ملفات ذكرى الاستقلال:أحمدو بن حرمه.. مناضل، و سياسي.. وإنسان

بعد عشرة أيام من الآن تحل على الموريتانيين ذكري عيد استقلالهم من الإستعمار الفرنسي ، ورغم ما تمربه بلادنا حاليا من “تشظي” فى المواقف وتنافر فى الآراء حول ماينبغى ان يكون عليه مستقبل هذه البلاد ، لا يختلف إثنان هنا، فى نظرتهما إلى ماضي هذه الدولة ، وما عاناه الجيل المؤسس من متاعب وماقدم من بذل وتضحيات ، سبيلا لما نحن فيه الآن من بناء وسيادة .
موقع “أنباء ” إجلالا لهذه المناسبة وتقديرا لقادة ذلك الجيل يفتح صفحاته للأ قلام الموريتانية الراغبة فى تناول تلك الفترة بحياد وموضوعية ، واستهلالا لتلك المساهمات ، مقال كتبه الأستاذ\بشير ولد محمد الحافظ ، تحت عنوان : أحمدو بن حرمه مناضل وسياسي وإنسان.
نواكشوط ـ بشير ولد محمد الحافظ
مر يوم العاشر من نوفمبر الماضي دون ان يثير أي اهتمام، وكانه لم يكن يوما تاريخيا في حياة بلد عاش اكثر من نصف قرن تحت نير الاستعمار، ما كان يجب ان يكون العاشر من نوفمبر يوميا عاديا في حياة الموريتانيين، ففي مثل هذا اليوم من سنة 1945 انتخب المناضل والسياسي الموريتاني احمدو ولد حرمة ولد بابانا كاول مواطن موريتاني يمثل بلاده في البرلمان الفرنسي.
شكلت فترة الاستعمار الفرنسي التي امتدت 60 سنة مادة دسمة للكثير من الكتاب والمؤرخين الفرنسيين، واستحوذت على اهم فصول مذكرات الجنود الفرنسيين الذين عملوا في هذه البلاد، وكانت معظم الكتابات المنصفة تتحدث باعجاب عن شجاعة ووطنية الشاب أحمدو ولد حرمة ولد بابانا الذي كان يومها أول موريتاني يتولى تمثيل بلاده في البرلمان الفرنسي.
شكلت سنة 1934 م بداية لفترة عمل أحمدو ولد حرمة وكان يومها ابن 27 سنة وبدا مهنة العمل مدرسا للغة الفرنسية , وبعد مهنة التدريس التي لم تطل انتقل احمدو إلى مهنة الترجمة الذي كان أصحابها يومئذ يشكلون الوسيط الأساسي بين الإدارة الفرنسية والمواطنين الأمر الذي جعل منها مهنة حساسة , وهكذا مارس أحمدو العمل في كل من ( امبود , ونواكشوط واطار وبير أم أغرين واكجوجت وانواذيبو ) , وخلف احمدو سمعة طيبة في الأماكن التي عمل فيها كما قضى عشر سنوات في سلك الترجمة انحصرت فيها خلافاته مع الإدارة الاستعمارية في التصرفات التي كان يقوم بها غيرة على الدين , ومكنته هذه الفترة من الاطلاع عن كثب على أساليب تعامل الإدارة الاستعمارية مع المواطنين الذين سينصب أحمدو نفسه مدافعا عنهم .
وخلال فترة عمل احمدو مترجما كان يغير المنكر الذي يراه في تصرفات الإدارة الاستعمارية مما جعل منه خصما لدودا لهذه الإدارة , وغيرما مرة ترى هنا وهناك مواقف أحمدو التي تسير في نهج نصرة الدين والغيرة عليه , وواجهت الإدارة الاستعمارية ذلك بإجراءات العقاب التي كان آخرها انعقاد مجلس تأديبي لأحمد بعد حادثة أطار التي أهان فيها أحمدو ضباطا فرنسيين , وقرر هذا المجلس تحويل أحمدو عقابا له إلى النيجر واستدعي إلى دكار للاطلاع على القرار , غير أن خطوات مسيرة طويلة من النضال بدأت تتضح وبدأت معالمها تتوضح .
النضال السياسي :
بدأ فور اطلاعه على دستور الجمهورية الرابعة ( أكتوبر 1946 م ) حملته الانتخابية حيث رشح نفسه كاشتراكي في إطار الفرع الفرنسي للدولة العمالية وحصل على دعم الاشتراكيين السنغاليين وكل الساخطين على المستعمر وسياسته الذين وجدوا في أحمدو ولد حرمة المنقذ الذي سيخلصهم من نير الاستعمار.
