الي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه/ محمدن ولد الربانؤ
انباء انفو- لم تكتب هذه الكلمات لتخاطب الذين يقرأون الكاتب لا المكتوب، وينظرون القائل لا المقول، الذين يستدلون على الحق بالرجال، كما أنها لم تكتب للمستبدين بالرأي الذين لا يتصورون مخالفتهم إلا على أساس أنها عمالة وبلاهة.
إن كاتبها ينصح الفريقين ألا يقرأوا حرفا من هذه الكلمات حتى لا يرى الفريق الأول لحوم العلماء
ينهشها غلام رام بذلك الشهرة كما رامها بشار وهو حدث حين ألظ بقوافيه على مسكت الشعراء جرير، أو يرى فيها تدنيسا لتاج شنقيط من نكرة لو خفي على خالقه شيء لكان إياه، أو يقول للم يرد على ابن بيه أقرانه من أمثال القرضاوي والشيخ محمد الحسن بن الددو؟ ثم يتمثل بقول ابن أحمد دام يوم خاطب الكمليلي:
إن أمرا قد أحجم الحبر عنه ** نجل عبد الجليل وابن الجواد
لجدير ألا تكر عليــــــــــــــــــــــــــه ** كيف كر البغال بعد الجيـــــــاد
أما الفريق الثاني فسيرى فيها ميوعة وجبنا عن قول الحقيقة الكاملة، بل تمجيدا لعالم حالف السلطان وجانف القرآن ودافع عن الطغاة المستبدين وخذل جماهير المستضعفين، فهي محاولة بائسة لثنيهم عن مداواة ما بهم من قرم إلى لحم هو صحة وعافية أشهى من بيض الجراد لدى أبي الهندي في أبياته التي أوردها ابن عبد البر في كتاب بهجة المجالس :
أكلت الضـــــــــــــــــــــــباب فما عفتها … وإني لأهوى قديد الغنم
وركـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبت زبدا على تمرة … فنعم الطعام ونعم الأدم
وما في البيوض كبيض الدجاج … وبيض الجراد شفاء القرم
كتبت هذه الحروف فقط لمن يعرف الحق بالحق ويطلب عين الحكمة ومن يستمع القول فيتبع أحسنه.
مكانة الشيخ عبد الله بن بية:
لا أبالغ إذا قلت إن الشيخ ابن بية هو أحد البدور التي طلعت تفري دياجير هذا العصر في بلاد المسلمين عامة، ولم يكن سواهم على جلالته يبلغ ما بلغوا من العلم أو التأثير أو منهما معا، وكانت جهودهم مجتمعة رغم اختلاف ترتيب أولوياتهم عامل تجديد هذا الدين وحفظه ومواكبته العصر رغم العراقيل والعقبات على تفاوت في ذلك، قمن خارج هذه البلاد طلع الإمام الشهيد حسن البنا والشهيد سيد قطب والإمام عبد العزيز بن باز والإمام محمد ناصر الدين الألباني والشيخ الفقيه المفكر يوسف القرضاوي والشيخ مصطفى السباعي والشيخ وهبه الزحيلي والشيخ سعيد رمضان البوطي والشيخ طاهر بن عاشور والشيخ عبد الحميد بن باديس ومن هذه الربوع طلع الشيخ آب بن اخطور والشيخ بداه بن البوصيري والشيخ محمد سالم بن عدود والشيخ عبد الله بن بية والشيخ محمد الحسن بن الددو.
لا يدرك قيمة الشيخ ابن بيه إلا من اطلع على أبحاثه ومداولاته في المجامع الفقه وفي المجلس الأوروبي للإفتاء في أكثر قضايا العصر إشكالا بلسان مبين وقلم رصين يمتاح من مقاصد الشرع ومكنونات التراث ذنوبا تروي ظمأ الباحثين.
