مقالات

– تمهيدا لحوار وطني في موريتانيا

بقلم : أحمد ولد هارون ولد الشيخ سيديا
ahmedharoune@gmail.com

لا يعني هذا العنوان، بطبيعة الحال، أن هناك اقتتالا بين فئتين عظيمتين أو فقدانا لجزء من الأرض الموريتانية أو مشكلا عُضالا يستدعي حوارا وطنيا ممهَّدا له… بل للعنوان منطلق مَفاده أن ديمقراطية 3 أغشت 2005 التي كانت تشكل منذ إنشاءها مرجعا قانونيا وأدبيا للحوار والعمل السياسي في موريتانيا قد انهارت.
وسواء أكان هذا الانهيار جزئيا أم كليا، أو ناتجا عن خلل في التجربة نفسها أو تجاوز من خارجها، إلا أن حاجة موريتانيا اليوم إلى قاعدة أخرى للشرعية وأرضية للتفاوض حول مشروع سياسي مركزي جديد أصبحت بادية.
المدافعون عن الإطاحة بالرئيس المنتخب ينطلقون من أن مَسلك السلطة التنفيذية المنتخبة والمستوى الذي وصلت إليه الأوضاع لم يترك مجالا أو وقتا للتكييفات التقليدية لمواد الدستور، بينما ينطلق المعارضون للتغيير من مقاربة قانونية محض، تـَرْجع أسباب التعثر إلى تدخل الجيش في السياسة وافتقار مشروعه الإصلاحي إلى الشرعية.
لكنْ، تبيَّن بشكل أو بآخر – وهذا إشكال موضوعي أكبر، أدعو الإخوة القارئين والكاتبين إلى معالجته – أنّ مجمل الشرعيات السياسية في موريتانيا بما فيها الشرعية الديمقراطية نفسُها قد تزعزعت، إما في أعين العامّة أو في أعين النخب والجيش أو في عين القوى الأجنبية.
ها هي النسخة الثانية من “الديمقراطية الممنوحة” قد فشلت في أيامها الأولى رغم ما صاحبها من مشاورات وضمانات للتنفيذ وانتخابات حرة، تـُوّجت بما اعتبره البعض استخلافا سياسيا منهجيا، واعتبره آخرون تداولا حقيقيا للسلطة وتناوبا عليها، خصوصا في أوساط المراقبين العرب الذين كثيرا ما مجّدوا هذه التجربة التداولية جَلدا للذات قبل أن يكون إعجابا منهم بديمقراطية موريتانيا.
آيات الفشل والانهيار في هذه التجربة، باختصار شديد، أربعة:
أولاها أن أكثرية من أفرزتهم صناديق الاقتراع قد أبدوا تفريطا ملاحَظا في التجربة، أو في السلطة التنفيذية المتولّدة منها على الأقل، سواء أعتمدنا في رصد ذلك على الأصوات المعبَّر عنها في الانتخابات الرئاسية أم اعتمدنا نتائج الانتخابات التشريعية والمحلية.
وثانيتها أن جمهرة المدافعين عن الشرعية المستندة إلى روح تلك التجربة، كانوا بالأمس القريب يجلدونها بالأسواط وسيول الكتابات والتصريحات اللاذعة التي تعبر عن ضعف أداءها وخطورتها على تماسك البلد ومستقبله، مما لا يُفهم من خلاله أن فائدة تـُرجى من هذه الديمقراطية وما تقدمه من مؤسسات وأفراد وبرامج.
وتتلخص الثالثة في كون الجيش المانح لهذه الديمقراطية من رأسها هو نفسه الذي تدخل بالقوة ومن خارج الترتيبات الدستورية للإمساك بالسلطة التنفيذية، بعد أن حاولت هذه الأخيرة ـ عقِبَ ليل ـ تصفية قادته.
أما الرابعة، فتتمثل في عجز هذه التجربة عن التقدم نحو تحقيق الوضع المحلوم به في مجمل المجالات العامة، بل على العكس من ذلك، توالى للتجربة من النكسات السياسية والاقتصادية والأمنية والأخلاقية، ما شكل خطرا حقيقيا وتهديدا وجوديا على حياة موريتانيا السياسية يقصر هذا المجال عنه.
فما السبيل، والحال هذه، إلى حوار وطني يجمع الشركاء المتشاكسين على مائدة المفاوضات؟ وهل من ضمانات للتنفيذ يمكن للفرقاء الموريتانيين وشركاءهم الأجانب أن يثقوا بها؟

