من لاستشراق إلى الاسلاموفوبيا/ د. محمد بدي ابنو *
أنباء اينفو ـ “اكتشفتُ بأسى أن أنانيتي ليستْ بتلك الضخامة لأني منحتُ الآخر القدرة على أن يجعلني أحزن.” آنتوان دسينت اكزبيري
ـ1ـ
دفعتْ التّداعيات الْمَابَعْدَ اِسْتِعمارية أو النِّيُو استعماريّة إلى طفرات استشراقيّة متلاحقة، صبّتْ في اتجاه واحد، ووصلتْ ذروتَها غداة الحادي عشر من سبتمبر. هذا الاتجاه يترجمه أساسا التكريس المتصاعد للاستشراق الْمِدْيُولُوجِيّ “على حساب” الاستشراق الأكاديميّ. أو لنقل بعبارة أخرى إنّه يمحو الفوارق بنسبة متزايدة بين المستويين.
من المعروف تقليدياً أن الاستشراق الأكاديمي هو ممارسة عالِمة ترسّختْ منذ ما يناهز الخمسة قرون في الجامعات الأوربية، ولكنها ظلّتْ ذات وضع خاصّ. فأغلب رموزها معروفون إسلامياً أكثر مما هم معروفون أوربياً. ففي الدوائر الأوروبية يكاد يكون الاستشراق الأكاديمي محتكراً إنتاجاً واستهلاكاً على ذوي الاختصاص الضيق، أي على بعض الحلقات المغلقة المعنية لسبب أو لآخر بالدراسات السّامية والدّراسات العربية والإسلامية.
ـ2ـ
أما ما نسميه هنا بالاستشراق الْمِدْيُولُوجِيّ – الذي لم تكن الكتبُ والصحف يوماً إلا بعضاً من وسائطه المتعددة – فقد ظلّ منذ البداية خطاباً موجهاً للجمهور الواسع. وظلّ مؤسَّساً من جهة على “المشروعية” التي يمنحها الانتشار، ومن جهة ثانية على شبه مشروعية تمنحها علاقاته بالاستشراق العالِم، وتقلُّ أو تزيد بحسب السياق والمنتَج الاستشراقي العيني. ومن ثمّ فالاستشراق الأخير خاضع لروابط عديدة بالاستشراق الأكاديمي ولكنه يتحرك خارج حدوده. يتحرك بموازاته وبدِينامِيَّتِهِ وآلياته الخاصّة التي تربطه بالقاعدة الجماهيرية العريضة.
وبالمقابل فإن الاستشراق الأكاديمي الذي ظلّ سجين الحجرات الضيقة لبعض الأقسام الجامعية المعزولة والمكتبات المنسية كان دوماً بحاجة للاستشراق الْمِدْيُولُوجِيّ كأداة فصل عن الجمهور العريض ووصل به تزامنيّا. ومن البديهي أن الاستشراق الْمِدْيُولُوجِيّ يتغذى من المركزية الأوربية ومن المصادرات غير المعلنة نفسها، ولكن دون أن تلجم جموحَه وطموحَه القيودُ أو أنصافُ القيودِ الأكاديمية.
ـ3ـ
هذه العلاقة الجدلية بين الخطابين والتي كانت موضع دراسات عدة عرفتْ منعطفاً مركزياً منذ أواسط القرن الماضي. فالحقبة الْمَابَعْدَ استعماريّة أو النِّيُو اسْتِعْمَارِيّة وإعادة التشكل الْجِيُو اسْتراتيجيّ والإيْديُولُوجِيّ على مستوى النظر والممارسة عمّقتْ، من جهة ، الهوة بين الاستشراقيْن. أو لِنَقُلْ بصيغة أدق إنها عمَّقتْ الهوة بين طرفين داخل الاستشراق الأكاديمي، بدا أحدهما أكثر حماسا للقيام بدور إيديولوجي تعبوي. ومن جهة ثانية فإن إعادة التشكل هذه منحتِ الاستشراقَ الإيديولوجي- التّعبويّ فرصاً لا حصر لها من خلال منح الخطاب “الأوربي” عن الاسلام ومجتمعاته وجالياته وثقافاته حركية سِلَعِيّة تتضاعف يوماً بعد يوم وتكتسب مرتكزات ذاتية.
