مقالات

ليس هذا وقت “دفع العصا”.. !ّ! / حبيب الله ولد أحمد

يارة رئيس الجمهورية للولايات الشرقية جاءت في التوقيت الخاطئ بكل المقاييس، ليس من المهم مثلا القول إن تلك المناطق تشهد ظروفا مناخية صعبة، تصل حد “الجفاف” بالنظر إلى ضعف التساقطات المطرية خلال الخريف الماضي، وهي ظروف تخلق ـ بالضرورة ـ فقرا وبؤسا وتدنيا في مستوى

دخل ومعيشة المواطن هناك، خاصة وأن تلك المناطق تعتمد كليا على التنمية الحيوانية، وبدرجة أقل على الأنشطة الزراعية، فلا مصانع ولا معادن ولا حركة في سوق العمل والتجارة، باستثناء الحركة الخجولة للبضائع والمواشي والمبادلات التجارية على طول الحدود مع جمهورية مالي المجاورة، وهي حدود يلفها ضباب الحرب ، وانتشار اللصوص وقطاع الطرق، وأجواء الاحتقان الطائفي والعرقي التي عصفت بمناطق مالية واسعة قبل سنوات.

إن في البلاد من المشاكل والتوترات ما يكفى لصرف النظر عن إرهاق سكان ولايات الشرق بزيارات كرنفالية، تبدو حتى الآن بلا نتيجة، فالسكان لم يطرحوا مشاكلهم الحقيقية ،والرئيس التقى بأطر قادمين معه من نواكشوط العاصمة، وهم ـ ككل أطر الداخل الموريتاني ـ اعتادوا أن يأخذوا مناصب وخيرات ولاياتهم ولا يجعلوها وطنا، وكان بمقدور الرئيس الاجتماع بهؤلاء هنا في العاصمة، بدل هذه الزيارة المرهقة للمواطنين والإدارة والمؤسسة العسكرية وخزينة الدولة، فالدولة كلها سافرت مع الرئيس، وتعطلت مصالح كثيرة، وتوقفت خدمات عديدة ،لأن القائمين عليها ذهبوا مع الرئيس، لاعتقادهم بأن زيارته لا يتخلف عنها إلا “منافق معلوم النفاق” ومعلوم “العقاب” أيضا..ّ!!

والمتتبع للزيارة لا يلمس فيها جديدا في الشكل والمضمون، إن هي إلا استنساخ لزيارات ولد الطايع، فنفس المستقبلين والمستقبلين (بفتح الباء)، نفس الوجوه، نفس الصحفيين، نفس العسس، ونفس الحاشية، وكان بمقدور الرئيس أن يبعث بمفتشين “سريين” ـ مثلاـ للمؤسسات الطبية والتعليمية في تلك المناطق، لإعداد تقارير ميدانية، تمكنه من التعرف على وضعية الصحة والتعليم، بدل زيارة عابرة صاخبة لا تتجاوز 10 دقائق على الأكثرلتلك المؤسسات، لا تعطى حقيقة ما عليه الأمر، خاصة وأن وزيري الصحة والتعليم نقلا طواقم من العاصمة لجعلها في الواجهة أمام الرئيس، وبالغا في إظهار إمكانات مادية وبشرية “وهمية” فرأى بعض المرضى طبيبا لأول مرة في حياتهم ،وجلس طلاب على مقاعد خشبية لأول مرة في حياتهم، تماما كما عاد أطر ومنتخبون إلى ولايات بعضهم لم يرها منذ يوم قطعت “سرته”..!!

ومن المؤسف أنه باستثناء تدشينات لمشاريع ووضع حجر لأساس لأخرى قديمة متجددة ( كل ما نضجت جلودها بدلت جلودا غيرها) فلا شيء حملته الزيارة إلى سكان المناطق الشرقية، اللهم إلا صب الزيت على نار صراعات تقليدية على مراكز النفوذ والقرب من الرئيس ،يقودها نافذو نفى الحكومة ووجهاء قبليون، وشيوخ طرق، وضباط أمن ،وهي صراعات لا تحتاج لأكثر من توقف الرئيس في هذه القرية ،ونسيانه لتلك القرية حتى تستعر نارها، وتتطاير شظاياها في مجتمع به من الفقر والبطالة والتهميش ما يجعل بعض أفراده مستعدين ـ إحباطا ـ للعودة ـ وفي أي وقت ـ إلى جذورهم التربيعية قبليا وطرقيا وعشائريا..

لم يفكر الرئيس كثيرا في هذه الزيارة، وهو الذي لا يستشير أحدا،( رغم الجيش الجرار من المستشارين والملحقين والمكلفين الذى تضج به رئاسة الجمهورية) ولا وقت لديه لدراسة ” الجدوائية السياسية” والاقتصادية، وحتى الأمنية، لأي تحرك من تحركاته ونشاطاته الداخلية أو الخارجية، ولو أنه فكر قليلا، لاكتشف أن مسؤوليته ـ كرئيس بلد يشتعل ـ تحتم عليه دفع “الحسامات القضب” قبل التفكير في إزاحة “العصا”..!!