وهكذا فاز ولد حرمة بأغلبية ساحقة على منافسه في الانتخابات التي جرت يوم 15 نوفمبر 1946 م ليتبوأ مقعد نائب موريتانيا في الجمعية الفرنسية . و تميزت سنوات هذه النيابة بنشاط سياسي مكثف في موريتانيا كان أحمدو محركه الأساسي من خلال المهرجانات التي كان يعقدها هنا وهناك وتتابعها راديو الاستعمار حيث كان احمدو يركز على ضرورة الوعي في سبيل الخروج من ربقة الاستعمار وخلف بخطاباته وتصرفاته المفعمة احتقارا للمستعمر ورجالاته في صفوف السكان , مما جعل الفرنسيين يتأكدون أنه ليس رجلهم المناسب وانه ينبغي السعي إلى التخلص منه .
وعندما حان وقت الانتخابات التشريعية التي جرت في يونيو 1951 م رشح أحمدو نفسه من جديد ليخسر هذه الانتخابات أمام منافسه سيد المختار بن يحي انجاي , وهنا طعن أحمدو في صحة الانتخابات.
وخلال الفترة الممتدة بين 1951 و1956 عاد أحمدو لتعبئة وتنظيم مناضلي حزبه من جديد لكسب المزيد من المقاعد في الانتخابات المقبلة لكن الإدارة الفرنسية كانت مصرة على الوقوف في وجهه حتى لا يشجع روح الثورة والتمرد عليها بل إن أقرب مؤيديه من الفرنسيين تخلوا عنه , وبدأت الإدارة الفرنسية مضايقته بدا بتعليق راتبه مرورا بتحويله إلى دكار وصولا إلى منعه من زيارة بلده الخاص .
فهم السياسي احمدو الرسالة حق فهمها وانتقل إلى النضال على جبهة أخرى مختلفة عن جبهة صناديق الاقتراع التي أدرك عدم جدوائيتها فترك البلاد وسافر إلى الخارج لحشد الدعم وتهيئة القوة لإخراج المستعمر من موريتانيا , والتقى بعدة شخصيات اتحد معها في فكر محاربة الاستعمار أمثال جمال عبد الناصر وفرحات عباس , , وقدم له ملك المغرب الراحل محمد الخامس دعوة لزيارة المغرب , استطاع أحمدو من خلالها وانطلاقا من خطة استرتيجية أن ينقل معركة الكفاح ضد المستعمر إلى المغرب البلد المحاذي لموريتانيا . وهنا قام بتأسيس جيش التحرير الذي أذاق المستعمر الذل والهوان , وواصل عطاءه وهجومه على المستعمر إلى أن حصلت موريتانيا على الاستقلال ما اعتبره أحمدو استقلالا صوريا ما دامت موريتانيا ووزارات السيادة بها تحت يد الاستعمار , وهنا واصل النهج والطريق والكفاح بالكلمة والصوت والبندقية إلى أن حانت سنة 1965 م والتي مثلت انسحاب آخر جندي فرنسي من موريتانيا , عندها أدرك أحمدو أن مهمته قد انتهت وأن كفاحه قد أثمر , وأن صفحة جديدة من العطاء ستنفتح , وهنا بعث رسالته المشهورة إلى ملك المغرب طالبا منه السماح له بمغادرة التراب المغربي الذي اتخذه ساحة لتحرير موريتانيا ووافق هذا الأخير . وبدأت صفحة جديدة من العطاء .
في عام 1967 م غادر احمدو التراب المغربي بعد أن أنهى فصلا من فصول النضال طبعته العزيمة والإصرار والتحدي الذي لا يعرف الاستكانة .
أحمدو في عيون الفرنسيين :
لم يكن أحمدو يقبل للفرنسيين التدخل في محاربة الشعائر الدينية خاصة أداء الصلاة في وقتها وقد وجدت في محاضر جلسات مجلس النواب تحديد وقت الراحة بين الجلسات بناء على رغبة النائب حرمة ليتمكن من أداء الصلاة , ولم يكن كفاحه للمستعمر إلا لأسباب دينية , فهو يرى أن شعب موريتانيا المسلم لا يمكن أن يبقى تحت سيطرة دولة كافرة , ولم يقبل المداهنة تحت أي ظرفية لتمام إيمانه بالله ولعل أصدق وصف لأحمدو ولد حرمة ما ورد على لسان الفرنسي ” غابريال فراك ” ( اشهد أنه كان أولا وقبل كل شيء ذلك الذي لا يمكن للذهنية الأوربية أن تفهمه فهو السجين والوريث الطبيعي لماضيه وتقاليد)
وفاته :
في يوم السبت 7 يوليو 1979 م على الساعة الثانية وخمسة عشر دقيقة التحق احمدو ولد حرمة ولد بابانا بالرفيق الأعلى عن عمر يناهز الثلاثة والسبعين عاما
وبهذا تطوى صفحة من انصع وأزهى صفحات الجهاد وكفاح الإنسان الموريتاني الذي مثله أحمدو ولد حرمة خير تمثيل بصدقه وشجاعته وكرمه وعلمه وحبه لوطنه رافعا بذلك اسم موريتانيا عاليا في المحافل الدولية