خمس مقدماتٌ للحوار:
1. الاحتقان البادي هذه الأيام وأساليب الاحتقار والشتم المتبادل بين مؤيدي الطرفين والانتقادات السطحية من جهة والمجاملات المفرطة من جهة أخرى لا تقدم ولا تؤخر، خصوصا أنَّ من بين المتراشقين هذه الأيام مَن ينخرط في سلك النـّخب السياسية والفكرية والثقافية التي يعد أهلها على الأصابع في هذا البلد المتخلف.
2. اعتماد النخب الرافضة للتغيير على القوى الأجنبية وتكرارهم لخطابها وشروطها أصبح باديا. أما النخب المؤيدة للنظام الجديد، فقد بدا أنها نخب كسولة، لا تسعى لبلورة خطاب جديد مستقل ولا تحَرك ساكنا لطرح حلول بناءة للخروج من المأزق الحالي، متكلة في ذلك كله على أعضاء المجلس الأعلى للدولة والحكومة الذين بدءوا يلعبون دور النخب ويدخلون في التفصيلات السياسية والفنية والقانونية الخارجة عن الاختصاص المعهود لرجال السلطة.
3. أصبحت موريتانيا السياسية مكشوفة في العراء أمام العالم قريبه وبعيده… فالتهديدات الصريحة والتجوال المفرط للسفراء الأجانب ومهاتفاتهم اليومية ولقاءاتهم مع كل من الرئيسين الحالي والسابق وبقية الزعماء السياسيين، أصبحت حدثا وطنيا مصيريا ومادة سياسية وإعلامية يستوي في تلقيها وتعاطيها نخبة الموريتانيين وعامتهم.
4. القـُوى الدولية والإقليمية أصبحت أكثر تورطا في الهم السياسي الموريتاني من حكام البلاد ومحكوميها، وكأن نسخة 2005 من الديمقراطية الموريتانية، هي الوحيدة في العالمين العربي والإفريقي التي تـُعتبر خطـًّا أحمر وجزء من الأمن القومي الأوربي والأمريكي وحتى الإفريقي، يجب المحافظة عليه والتمسك به ولو على حساب أكثرية الشعب الموريتاني وممثليه. فمِنْ كثرة ما رأت من فراغات سياسية وطروح طوباوية، أصبحت القـُوى الأجنبية تتعامل مع السياسة الموريتانية بنوع من الازدراء والتورط لا تُعامل به أي طبقة سياسية أخرى في العالم الثالث.
5. من واجبات الدول العربية أن لا تألو جهدا في مساعدة موريتانيا على الخروج من الأزمة السياسية الحالية. ولاشك أن لدولة قطر وضعا خاصا في هذا المجال، نظرا لتجربتها المتميزة في المادة ونظرا لإمكاناتها وعلاقاتها الجيدة عبر العالم.
فإلى أين تتجه موريتانيا؟ هل إلى فوضى سياسية أو نظام شمولي، أم إلى ديمقراطية ممنوحة ثالثة، أم هو الاتجاه الطبيعي نحو الديمقراطية التوافقية المنزوعة؟ لماذا فشلت موريتانيا في بناء وإعادة بناء الدولة الحديثة؟ وما هي الأولويات الحيوية لأي إصلاح سياسي مأمول؟