إن “تغيير الدستور” و”الحملة السابقة لأوانها” مجرد “عصا” صغيرة لا ينبغي التفكير فيها و”الحسامات القضب” تظل بلدا بأكمله..!!
لدى الرئيس عمال مضربون في ازويرات ونواذيبو، وسجناء في ألاك، وآخرون في بيرأم أكرين، وآخرون في “بلاد الله الواسعة”، من المهم فتح ملفاتهم بشفافية وصدق وعدالة ونزاهة، ليتحرر من تحرر منهم عن بينة، ويخلد في السجن من خلد منهم عن بينة.
لدى الرئيس ارتفاع صاعق للأسعار، يهدد في الصميم شرائح عريضة من المجتمع، ويوشك أن يصل بها حد المجاعة.
لدى الرئيس حوار متعثر، ومشهد سياسي قاتم ومرتبك، ولديه تحديات أمنية ذات أرجل “داعشية” و”قاعدية” و”بوكوية”يزحف بعضها عبر رمال أفريقيا جنوب الصحراء، وبعضها الآخر يهرول عبر دول المغرب العربي، منتشرا انتشار النار في الهشيم.
لدى الرئيس إضرابات للطلاب ،والعاطلين وضحايا العطش، وضحايا الظلم والتسلط.
لدى الرئيس وضعية أمنية صعبة في العاصمة، كما في الداخل، قتل واغتصاب، وسطو مسلح ، وتفش غير مسبوق لكل أشكال الجريمة المنظمة.
لدى الرئيس حراكات اجتماعية تخفى ـ تحت اليافطات الحقوقية ـ إرادات محلية مدعومة خارجيا، لتمزيق البلاد ،والعصف بها تعايشا وكيانا وسيادة.
لدى الرئيس سفراء أجانب، يتجاوزون صلاحياتهم، ويدسون أنوفهم في الشأن المحلي، وقد اعتلت أعينهم “الحواجب” عبر تصرفات تصل حد خدش الحياء السيادي الوطني العام.
لدى الرئيس مستشفيات فارغة ،عمالها أكثر بؤسا من مرتاديها، فلا دواء ،ولا تجهيزات، ولا رقابة، فلا هم لعمال الصحة اليوم سوى تغميض أعين الموتى، الذين تحصدهم الأدوية المزورة، وضعف التشخيص وآلياته، وهشاشة البني التحتية، والإهمال والفوضى، وغياب تطبيق مبدا العقوبة والمكافأة.
لدى الرئيس تعليم منهار، يستعد لتخريج جيل موريتاني متنافر، هذا ثقافته عربية، وذاك مفرنس، وهنا مثقف بالتركية، وهناك مثقف بالفارسية، وهكذا، فلا مناهج، ولا رقابة، ولا سلطة للدولة على تعليم، تحولت مؤسساته إلى مجرد متاجر صغيرة، تتنافس على عرض بضاعة مغشوشة، وأحيانا غير معروفة المصدر و النشأة.
لدى الرئيس أزمة صيد متفاقمة مع دول الإتحاد الأوروبي، وارتباك في التعاطي الدبلوماسي مع صراع النفوذ بين الأوروبيين والأمريكيين، وضعف تعامل السفارات فى الخارج مع مشاكل الجاليات الموريتانية التى بدأت تلاحظ سلوكا عدوانيا اتجاهها فى دول عديدة خاصة فى إفريقيا وأوروبا دون أن تجد وطنا قويا يقف إلى جانبها ويتدخل لتسوية أوضاعها المعقدة.
لدى الرئيس ثلاثة مواطنين محتجزين فى “أغواناتانامو” و”سوريا”، تتحرق أكباد كل الموريتانيين شوقا لإطلاق سراحهم، وعودتهم سالمين غانمين لوطنهم وذويهم.
لدى الرئيس الكثير والكثير من الأمور ذات الأولوية، فالناس تضج ظلما وفقرا وتهميشا وإحباطا ، والوطن يحتضر، ولا حيلة لأبنائه الذين يمارس بعضهم العقوق في حقه نهارا جهارا، والشمس رأد الضحى..!!
أليست هذه كلها “حسامات قضب”…؟!!
إن السيل بلغ الزبى ياسيادة الرئيس، والوقت ليس لصالح “دفع العصا”
ورحم الله الشيخ محمدو ابن حنبل الحسني القائل فى هذا المعنى ـ وهو يحث على طلب العلم وعدم الانشغال عنه بأمور ثانوية ـ حتى لو كانت غوائل الدهر ومصائبه :
( إن تقولوا منعتنا درسه

إزم الدهر وأعوام شهب

قلت هل يحتال في دفع العصا

من أظلته الحسامات القضب) ..!!

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button