زلة العالم لا تتبع ولا يشنع عليه بها:
العلماء سراج الأمة وهداتها لكن الله أبى العصمة لغير كتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم، من أجل ذلك عجت مؤلفات العلماء بثنائية تمجيد العلماء والتحذير من زلاتهم، ولنترك الكلام في ذلك لأحد أفذاذ المحققين يقول الشاطبي في موافقاته: “روي عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: “إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة”. قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: “أخاف عليهم من زلة العالم، ومن حكم جائرِ، ومن هوىً متَّبع وعن عمر: “ثلاث يهدمن الدين: زلَّة العالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون”
وعن أبي الدرداء: “إن مما أخشى عليكم زلة العالم، أو جدال المنافق بالقرآن، والقرآن حقٌّ، وعلى القرآن منارٌ كمنار الطريق”
وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كثيرًا: “وإياكم وزَيْغةَ الحكيم، فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وقد يقولُ المنافقُ الحقَّ، فتلقَّوا عمن جاء به، فإن على الحق نورًا”. قالوا: وكيف زيغة الحكيم؟ قال: “هي كلمة تروعكم وتنكرونها، وتقولون ما هذه؟ فاحذروا زيغته، ولا تَصُدَّنكم عنه؛ فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق”
وقال سلمان الفارسي: “كيف أنتم عند ثلاث: زَلَّة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم، فأما زلة العالم، فإن اهتدى؛ فلا تُقلَّدوهُ دينكم، تقولون: نصنع مثل ما يصنع فلان، وننتهي عما ينتهي عنه فلان، وإن أخطأ، فلا تقطعوا إياسكم منه، فتُعينوا عليه الشيطان الحديث. إلى أن قال أعني الشاطبي: وهذا كله وما أشبهه دليل على طلب الحذر من زلة العالم، ثم قال: “إذا ثبت هذا، فلا بد من النظر في أمور تنبني على هذا الأصل منها: أن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ولا الأخذ بها تقليدًا له، وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع، ولذلك عدت زلة، وإلا فلو كانت معتدًّا بها؛ لم يجعل لها هذه الرتبة، ولا ينسب إلى صاحبها الزلل فيها، كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير، ولا أن يشنع عليه بها، ولا ينتقص من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة، فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين، وقد تقدم من كلام معاذ بن جبل وغيره ما يرشد إلى هذا المعنى” (الموافقات ج5 ص 132-137).
وإذا كان هذا في الشأن الزلة التي هي موضوعة على المخالفة في الشرع فما بالك فيما كان من قبيل الاجتهاد في الأمور الموغلة في الظنية؟
لو غيره فعلها:
كلما شارف الإنسان على التربع فوق قمة الكمال الإنساني ازدادت مخاوف التردي كما لا يخشى على القمر الكسوف حتى يكتمل بدرا، فالبياض قليل الحمل للدنس وحسنات الأبرار سيئات المقربين وقد راب بعض محبي الشيخ ابن بيه منه مواقف لو أتاها غيره لكانت به أليق، من تلك المواقف:
– تزعم الشيخ لمنتدى تعزيز السلم وهو منتدى يعرف المتابعون كيف نشأ ولم نشأ ومن أنشأه، وهيئة كتلك الهيئة لا تليق بمن أفنى عمره في خدمة العلم و لا بمن يراد له أن يكون وسيطا لأن الوسيط لا يكون خصيما على حد التعبير الشيخ نفسه (ندوة أقامتها إذاعة موريتانيا) وأقل ما يقال في منتدى السلم والقائمين عليه والساعين فيه أنهم خصوم لجماهير عريضة من الأمة، فقد كان الأولى بمثل الشيخ النأي بنفسه عن أن يكون خصما ليكون حكما ترضى حكومته، وأن يسعى مع بعض العلماء المستقلين مهما كانوا أندر من بيض الأنوق إلى تشكيل هيئة مستقلة حتى ولو ضعفت إمكانها وعزت منابرها، فذلك ما يناسب الوسطاء الإطفائيين أما ما سواه فهو انحياز إلى فئة وحينئذ يكون المنحاز طرفا أي طرف وعليه وعلى محبيه إدراك تلك الحقيقة.
– تركيز الشيخ المفرط على سلمية الإسلام وإبرازه كائنا ناعما خاليا من القوة والعنف، ويعلم الشيخ قبل غيره أن الإسلام ليس سلما فقط، ولا حربا فحسب، بل هو سلم وحرب، يلبس لكل حالة لبوسها، فخطأ من يجرد الإسلام من الجهاد والقوة ليس أقل من خطأ من جعل الإسلام دين القتل والعنف، والنصوص في المجالين محكمة غير منسوخة لكنها تختلف باختلاف الأحوال والظروف فمن النصوص الداعية للقتال قوله تعالى: وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة(سورة التوبة 36) وقوله تعالى: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم (سورة التوبة 5) وقوله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون(سورة التوبة 29) وقوله تعالىوقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله (سورة البقرة 1935) وقوله عليه الصلاة والسلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله» . أخرجه البخاري ومسلم إلا أن مسلما لم يذكر «إلا بحق الإسلام».
