بعد مخاض عسير خرج للوجود خيار الجبهة/موسى مفتاح الخير ولد ابا
بعد مخاض عسير خرج للوجود خيار الجبهة
بعد الموازنة بين خيارات ضيقة واستجابة لإملاءات الواقع السياسي, اتفقت الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية- باستثناء تواصل الذي اختار ترشيح الأستاذ جميل منصور, وتلك قصة أخرى لها تداعياتها على مصداقية الجبهة- على ترشيح السيد مسعود ولد بلخير في موجهة القطب العسكري. برهنت الجبهة بذلك على خيار مجابهة التعسف والاستقطاب, وتوجت به منبر الديمقراطية والنضال الذي يعد مصطفاها من أول مؤسسيه.
قراءة في الخيار -I
1. لست هنا لأستعرض دواعي الاختيار, فالانقلاب انقلاب, وما عزيز على القوم بعزيز. ولئن كانت اشتراطات المتاح وقداسة المبدأ لهما تأثيرهما الأبرز في اتخاذ هذا القرار, فإن عناصر أخرى غير يسيرة تكمن في مؤهلات الرجل, في اتزان وصلابة مواقفه السياسية, في نضج رؤيته الإصلاحية, في نزاهة نضاله السياسي واحترامه لقاعدته.
ولد مسعود ولد بلخير سنة 1943 بفرع الكتان (الحوض الشرقي) حيث نشأ ودرس فيها. التحق بالمدرسة الوطنية للإدارة ليتخرج منها عام 1979. عمل في سلك الإدارة الموريتانية حيث عين موظفا إداريا في عدة مناطق داخل البلاد من عام 1966 إلى عام 1974، كما عين واليا لولاية كيديماغا ثم عين بعدها في منصب وزير التنمية الريفية في حكومة معاوية ولد سيد أحمد الطايع من عام 1984 إلى 1988.
يعتبر مسعود من أهم مؤسسي حركة الحر 1978 التي تهتم بقضايا الأرقاء السابقين و الجبهة الديمقراطية الموحدة من أجل التغيير التي كانت النواة الفعلية لحزب اتحاد القوى الديمقراطية الذي تولى رئاسته في بداية التسعينات.
ثبتت مواقف الرجل أمام اضطهاد ولد الطايع, أمام إغراءات العسكر, أمام تجاذبات المواقف السياسية لغالبية المناضلين الموريتانيين استجابة للتحالفات المصلحية لأحزاب المعارضة مع هذا المرشح أو ذاك رغم القراءات المتعدد ة لانتخابات 2007. فللرجل رؤية واضحة وقضية في الحياة.
2. لا نسعى هنا كذلك لتقييم هذا الخيار من حيث انسجامه مع استيراتيجية الجبهة لسد الباب أمام معسكر عزيز الساعي لقيادة موريتانيا الجديدة وأطماع أعل ولد محمد فال في الاستئثار بموريتانيا الأعماق, فلذلك الجهد منطقه وعناصر تحليله الخاصة.
3. لكنني مدين بالإشادة بهذا القرار من حيث تلبيته لضرورة الاتفاق واحترامه لقواعد اللعبة. فلقد برهنت الجبهة بحق على استماتتها في المجابهة حتى النهاية وسعيها وراء المصالح الوطنية كما تراها.
أول تلك الأمور التي أدين بها لهذا القرار, وإن بمجرد الإشارة والتنبيه, هي مرونة الخطاب مع صلابة الموقف التي طبعت مرحلة ما قبل هذا القرار, فالانقلاب انقلاب, لكن التعامل مع حق القوة ضرورة لاسترجاع ونفاذ قوة الحق.
ثاني تلك الأمور التي أدين بها هي التنبيه إلى النزاهة والبعد الوطني الذي اصطحب اتخاذ هذا القرار. وقد بدا ذلك جليا في استعداد القوم للتنازل عن المطامع الحزبية الضيقة لصالح رؤية الجماعة. وأشيد هنا بتصريحات السيد محمد ولد مولود التي افتتحت تلك المبادرة النبيلة.
آخر هذه الملاحظات وربما أهمها دورا وفاعلية تتعلق باحترام هذا القرار لقواعد الحق والإنصاف, أوقل لقواعد الديمقراطية والتمثيل, رغم حساسيات المجتمع البيظاني وضرورة الوصول للهدف المطلوب.
4. وهنا أود أن أكون أكثر وضوحا, فالسيد مسعود ولد بلخير يتمتع بشعبية تتسم بالتزايد والاستقرار ولا تستند على رجالات الجاه والمال على خلاف غالبية الأطياف السياسية الأخرى.
