كبير .. يقول العقيد غورو :” إن عقدة القضية الفرنسة تكمن في آدرار بجباله وواحاته الأربعين وما توفره من تمور وشعير وغلال للمقاومة ولن يتم إخضاع موريتانيا مالم تتم السيطرة بشكل كامل على آدرار”.
لم يتمكن الغزات من إخضاع منطقة أدرار إلا بعد استشهاد رجل المقاومة الشهيد ابراهيم ولد مكية وأسر الامير سيد احمد ولد أحمد العيده بعد سقوطه جريحا في معركة تشيت سنة 1911 .
كان ولد العيد هو ومجموعته يقومون بتجميع المجاهدين في منطقة الحوضين وأزواد ويهجمون على الخطوط الخلفية للعدو في تكانت ولعصابة والحوضين ، وفي منطقة تيرس زمور وآمساكة واينشيري لم يستطع المستعمر الإستقرار تحت ضربات الأحرار من قبائل الشمال خاصة اركيبات وتكنة واولاد ادليم واولا بني السباع، ولعل معارك لبيرات ستظل محفورة في الذاكرة الفرنسية كدروس خالدة من أبناء الصحراء..
وقد استمرت المعارك بين المقاومة والمستعمر بشكل مستعر إلى غاية 1934 دون توقف إلى أن تم قطع خطوط الإمداد عن المقاومة بشكل تام ، ومع تضافرالعوامل الداخلية والخارجية لإضعاف المقاومة، فإن البارود لم يتوقف حتى خرج آخر جندي فرنسي من أرض موريتانيا .
هذه المعطيات التى قدمنا مجرد نماذج قليلة لآلاف المعاركة الطاحنة من ظهر تشيت إلى ازواد ومن وديان الخروب إلى ام التونسي ومن تالمست إلى الزرافية.
فلاتوجد نقطة من هذه الأرض إلا تحتضن رفات شهيد سقط في ساحة الشرف دفاعا عن هذه الأرض الطاهرة وظلت قبورهم عارية ومجهولة رغم حصول الإستقلال وقيام الدولة..!
فإلى متى ستظل رفات شهدائنا وقبورهم تذروها الرياح والسوافي ونحن نترع الكأس دون تفكير في من صنعوا مجدنا .. هل سنظل نحرمهم من أخذ مكانهم الطبيعي في ذاكرة هذه الأمة ..!
في كل البلدان التى شهدت مقاومة مسلحة هناك أنصاب تذكارية لأبطال المقاومة تتشاركها الذاكرة الجمعوية وتحتضنها الأجيال ، كرموز وطنية صنعت المجد ودفعت ثمن البقاء على الأرض ، أما نحن وللأسف الشديد فإن تاريخ مقاومتنا أخذته السوافي وتناسته النخب وتجهاله الحكام المتعاقبون، وبشق الأنفس يتذكرونه في خطابات أعياد الإستقلال ..
إن الأمة الموريتانية في هذه الظرفية الإستثنائية من تاريخها ، تلزمها مضاعفة الجهود لحفظ التاريخ والتعريف به حتى لا تولد أجيال أخرى أكثر جهلا من “إيرا وفلام” بتاريخ أمة القبور العارية ..!