إن القتال وإن كان شرا فإنه شر يدفع به شر أعظم لذلك صارا في غايته خيرا ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين (سورة البقرة 251)
أما وصف الإسلام بالسلمية السلبية ففضلا عن كونه يناقض حقيقة هذا الدين، فهو مخالف كذلك لمقتضى العقل ورحم الله النابغة الجعدي يوم أنشد النبي صلى الله عليه وسلم رائيته الرائعة والتي منها:
ولا خير في حلـــــــــم إذا لم تكن له … بوادر تحمي صفوه أن يكــــــــــــــدرا
ولا خير في جهل، إذا لم يكن له … حليم، إذا ما أورد الأمر أصدرا
أما المتنبي فقال:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا … مضر كوضع السيف في موضع الندى
– إكثار الشيخ من الاستشهاد بأقوال الفلاسفة الغربيين بدلا من الإكثار من النصوص الشرعية والنماذج التراثية في خطبه وندواته الأخيرة فهو في خطابه الأخير مثلا في الأمم المتحدة استشهد بتوماس هوبز ونيتشه أكثر مما استشهد بنصوص الوحيين، والخطاب موجه إلى المسلمين قبل غيرهم وإن القي على منبر عالمي، وهذا مما لا يليق بمثل الشيخ ولو أنه جلب الأدلة الشرعية ثم عضدها بكلام العقلاء من أمثال أولئك لكان الأمر مقبولا أما الاستشهاد بهم كمرجعيات مستقلة فلا يناسب الشيخ.
– وقوف الشيخ في الأمم المتحدة يناقش أمور السلم والحرب والأقصى مهدد بالتقسيم وسوريا تحت رحمة الطائرات الروسية ثم لا يخصص لذلك فقرة أي فقرة من خطابه سهو كبير من مثله وقد يعد خطيئة محبطة من غيره.
– إطلاق الشيخ في خطابه الأخير قاعدة عبر عنها بقوله (نترك اليوم الطغاة على جانب ونتكلم عن الغلاة المتطرفين) بهذه البساطة وكأنها مسلمة في غاية الغرابة.
لا شك أن من قواعد الشرع ارتكاب أخف المفسدتين لتفادي الوقوع في أشدهما، لكن العلامة المقصدي بحاجة إلى البرهنة على أن خطر الغلاة أشد من خطر الطغاة، فنصوص الشرع المحذرة من الجور ليست أقل غزارة ولا صراحة من تلك المحذرة من الغلو في الدين، وكلاهما نصوص وافرة في الوحيين، والشواهد التاريخية وتجارب الأمم نثبت أن الأمم تعيش على الكفر وهو شر من الغلو، لكنها لا تعيش على الظلم وههي أوربا لم تعرف الاستقرار والتقدم إلا بعد شيوع الحريات وسيادة القانون وانتشار العدل، وهل التطرف إلا ردة فعل على الطغيان فأي طبيب ذلك الذي يجعل العرض أخطر من السبب؟ وبأي مرجح رجح العلامة خطر الغلاة على خطر الطغاة؟
ويبدو أن الشيخ لا يعني بالسكوت أصوات السلاح لأنه لا يقارع المتطرفين بالمشرفية والرماح، ولو كان مراده السكوت عن الطغاة بالسلاح لكان وجه ذلك باديا ودليله قويا، وتلك سلمية الوسطيين حقا الذين يرفضون جور الطغاة ولا ينابذونهم وهي سلمية أقوى من الرصاص، وإن كانت نتائجها بطيئة لكنها مرجوة النتائج بأقل الخسائر وموفقة بين النصوص الحاثة على رفض الظلم، وتلك المانعة من الخروج المسلح على ذوي الشوكة، أما ما سواها فانكبات يلد الانفجار أو حريق يثمر الدمار.
عليهم وعلينا:
لن نسمح للمتنبي أن يكون أحفظ لود ممدوحيه منا لعلمائنا يوم تعرض لمحاولة اغتيال من غلمان أبي العشائر وبأمره فقال:
وكل وداد لا يــــــــــــــــــــدوم على الأذى … دوام ودادي للحسين ضعيف
فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا … فأفعاله اللائـــــــــي سررن ألوف
فنقول لعلمائنا إذا صدر منهم ما لم نحتسب ما قال المتنبي ونزيد طلبهم مراجعة أنفسهم في مثل تلك المواقف حتى لا تكون ندوبا بوجوه بهيجة وكلفا ببدور منيرة، فإن الحق قديم … وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته التنصل من مواقف الريب يوم قال للرجلين على رسلكما إنها زوجتي صفية بنت حيي، فعلى علمائنا -ولا أحاشي من الأقوام من أحد- التنصل من الريب بالصدع بالحق أمام الطغاة والغلاة والغزاة وسائر الجناة وبطرح المسائل الإجماعية في المنابر التي يعتلونها، والعمل على لم الشمل لا الانحياز إلى فئة، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ولم نؤمر بتفتيش القلوب لكن أجيز لنا الحكم بالقرائن والأحوال.
وعلينا معشر العامة أن نمتثل الحديث الذي رواه أحمد وصححه الالباني “أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود” ونعلم أن الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث.