مقالات

“السيبة”… السلوك المارد و المنهج الشارد / الولي ولد سيدي هيبه

“الحضارة تبدأ بالنظام وتنمو بالحرية وتموت بالفوضى”

يشير المصطلح التاريخي “بلاد السيبة” إلى الفضاء أو المجال الذي لم يكن مُؤمَّنا في جزء كبير من الصحراء الكبرى التي من ضمنها كل تراب موريتانيا، ولم توجد فيه أجهزة لأية

سلطة مركزية كانت أو جزئية أو ظرفية تناوبية تضبط بالإجماع أو بالأغلبية دونه الأمن على الأرواح و الممتلكات، متمخضا عن وضع خطير دفع القبائل و العشائر والجماعات في تلك الفضاءات الرحبة إلى الاجتهاد في ابتكار أشكال حماية تتماشى مع احتياجاتها وواقعها، فكانت المدن التي تؤويها و الموجودة ضمن التضاريس الجبلية مرتفعة و محاطة بأسوار وأبراج يعتليها حراس، فيما كانت الساكنة منها على بساط الأراضي الواطئة، المنبسطة و المكشوفة من جميع القبائل و التجمعات التي تمارس الزراعة و تربية المواشي تستقدم من يحميها مقابل جزية تؤديها سنويا من رؤوس ماشيتها و من محاصيلها الزراعية و نسبة من إنتاج حرفها أو مداخيل خدماتها.
و “السيبة”، يقول أحدهم، بهذا المعنى تحضر أساساً عندما يغيب “القانون” و يصعب “التعايش” ويسود “منطق الغاب” و”حب التَّمَلُكِ” و”منطق الغلبة” و”جاهز الشوكة” هو “الثابت” لا “المتحول” و”الفيصل” في إدارة مجريات الأمور وتوجيهها وفق “المقاس” وتبعا “للمزاج” وبواعث “الانشغال والاهتمام”، وفي هذا السياق ونتيجة لهذا الاختيار العبثي تظهر و تتنامى ثقافات هجينة مشبعة بـواقع السيبة “فكرا” و”ممارسة”، تَمْتحُ وتَغْرَفُ من “فلسفات” لقيطة أوجدها واقع “الاستضعاف” و”الجور” و”الطغيان” الدائر في محيطها.
و السيبة هي نقيض الدولة الحديثة التي ترتكز على نظام يحيطه القانون بسياجه المنيع تحت مظلة دولة العدل التي تتمحور فيها السلطة حول حماية مواطنيها من الممارسة التعسفية و يتمتعون فيها بالحريات المدنية قانونيا التي يمكنهم استخدامها في المحاكم علما بأنه لا يمكن لحرية أو ديمقراطية أن تكون من دون وجود دولة قانون أولا.
حقيقة إن أمعنا النظر و ضاعفنا التأمل فيها ثم أسقطناها على واقع هذه البلاد لهالنا كم التناقض الشديد الذي يَنخر جسمها و يُحكم القبضة عليها و يُمعن في إغراقها في سياقات فضاء “السيبة” بكل المعاني التي تحمل. حقيقة مرة لكنها ماثلة و لا يبدو أنها تؤرق أيا كان و كأن الزمن الذي يحملها في رتابته خاضع لجمود مفاهيمها كما هو في حل من سطوتها و قهرها العقول و قطعها وجهة فعل التحول.
إن كل تجليات هذه “السيبة” ماثلة في حلة المدنية الجديدة و تحاكي أساليبها لإبقاء مضامينها و مفاعيلها على واقع أمر و إن اختلف في القراءة الأسلوبية إلا أنه في الحقيقة مرتمي في أجوائها الجائرة بفعل عتاة المقَيدين و المُقيدين بحبائلها و المُصفدين بأغلالها التراكمية، “سيبة” عاتية تقهر المستضعفين و تطأهم بمنسمها و تمد مستكبريها و أغنيائها و قادة رأيها بكل قوة الظلم و استرقاق الغير من المستضعفين.
و لو أننا عرفنا الاستقرار و دخلنا عهد المدنية منذ الاستقلال الذي نشأت معه الدولة المركزية على أيدي الفرنسيين، إلا أن أهل البلد حملوا معهم إليها زادهم من “السيبة” حتى يرتبوا بها لوضعهم الجديد الذي فرضه الطمع في المال و قد أصبح وفيرا و برره طالع الراحة في كنف المدن المجهزة للاستقرار من شطط العيش الذي كان. و بالطبع فإن هذا التحول لم يقض مطلقا على جوهر “السيبة” في النفوس و إن كسر حدة شوكتها، فقد ظل “رؤساء الجماعات من الإقطاع و المنتخبون” من قبائلهم و محيط أحلافهم يحولون جماعاتهم في العمق الداخلي والحضري إلى “إقطاعيات” معنوية و سياسية و انتخابية يوزعون فيها و بها الانتماء و يزرعون الولاء القبلي مستخدمين كل آليات الجماعات وإمكانياتها لدعم “وجودهم” وتقوية “نفوذهم” و حتى يزدادوا ثراء مستفيدين من “مقاعد النفوذ” و تراكم “المال” و”الجاه.
