مقالات

تحوّلات المشهد السياسي في موريتانيا/محمد حلمي عبدالوهاب – المستقبل اللبنانية

لم تستقطب موريتانيا كدولة عربية نائية الأضواء غالباً؛ على الرغم من تقلباتها العسكرية المتتالية. فقط استقطبت موريتانيا الأضواء، واللعنات كذلك، عندما أعلنت على الملأ إقامة علاقات مباشرة مع إسرائيل. حدث ذلك في نهاية التسعينات عندما بدأ الرئيس الموريتاني معاوية ولد الطايع يفقد الثقة تدريجياً في أصدقائه التقليديين من الفرنسيين ويتطلع إلى حماة جدد!!
والآن تستقطب موريتانيا الأضواء مجدداً بتحولها المباغت من التحالف والمهادنة إلى ما يسمى بمحور الممانعة، من التطبيع الكامل مع إسرائيل إلى الارتماء كلياً في أحضان الجمهورية الإسلامية الإيرانية أيضاً! المفارقة الصارخة في كلا التحولين أنهما حدثا في ظل ظروف تاريخية لا تدعو إلى أي منهما!! أي بمعزل عن الحسابات القومية الخاصة بموريتانيا حكومة وشعباً على السواء.
فعندما بدأت موريتانيا علاقتها المباشرة مع إسرائيل لم تكن دولة من دول الطوق، ولا حتى من دول “الشرق الأوسط” التي قد تتخذ من ضرورات الجغرافيا السياسية ذريعة إلى نوع ما من التعاطي مع الدولة اليهودية، وإنما ظلت كما كانت دائماً دولة نائية عن بؤر الصراع بحيث يمكنها أن تعيش تاريخها خارج نطاق المحور الشرق أوسطي وتعقيداته.
أيضاً لم تبدأ القيادة الموريتانية علاقاتها مع إسرائيل في وقت يسمح بالحفاظ على ماء الوجه، كما فعلت بعض الدول العربية بعد مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو، وإنما جاءت الخطوات الموريتانية في أسوأ وقت تمر به القضية الفلسطينية، وفي ظل أسوأ حكومة يمينية حكمت الدولة العبرية حيث بدأت القيادة الموريتانية مسيرة توددها لإسرائيل في وقت كانت فيه العلاقات بين الأخيرة والدول العربية تسوء يوماً بعد يوم! ومن ثم؛ كانت الخطوات الموريتانية معاكسة تماماً لكل تفكير منطقي ينظر إلى عموم الوضع الفلسطيني على وجه الخصوص.
الغريب في الأمر أن القيادة الموريتانية اعتادت أن تقدم تبريرات أقل ما يُقال عنها إنها غير مقنعة للشعب الموريتاني والعربي بعامة من بينها: أن الدافع إلى إقامة علاقات مع إسرائيل هو خدمة الفلسطينيين عبر فتح قنوات التأثير في الدولة اليهودية!!، وأن الأمر لا يعدو أن يكون تطبيقاً لروح أوسلو ومؤتمر مدريد وما تضمناه من التزام ضمني من الدول العربية بالانخراط في مسيرة التطبيع!، وأن “المصالح العليا” للشعب الموريتاني هي التي فرضت هذا السلوك، رغم أن الشعب الموريتاني قد عبّر بكل وسائل التعبير المتاحة عن سخطه واشمئزازه من تلك العلاقات وبكافة قواه السياسية والاجتماعية!!.
في كل الأحوال، سرعان ما تطوّرت العلاقات الموريتانية ـ الإسرائيلية فجأة ومن دون مقدمات واستحالت تطبيعاً شاملاً في وقت قياسي لم تكن له سابقة في العلاقات العربية الإسرائيلية! حيث اعتادت القيادات العربية التمهل والتستر حفاظاً على ماء وجهها أمام شعوبها الرافضة للتطبيع.
واليوم، وبعد ما يزيد قليلاً عن ثماني سنوات، غابت نجمة داوود عن سماء نواكشوط ليحل بدلاً منها شعارات الثورة الإسلامية. ومثلما كان قرار التطبيع فجائياً جاء قرار قطع العلاقات الموريتانية ـ الإسرائيلية فجأة كذلك. حيث تم ترحيل جميع طاقم السفارة الإسرائيلية، بمَن فيهم السفير، بعد مهلة لم تتجاوز يومين، وأنزلت عناصر الحرس الموريتاني علم إسرائيل من فوق مبنى السفارة، ودمرت كافة كاميرات المراقبة والتحصينات الأمنية حوله.
ومنذ ذلك الحين والنفوذ الإيراني يزداد في نواكشوط بصورة ملحوظة ويتردد أن النظام الموريتاني قد حصل فور قطع العلاقات على عشرة ملايين دولار إلى جانب وعد بملياري دولار كمساعدات تسدد خلال عامين. كما تزايدت وتيرة التمثيل الرسمي وتبادل الزيارات بين الجانبين حيث توجه عراب العلاقات الموريتانية ـ الإيرانية محمد ولد أمين إلى العاصمة الإيرانية بدعوة من القيادة الإيرانية. وهو يعتبر من المقرّبين للنظام السوري وقد جاء تعيينه كوزير مستشار برئاسة الدولة تعبيراً عن محاولة النظام الموريتاني لتطوير العلاقات مع محور الرفض السوري ـ الإيراني.
وفي السياق ذاته، وصل متكي إلى نواكشوط تلبية لدعوة رسمية من وزير الشؤون الخارجية والتعاون محمد محمود ولد محمود مع وفد رفيع المستوى يضم عدداً من نواب الوزراء في قطاعات الزراعة والصناعة والطاقة والشؤون الاجتماعية والصحة.
ليس غريباً، والحال هذه، أن يصرح وزير الخارجية الإيراني بأن الانتخابات التي أعلنت السلطات العسكرية في موريتانيا عن تنظيمها في حزيران (يونيو) ستمثل حلاً للأزمة القائمة في البلاد، واعداً بتعاون شامل بين بلاده وموريتانيا في مختلف المجالات.
يتحصل مما سبق أن ثمة تطوراً سريعاً تشهده العلاقات الإيرانية ـ الموريتانية، خصوصاً في ظل خيبة أمل حكام نواكشوط من المواقف الغربية التي ظلت متصلبة تجاههم رغم التطبيع المباشر مع إسرائيل. ويبدو أن إيران تسعى جاهدة إلى إلتقاط فرصة الجفوة الحاصلة بين القوى الغربية والنظام الموريتاني من أجل ضمّه إلى محورها المناهض للسياسات الغربية ولما تطلق عليه “أنظمة الاعتدال”.
تطوّعت موريتانيا قبل سنوات وتبادلت علاقات كاملة مع إسرائيل، وها هي اليوم تتطوع مجدداً للعب نفس الدور مع إيران، وكما ردد مَن أقاموا هذه العلاقات أحاديث ناعمة عن السلام المنشود، يردد مَن قطعوها اليوم أحاديث حماسية حول التضامن العربي المنشود!!

() كاتب وباحث مصري

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button