ـ4ـ
عندما ننظر مثلا إلى الخطوط التحريرية لكبريات دور النشر الأوربية في الخمسين سنة الأخيرة نجد أن اهتمامها بالعالم الإسلامي عرف طفرات ثخينة تتوزّع على لحظات “إيديولوجيّة” مثل : حروب التحرير الوطنية، ونكسة سبعة وستين، والهزة البترولية لسنة ثلاثة وسبعين، والثورة الإيرانية، والأزمة المرتبطة بكتاب سلمان رشدي (الآيات الشيطانية) إلخ. وإذا تَمَعَّنَّا أكثر في موضوعات تلك الكتب التي جاءت في شكل موجات نشرية متتابعة تَتَابُعَ الأحداث المذكورة، وإذا أعدنا النظر في سِيَرِ مؤلفي أغلبها وفي مواقعهم وتخندقاتهم، فإن سؤال الإيديولوجيا يأخذ معنى إضافياً. فالاختصاص بالمعنى الجامعي يختفي لصالح التكريس الْمِدْيُولُوجِيّ. والموقع والموقف يقولان بداهةً عن مثل هذه المؤلفات أكثر مما تقول هي نفسُها.
ـ5ـ
الاستشراق الوسائطيّ والتّعبويّ هو الذي اكتسح الساحة السياسية والأيديولوجية. وركبتْ موجـتَه أقلامٌ وأصواتٌ تتزايد صفوفُها يوماً بعد يوم لتصوغ عبره الصور النمطية التي تسود عالمياً بقوة الضخ الرقمي. فالقوة المعروفة للأحكام المسبقة تُـثبتُ هنا ما لها من طاقة تـخثيرية، أو تخديريةٍ، لاستنفار مختلف المكوّنات المعقَّدة لصورة “الجحيم الآخر” ، وتفرضها عالمياً كما تفرضها أوربياً حتى على المجتمعات التي تعمل مؤسساتها التربوية على شحذ العقل النقدي والتمكين له. ذلك أن تكريس الآخر كمعطى نمطي هو أحد أهم العوامل التي تضطلع متضافرة بتحييد الاستنفار النقدي وبدفع “سيكولوجيا الحشود” إلى الاستجابة دون مقاومة لإرادة الضخ الاعلامي التبسيطي والانتقائي معاً.
ـ6ـ
على أنّ العقدين الأخيرين اللذين أعقبا الحرب الباردة بتطوراتهما الجيوستراتيجية والتّقنيّة والْمِدْيُولُوجِيّة قد منحا الاستشراقَ الإيديولوجي-التّعبويّ أبعاداً طفرويّة متضخمة تسارعيا وفق معطيين رئيسين : أحدهما أن إيديولوجيا الإسلاموفوبيا قد أضحت شيئا فشيئا أهم المرتكزات الدّمجيّة للسوق الرأسمالية الإعلامية الدولية. وهي سوق أصبحتْ تمثل أحد الفضاءات السِّلَعيّة الأكثر فاعلية ونجاعة على صعيد توسع السوق الرأسمالية.
والثّاني أنّ التّحوّلات الاجتماعيّة والدّيموغرافيّة الإيديولوجويّة في أوربا والعالم الاسلامي من جهة، والتّشكّل الجديد والحثيث للخريطة الجيوستراتيجيّة الدّوليّة في علاقاتها مع الكيانات السّياسيّة، التّقليديّة والصاعدة معا، قد أعطتْ للإسلاموفوبيا وظيفة سياسيّة وإيديولوجيّة مركزية تزداد تضخّما.
* مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل