دكتاتورية عقلية”السيبة”وخنوع الواقع/ الولي ولد سيدي هيبه
لأجل بناء مجتمع سليم و شخصية متوازنة و دولة وطيدة الأركان و بلد آمن يحفه العدل للجميع، لا بد يقينا من تحقيق فكرة المواطنة و ترسيخها مما يتطلب و بإلحاح إعادة بناء الفرد و المجتمع و الدولة على أسس علمية تنفي الفوضى و الارتجالية، و ضوابط و مرتكزات فلسفية اجتماعية شاملة متحررة
من قبضة العقليات البالية المترسبة في الأعماق.. قواعد فلسفية متفتحة على الذات و الآخر و المستقبل و تهدف إلى إعادة بناء فرد هذه البلاد و مجتمعها المنقسم على ذاته، و تعميق الوعي الاجتماعي و الوحدة الوطنية “فرس” رهان قيام دولة القانون و المواطنة و التحرر من قبضة العقليات السقيمة البالية التي ما زالت حاضرة و متجلية في الأسماء و الصفات و الإيحاءات و المسلكيات و المعاملات و السياسة و الأدب و الإعلام. نظرة مجردة و شجاعة قادرة أن تعري هذه الحقيقة المرة المستوطنة كل مساحة قارب الزمن ـ ماضيه و حاضره ـ و جل حيز النفوس و العقول و الأحاسيس و المدارك لا تغادر منها ذرة يمكن أن ينطلق منها بصيص أمل إلى التغيير و الانعتاق.
أسماؤنا ..مرايانا؟
أسماؤنا لا تستجيب لمعيارية العصر فهي ليست ثلاثية لتضبط جوازات سفرنا و بطاقات هويتنا و وثائقنا الرسمية الأخرى و المهنية المربكة كلها. تارة نحن أبناء آبائنا و غالبا أبناء أجدادنا و في مواطن أخرى أبناء من هم أبعد من ذلك أسطوريون في أذهاننا و أسنة ألسنتنا في حلقات الفخر و التغني بالأمجاد. كما أننا نكون أحيانا أبناء كنية إكبار اعترت أحد هؤلاء غير آبهين بأن الآخر يعتبر أننا بذلك إنما نحن مراوغون، مخادعون و أصحاب أقنعة و حيل أعجزت أذهانهم من “لاس بالماس” بجزر الخالدات إلى الإمارات مرورا بلاد الحرمين الشريفين . و هي الأسماء بعدة أوجه لكل منها تأويل لا يحفي تلكؤا و تقديرا لعديد مقالب معترك الحياة الذي ما زلنا نعتبره مريرا و كأن الدولة المركزية لم تصب “السيبة” بالشلل أو لكأننا عصيون على سلوك المدنية و استقامة مرتكزاتها؟
ثقافة التصغير.. شر مستطير
كل شيء في أعيننا لا يساوي جزء يسيرا من أقل “نتفة” من ظفر خنصرنا لتضخم “الأنا” عندنا. الواحد منا يسعى إلى مقابلة وزير مثلا ليسأله إلحافا. و لإن سألته بعد ذلك كيف جرت الأمور فإنك ترى أوداجه تنتفخ و لون وجهه يمتقع و صوته يرتفع فيزمجر و يهتز طربا و زهوا بما سيصدر من قبل أن يزنه و ينقيه من عثرات الكلام فيقول:
ـ و صلت “لويزارة” باكرا فدخلت من “البويب” فإذا كل أمر و شؤون “السكرتاريا” بيد “امريه” جالسة على “امكيعيده” وراء “امكيتب”. و بعد لحظات دخلت على “لويزير” الذي لم يعطيني سوى “اطرينيشه” أنا الذي عرفته يسكن “ادويره” بجوار بيتنا و يقود “اوتيته” تتقاسمها معه “امْرَيتُ”..و يختم قائلا بامتعاض إنه يحمل “شويهيدة” من “جويمعة امخيزيه ” هو الذي ينتمي أيضا “لقويبيلة لفيلانيين”.
و لإن سألته مرة أخرى و بعدما نفث سموم “أناه” الانشطارية، إلى أين أنت ذاهب اللحظة يرد عليك باستهتار سأزود سيارتي بالبنزين من هذه “اطرينيشه” و أعرج على “سويق” العاصمة لأشتري لابني “ادريريعه” من عند “ابيظاني” أعرفه يمتلك على الطرف القصي “ابيتيك” يديره معه “احريطان” من أهله و يتقاسم معه الفضاء القريب “كويري” من جهته.
هو تصغير مزمن و مقيت عندنا للأمور و الأشياء و العلاقات و الأسماء.. تصغير يرمي كله إلى ترسيخ النظرة الدونية للآخر و لا يترك لشيء أن يكبر و يعظم و يتسع في بلاد لم يعد كبيرا فيها سوى المساحة و… المشاكل.
مصحات الهدر الصحي والمستنقعات الآسنة
إنها قطعان الأغنام تجوب الشوارع و الأزقة و لا أحد يكترث، و البلديات تلوح و تشكل خلايا شرطية لاصطحاب وكلائها المكلفين احتجاز هذه الأغنام من دون راع، و لكنها خلايا ميتة إن لم تكن طفيلية في أحسن أحوالها المحررة من قبضة القانون تستفيد و تفيد. أو ليست هذه مفارقة عبثية التخلف؟
المستنقعات و وحلها الآسن تنتشر بين الأحياء و تغمر كل الأزقة من دون شفط ناجع و لا أحد يكترث أو يرفع صوتا شاكيا أو داعيا إلى التعاون للحيلولة دون استمرار بقائها و تعطيلها مسار الحياة و تهديد الصحة العامة التي تعاني ما تعاني. أليس في هذا أضعف التقدير و أسوأ التدبير؟
“البقالات” و المساحات الكبرى المنتشرة كالوباء تبيع ما تشاء من المواد الغذائية و غيرها بما تشاء كيفما تشاء، و تعود حوزتها و ملكيتها لأفراد ينحدر معظمهم من أرستقراطيات قبلية تمسك في يدها كل زمام السلطة العمومية من مجرد التصريح بالوجود إلى غاية إيراد ما تشاء من أين تريد بكل التسهيلات و في غياب تام لمراقبة سلامة ما يستورد أفرادها، و بإعفاء كلي من رسوم الجمركة برا و بحرا و جوا. أو ليست هذه أبرز حالات الحيف؟
المصحات الحرة تشفط أموال الضعفاء الباحثين عن فرص نجاة من الموت و العوز، مصحات كلها ملك أفراد نفس أفراد الأرستقراطية القبلية المالكة للمصارف و المدارس و المخابز و البقالات و المجازر و الأسواق و الأراضي الصالحة للزراعة و واحات النخيل المحمية و الثروة الحيوانية المشمولة بالرعاية وسائل النقل و سكاكين قطع أرزاق المساكين. أو ليس هذا الاهدار المتعمد لأرواح عامة الشعب و استنزاف قليل زادها للحياة؟
الحوار على الطريقة “السائبة”
حوارنا هو لاحوار غيرنا و حوار غيرنا هو لا حوارنا لأنه يضجرنا و ينتزع الأشواك الحامية المثبتة منذ قرون خلت على ظهر “سيبتنا” الواقية المنيعة.
و حتى يكون هذا الكلام أكثر وضوحا و أجل و أدق معنى فإننا عندما نُقدِم على مائدة الحوار:
· لا نصطحب آذاننا مطلقا،
· و لا نفتح أعيننا و أذهاننا عمدا،
· و لا نُوقظ ضمائرنا البتة،
و إن كلامنا الذي ندلي به يأتي:
· أحرفا منفردة،
· و جملا متقطعة،
· و متنه بالمقلوب حتى إذا ما اختلط لغوه:
ـ استعصى على الافهام مقصده،
ـ و غلب على الأذهان ضعف طويته،
ـ وبُتِرت به المقاصد من أصل قيامها،
ـ ثم أخرست الألسنة بعد الفطام،
حتى ولى كل إلى منطلقه تحسس ما إذا سقط منه سهوا لخصم قوام.. فزاد لغيره في حدة السهام..و أسنة النبل و الحسام.
كما أنه عندما يرجع فإنك تراه يتغنى بـ”القريض” على حضوره الذي كان به الإمام… و يصدح على المنابر أنه الذي أنجى الأقوام من الصدام.
ثم إنه في كل مرة كذلك و بعد كل حوار “لاحوار” يهدأ الجميع ردحا من الزمن يتوهم في بحره الذي هدأ أنه كان السنام.. و غيره كان لحوم المأدبة أكلت حتى لم يبق إلا العظام.