كما مكنت السيبة من ميلاد مقاولين “مفيوزيين” راكموا الثروات الطائلة بدون حسيب ولا رقيب و فيهم الموظف و المقاول يعيثون في البلد فسادا، تسابق سياراتهم الفخمة الريح و تناطح عماراتهم عنان السماء، يقتسمون كعكعة الظفر بالمشتريات أو تنفيذ المشاريع مع” أولياء نعمتهم من بعض المسؤولين و المرتشين وقد شكلوا “مافيا” حقيقية لها اجتماعاتها و تخطيطاتها تتحين بها فرص النهب المنظم للمال العام فيما ازداد الفقراء و الضعاف و المساكين فقرا وتهميشا مع توالي السنين. و لم يسلم مسؤولو الإدارة الترابية لتحقيق أحلامهم من أن يستضعفوا المواطن و يدفعوه إلى السخط على هذا الوطن حتى يتمنى زواله.
و في الإدارة فرضت “السيبة” على الموظفين فيها من أعلى الهرم إلى أسفله أن يبتزوا المواطن و يتسابقوا إلى إسداء الخدمات المدفوعة الثمن. كما مكنت السيبة من ظهور الأحزاب المطبوعة بكل أبعادها القبلية و الجهوية و الإثنية وغيرها تبيع “حلم الجماهير” في الخلاص من قبضة واقعهم البائس و بعدما كان البعض منها “حركات” متنورة لم تلبث أن باعت زعاماتها رفاق “الأمس” واستبدلتهم برفاق “اليوم” و دراهمه متنكرة لبعض ماض كادت أن تولد فيه شبه مبدئية قايضوها هي الأخرى بحفنة من مال البلد الذي كان من المفروض أنه وجد للتنمية و البناء و إرساء دولة المواطنة و العدل.
و إنه لمن دواعي التعجب و الاستغراب أن “السيبة” التي هي، بكل ما هو ماثل من فوضى و تجاوز و تناقض و تعارض مع منهج الدين القويم و القيمة السليمة في الظاهر و في العمق، سلوك و ممارسات تبدو منهجا حياتيا مستساغا كما كان الحال في الماضي القريب، مقبول التجليات في السياق العام، يظلم بموجبه الكل عندما تتراءى فرصة و سبيلا إلى ذلك و يقبل الضيم كل من لم تعنه دولته. لا يسترعي الأمر الفظيع الذي يؤتى في حق المستضعفين من سوء تسيير لشؤونهم و هضم حقوقهم أي انتباه في ظل ما يكون من التعاطى القبلي و الجهوي و الشرائحي و الإثني في طبقيته الصارخة البغيضة و كأن ذلك هو الصواب من دون كيان الدولة المركزية الجامعة.
و بالطبع فإن ضعف النخب – المفترضة الوجود بموجب تحصيلها المعرفي العالي – و غياب نبل عزائمها في دائرة “السيبة” مفهوما مهضوما و غطاء ساترا مُدثرا، هو سبب آخر لا يقل أهمية فيما هو حاصل من هيمنة هذا الواقع الخطير الذي يخفي في طياته أسباب انفجارات هائلة و مستقبلا قاتما. و ليس كل الذي يجري من غليان الحراك الحقوقي و استهتار بالدولة و غياب مفهومها و من عزوف عن بنائها إلا لعتو هذه الظاهرة القديمة/الحاضرة و استحكامها في مجريات الأمور فلسفة و نهجا. و هي ظاهرة يدركها، قبل المواطن المكلوم، الأجنبي الذي يأتي إليها بإرادته أو يُستقدم تحت وطأة الإغراء إلى هذه البلاد أو يقيم فيها اختيارا أو ارتباطا، و لا يجد لها تفسيرا بعقله المجرد من المفاهيم المتجاوزة فلا يملك إلا أن يتقاصر عن تداعياتها حرصا على مصالحه التي يجدها مستهدفة بجرأة نادرة و يحد من الاندفاع إلى حد رفع اليد غالبا عن الاستثمار و التعامل و نبذ التبادل لإدراك غياب الندية القانونية و ضعف الالتزام الأخلاقي و وقوف التسيب في وجه المسطرة القانونية.
و “السيبة” في هذا البلد – الذي لم تشأ له أحداث التاريخ أن يتأسس على عقدٍ اجتماعي حصل عليه الإجماع، ولا على مبادئ المواطنة والفصل بين السُّلط ومُجْمل ما يقع ضمن منظومة الدولة الوطنية الحديثة من قواعد – لا تغادر في العقول صغيرة و لا كبيرة إلا و تطبعها بمدادها الذي لا يمحي و تغرسها “عشبة” فاسدة تزاحم كل بذرة طيبة يُقَدِر لها مُنعطفٌ خاطفٌ أو استثناءٌ عابرٌ أن تكون، فتتجلى في أغلب التعامل اليومي من خلال سطوة أمراض القلوب كالغل و الكبر و الحسد و النفاق، و في العمل بالكسل و التحايل والنهب و الفساد، و في السياسة بالسخط و التلاسن و في الشارع العام الناطق بلسان حال البلد بالتدافع فى فوضوية لا توصف، و سقطت في العمق من كيان المواطن كل القيم والمعايير و النظريات التي تحكم المجتمع حتى أصبح يعيش حالة اللادولة و يفتقد كل أوجه متطلبات المدنية التي ساقته إليها أقدار التحول من حالة “السيبة” الفطرية إلى شبه اللادولة المبتذلة التي أراد لها المستعمر و عملاؤه و الباقون على عهد “السيبة” أن تكون كذلك مرتمية أبدا في أحضانه أو ممسكة بأطراف جلبابه.

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button