لنا في وطننا العزيز مع الانتماء الحزبي والولاء السياسي قصة موريتانية خاصة. لقد اتسم الانتماء السياسي منذ التعددية الحزبية والتجربة الديمقراطية بسيطرة الاعتبار الشخصي على الاعتبار المؤسساتي. وحتى لا أقول إن أحزابنا السياسية هي أحزاب أشخاص كما يحلو للبعض أن يقول, فإني أتمسك على الأقل بمركزية الحزب حول شخص الرئيس وذلك لعاملين اثنين, زمني وسياسي:
عامل زمني يختزل التجربة التعددية في أقل من عقدين. صحيح أن عشرين سنة قد تكون كافية لصياغة مجموعة من النصوص القانونية واستكمال الإجراءات اللازمة لإنشاء مجتمع مدني. عشرون سنة قد تكون كافية لاكتساب الفرد لنمط عيش مختلف وأسلوب في التعامل جديد, لكنها عمر قصير إذا تعلق الأمر بالسلوك الجماعي, فهذا النوع من التجارب الجماعية الذي يتطلب تحولا جوهريا من هذا القبيل هدفه الأساسي هو الأجيال الناشئة. و في تجربتنا الخاصة هذه الأجيال الناشئة لما تتح لها بعد, بفعل العامل الزمني, مكنة المشاركة في اللعبة السياسية. ثم إن تلك العشرون سنة لم تستطع على الأقل تغيير الواجهة السياسية, فرؤساء الأحزاب السياسية منذ الميلاد هم رؤساؤها حتى الآن ومرشحو الانتخابات الرئاسية, إن تغيرت أعدادهم وأسماؤهم جزئيا, فإن هناك أسماء ثابتة, هي نفسها التي عرفناها يوم أتاح لنا القدر الدولي أو الإرادة السياسية مكنة اختيار الرئيس.
العامل الأخر وربما الأهم في مركزية الحزب حول شخص الرئيس هو غياب تعدد البرامج السياسية, فكل الأحزاب السياسية تنشد الإصلاح, تنشد القضاء على الفقر, على الجهل, على الأمية, تنشد الخروج بالبلاد من أزماتها السياسية, الاقتصادية والاجتماعية, تنشد الرجوع بها إلى حضنها العربي الإسلامي…
لكن “متى” و “كيف” بدون جواب: فكل البرامج السياسية, في جوهرها, مجموعة من الوعود الخطابية وتعهدات الإصلاح العمومية, دون الدخول في التفاصيل والجزئيات واللجوء لاستقراء الواقع المحلي. فلا فرق بين التحالف و التكتل ولا الاتحاد أو “ال”تواصل ولا الحزب “ال”عادل أو الظالم.
فمقود حركة الانتماء الحزبي والولاء السياسي موكول- وذلك لغياب البديل- لاعتبارات شخص الرئيس والأطر الفاعلة في هذا الحزب أو ذاك, مع أن تلك الأطر على خلاف الرئيس تقوم ببعض من التحولات والتحالفات التي قد لا يحكمها هذا المنطق نفسه, وإنما تضارب المصالح المشروعة أو غير المشروعة.
5. لا أستطيع أبدا أن أتجاهل اختلاف المشارب الفكرية والأدبيات الأيديولوجية للأحزاب والفاعلين السياسيين الموريتانيين, و إنما أتجاهل عن قصد دور تلك المشارب والإيديولوجيات في تحديد الانتماء السياسي, عل الأقل في موريتانيا الأعماق, لا من حيث البعد الجغرافي الذي يحاول البعض إعطاءه لهذا المصطلح ولكن من حيث البعد التحتي للهرم الثقافي الموريتاني. فالمشارب الفكرية والإيديولوجيات المختلفة إسلامية كانت, قومية أ شيوعية لها تأثيرها الخاص على بعض من النخب المثقفة والجامعية, لكن ليس لها أي تأثير على الموريتاني البسيط.
صحيح أنه قد علمتنا تجارب السياسية أن هذه المجموعات الإيديولوجية قد تستغل بعض الشخصيات العلمية أو رجالات المال والجاه لتصل إلى موريتانيا الأعماق, لكن في تلك الحالات كلها يحتاج الانتماء السياسي لتزكية شخصية علمية, وطنية أو جهوية.
6. شعبية السيد مسعود ولد بلخير لا تشكل استثناء على هذا المبدأ من حيث مركزية شخص الرئيس, لكنها تتميز بالثبات والتزايد على الرغم من غياب عامل المال والجاه. صحيح أن للرجل خصوصيته, فهو ليس رجلا سياسيا فحسب, وإنما ناشط حقوقي أخذ على كاهله أوزار المستضعفين المستبعدين في هذا الوطن العزيز الذي يصنف ضمن المعاقل الأساسية للرق والاستعباد في العالم.