فلا الحوار قام و لا مرتادوه في ذلك الجلباب الذي ما زال ينضح برائحة السيبة كانوا أهلا للكلام… الذي يمهد لبناء المقام… و يصنع الوئام… و يدفع إلى الأمام… حيث ضرورة القيام… ما عادت تتستر على لاحوار أشبه بوليمة اللئام… التي يضيع فيها الأيتام.
ديكتاتورية التعليم و مساره العاثر
في الوقت الذي بدأ فيه العالم يراجع لحد “النجاعة” القصوى استخدام التكنولوجيا المتطورة في عملية التعليم من الابتدائي إلى العالي يمر تعليمنا بأسوء وضع عرفه منذ الاستقلال. و هي الوضعية التي تسببت فيها جملة من العوامل تبدأ من غياب المناهج الدراسية العلمية المتكئة على خلفيات تعليمية محكمة و تاريخية وثوابت وطنية أصيلة و متجذرة إلى غاية غياب البنى التحتية الملائمة مرورا بضعف الكادر المؤهل علميا و تربويا و نفسيا و المعد وطنيا.
هي الوضعية إن ظلت تتفاقم ستخضع البلاد لـ”دكتاتورية” تعليمية ـ أشد فتكا بالدولة من أية ديكتاتورية أخرى ـ بدأت إفرازاتها من الخريجين تتحكم في تسيير البلاد من خلال جيل أعدته أقلية من الأرستقراطيين القبليين و الأسريين الإثنيين سيطروا منذ عقود خلت على مراكز القرار في الدولة بفضل آبائهم الذين سخروا بدورهم الدولة و مصادرها لتعليمهم كما يفعلون هم اليوم بإرسال أبنائهم، بيسر و اقتدار و تأفف على التعليم العمومي، إلى المدارس الأجنبية ثم الجامعات المرموقة و المعاهد العالية في الغرب، لأنهم أصحاب الجاه و المناصب و تسيير المال العام و ومراكز القرار السامية و معهم رجال الأعمال صنيعتهم و الضباط السامون و السياسيون المأجورون و أصحاب دائرتهم المغلقة في الدولة المحتجزة.
مع مرور الزمن و منذ ما بعد جيل الاستقلال الأول بدأت تتشكل أرستقراطية تعليمية تتوارث الوظائف و الحضور و النفوذ كابر عن كابر بشكل تدريجي فيما بدأت معاناة أبناء عامة الشعب، الذي انطلت عليه الحيلة، من تعليم رديئ و مناهج خاوية و كادر تربوي ما هو كذلك و لا أفضل حالا، و سياسة تعليمية تكيل بمكيالين.
أو ليس في هذا الوضع الفاسد الذي لا تخفيه مطلقا حالة “السيبة” العامة القائمة و غياب الوعي الذي بدأ يتطلب تشكله إنذار بانفجار وشيك بدأت تتحدد في الأفق ملامحه من جراء أمية متفشية و انفلات أمني متزايد و ضياع متزايد في أوساط الشباب سببه الأول غياب مؤسسات ملائمة تستوعبه، تشكل وعيه المدني، تكونه مهنيا، تستوعبه و تستغل طاقاته في المصانع و الورش و البنى الاقتصادية و عديد و متنوع الأقطاب التنموية من البحر إلى النهر و في العمق الوفير المعادن و الفرص الاقتصادية.
أوليس التعليم الوطني الناجح صمام أمان الشعوب و حافظ دولها من الإنزلاقات و مخاطر التصدع التي لا تحمد عقباها و لا تسبر أغوار حمم براكينها؟
و لأنه في التكرار على العموم تعميم الفائدة و رفض النسيان و نبذ التكاسل عن إدراك مخاطر الحيف و الأوضاع المختلة، فإن المدارس الأجنبية و الخصوصية المترفة تسحق المدارس الوطنية، تقسم أبناء الشعب و تصنع ديكتاتورية التعليم و الثقافة. أفراد الأرستقراطيات القبلية و الاثنية القليلة، الموظفون الكبار، الضباط و رجال “إهمال” الوطن يعدون من خلال التعليم النوعي في أحضانها أبناءهم لاستلام زمام الأمور من بعدهم.
أو ليست هذه الدكتاتورية الفكرية و العلمية