بناء سلطة وطنية محترفة:
مما يميز “هستيريا” الديمقراطية عند النخب الموريتانية عن غيرها من “اليوتوبيات” السياسية العربية والإفريقية، هو أنه لا وجود في موريتانيا لتلك الثنائية وذلك الصراع المعهود في العالمين العربي والإفريقي بين سلطة استبدادية راسخة ومحترفة، وبين نُخَب سياسية وفكرية ومالية وحتى قبلية محترفة أيضا، لكل منهما من الرموز والأدوات والعقائد والأجهزة والعلاقات الداخلية والخارجية والمواقف القارّة ما يميزها ويمكّن من مصارعتها على التأثير والمشاركة في القرار ومحاسبتها سلبا أو إيجابا.
بناء سلطة وطنية محترفة وإيجاد مركزِ ثقلٍ سياسي في الإقليم الموريتاني الكبيرِ مساحتـُه والقليلِ سكانـُه والمتخلفِ أهلُه، أصبح على رأس الأولويات الحيوية لأي إصلاح سياسي في موريتانيا، دون أن يكون في ذلك إهمال أو تعارض مع البناء الديمقراطي الذي أصبح بدوْره خيارا داخليا ومطلبا دوليا مُجمَعا عليه.
فقليل من الموريتانيين مَن بقي مؤمنا بإمكانية إصلاح سياسي جذري في بلدهم، لكن الذين مازالوا يأملون إحداث شيء ذي بال تحت سماء موريتانيا، يدركون جيدا أن التعويل على الأحزاب السياسية والهيئات المدنية لإطلاق مشاريع التنمية والديمقراطية والتحديث في موريتانيا، قد بدا من ضروب العبَث، موقنين أن نقطة الانطلاق في هذا المنحى لن تتجّسم إلا في أحذان سلطة مركزية، لها من القوة والهجومية ما يؤهلها لإعادة النظر في جوهر الأشياء والتحدي الحقيقي لذلك العنصر السياسي الموحَّد، الذي ظل يهيمن منذ ثمان وأربعين سنة على مفاصل الدولة وقنوات التأثير مستبعدا كل ما مِن شأنه تغيير قلب الدولة ووجهها أو إشراك المخالفين في الانتماء والأسلوب.
هذا الطرح بالذات هو الذي دفع بعض الإخوة القارئين إلى مراسلتي ومعاتبتي مشكورين على مقال سابق تحت عنوان: من يستلم السلطة من الجنرال محمد ولد عبد العزيز؟ محتسبين أن له قــَرابة موضوعية مع ما ينتشر هذه الأيام من كتابات وتصريحات مفرطة في المجاملة ولا تستند إلى قناعة أو دليل، “المصفقة” كما يقولون. لكني أنتهز الفرصة لأطمئن إخوتي القارئين على أنه لاشيء يدفعني إلى المدح أو الشتم أو كتابة ما لا أعتقد، مهما كانت درجة التطابق أو التقاطع مع رجال الحكم، موقنا أن في كل من الفئتين المؤيدة للتغيير والرافضة له، تتجاذب تيارات وتتقاطع أخر، لكل منها أهدافه ومبرراته ومنطلقاته.
لاشك أن بعضا من قادة هذا العنصر الذي أخْرَبَ الاقتصاد والإدارة والعقليات، يجد صعوبة في التكيف مع النظام الجديد الذي يقوده الجنرال ولد عبد العزيز وجملة من ضباط الجيل الثاني من الجيش، بل إن المواجهة المفتوحة بين الطائفتين أصبحت بادية، مما ولـّد آمال حذرة في موريتانيا، تراهن على استعداد هذا النظام للمجابهة وقدرته على تفتيت مكونات النظام القديم وفتح المجال أمام عناصر سياسية أخرى أكثر انفتاحا وأقل تلوثا.
ثم إن مما يتعين على رجال السياسة ومُنظّريها ـ خصوصا في مثل هذه المراحل من حياة الدول ـ أن ينظروا إلى السياسةِ وبنيانها والدولة ومؤسساتها من زاوية الفعالية والكفاءة، لا بأعين الوعاّظ والمحامين، محاولين بكل الأدوات الموضوعية أن يستكشفوا أفقا سياسيا للخروج من هذا السجال السياسي السطحي قبل أن تخترقه رائحة التشنج العصبي والطائفي أو يمتزج بالمشروعات الجيوسياسية للقوى الدولية والإقليمية.
وبعيدا عن النظرتين المعيارية والانفعالية المهيمنتين على النقد السياسي في هذا البلد، أعتقد أن من حق المرء، إن رأى في ذلك فائدة وطنية، أن يؤيد الانقلابات العسكرية وغيرها من الحلول الجذرية الخارجة عن المأمول، والتي كثيرا ما يرى فيها دعاة الأخلاق والمثاليات – عبر تاريخ هذا الشعب – فرصة لصنع ملائكيتهم الدينية والسياسية والبطولية.

الإصلاح المنشود:
ما تم حتى الآن من إصلاح في موريتانيا، غلب عليه الاستعراض الديمقراطي والإسقاط التجريدي البسيط الذي تتواطأ من خلاله النخب السياسية مع كل سلطة متآكلة قد أرادت تغيير رأسها أو شكلها الخارجي أو تحسين علاقاتها مع الشركاء الدوليين… أما المؤسسات الديمقراطية المهيأة للتناوب الحقيقي والخدمة الوطنية المستديمة فلمّا يتم إنزالها إلى الأرض الموريتانية.
فما السبيل إذن إلى تثبيت المكونات الضرورية لسلطة وطنية قوية ومحترفة؟ وكيف نؤسس نظاما ديمقراطيا منتجا، قادرا على فصل السلطات وإخضاع الحكام للمحاسبة ويمنح الجماهير والنخب والإعلام فرصة الانتقاد الحر والتقويم المنهجي للسياسات العمومية والمشروعات التنموية والسؤال عن ميزانية الدولة وخيرات البلد ويسد الباب أمام الظلم والغبن والتهميش؟
إنا ولو افترضنا تحقيق هذين الهدفين المتوازيين، ستبقى الأسئلة حائرة في كيفية إنتاج وإعادة إنتاج مصادر بشرية وحضانات صحية مهيأة لمناقشة ووضع ديمقراطية توافقية تحل محلّ الديمقراطية الممنوحة، التي لم يفشلها إلا الوضعية المزرية للطبقة السياسية والمدنية التي نُوِّبت يومَها عن الشعب والدولة الموريتانيين لاستلام تلك المنحة الديمقراطية المشهودة؟
فهل نؤخر المراجعات الكبرى والإصلاح الأفقي الشامل حتى تتجدد النخَب وتتقوّى هياكل الوساطة والتأطير السياسي في البلد؟ أم نعمل على تجديد عمودي سريع؟

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button