تلك الثورة الإصلاحية لم تكن لتواجه بالورود في مجتمع قبلي يبوء فيه المرء بأوزار مهن ومستويات أسلافه وأجداده الاقتصادية والاجتماعية وتزر فيه الوزارة وزر الأخرى.
لقد صنف الرجل في بداية مسيرته بالعنصري الذي يدعو لاسترقاق “عرب العبيد” من طرف العبيد, لكن مع مرور الزمن وتداعيات الأحداث ذات الوزن الثقيل أصبح جليا أن للرجل قضية ضمن قضايا وطنية أخرى, فلقد ظلت مواقف الرجل, كناشط حقوقي, كسياسي معارض, كنائب برلماني وأخيرا كرئيس للجمعية الوطنية مواقف وطنية مشرفة في جميع القضايا. تلك المسيرة النضالية هي التي جعلت الرجل يقترب, وإن بخطى محتشمة, من قلوب الذين كانوا يتهمونه بالدعوة للعنصرية والخروج على مجموعة البيظان.
7. تقديرنا لقرار الجبهة ترشيح السيد مسعود ينبع من شجاعة هذا القرار وتحديه لمعادلة الحرطاني والبيظاني في دولة لا تزال تتهم رسميا بالعبودية والاسترقاق. فلا شك أن الخيار كان صعبا, فالهدف الأول والأخير هو سد الباب أمام معسكر الانقلابيين, وقد كان بالإمكان تحقيق هذا الهدف من خلال التكتل مع التكتل, لكن ثقة أعضاء الجبهة في السيد مسعود تنبؤ عن مؤهلات هدا الرجل, رغم مختلف المعطيات الاجتماعية سابقة الذكر. بهذا القرار تجاوز أعضاء الجبهة عقدة العبودية الموريتانية واتخذوا قرارهم على حسن ظن منهم أن الناخب الموريتاني سيتجاوز هو الآخر هذه العقدة.
وهنا أحتاج إلى سرد الأفكار بالحروف حتى لا يضيع قصدي سدى بين السطور, فعبر تاريخ الدولة الموريتانية لم تكن مشاركة غير البيظان بشكل عام في المناصب الإدارية والحكومية محل استشكال, وسرد الأسماء والوظائف هنا خارج بذاته عن منهج العد والتمثيل. لكن الظروف التي كانت تحصل فيها تلك التعيينات هي ظروف خاصة, تتميز بالإرادة المنفردة لقائد الأمة, لأب الأمة, رئيس الجمهورية, فالظرف منصوب بفعل فخامته والكل مجرور بمعادلة رضاه وغضبه.
ثم إن السيد مسعود نفسه قد ترشح للراسيات مرتين سابقتين, مدعوما بحزبه وبعض الشخصيات من مجموعة البيظان, كان آخرها انتخابات 2007 حيث حصل على نسبة تقترب من العشرة في المائة.
من البدهي إذن أن السيد مسعود قد ترشح للرئاسيات حينما رأى أنه مؤهل وباستطاعته تحقيق ذلك, فما كان ليترشح لإضاعة الجهد والترشح من أجل الترشح. لكن الفارق هذه المرة هو أن الرجل لم يرشح نفسه ولم يرشحه حزبه فقط وإنما رشحه تجمع من الأحزاب والشخصيات ذات الوزن والجاه والمال.
8. أردت بذلك أن أقول إن الرجل الذي كان يناضل ضد العبودية والاسترقاق, في مجتمع البيظان, قد رأى نفسه منذ زمان أهلا لقيادة هذا المجتمع. واليوم نخبة من أبناء هذا الأمة تجتمع على تزكية هذا الرجل لقيادة هذا البلد.
لا أريد أبدا لهذه الكلمات أن تفهم وكأنها تحاول حصر المجتمع الموريتاني في شريحة البيظان, وإنما لتفهم في إطارها الواقعي, اليومي, المعيشي الذي تستأثر فيه هذه الطبقة بنصيب الأسد في إدارة البلاد والمسك بجزء غير يسير من خيراتها, وقد يكون لذلك, بالمناسبة, انعكاساته على الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها هذا الوطن العزيز. فلا الإحصائيات دقيقة, لكن الحق حق وإن شاع الباطل واعتادته النفوس ولا يرضى بالظلم حر يعي معنى الحياة.
أردت أن أقول بكل بساطة إن السيد مسعود ولد بلخير بنضاله, بمواقفه, برؤيته الإصلاحية أهل لثقة الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية وهو بذلك مؤهل لرئاسة موريتانيا, فهل المجتمع الموريتاني مؤهل لأن يقوده مسعود.
يزعجني حقا ذالكم السؤال وأفضل التقاط أنفاسي قبل الخوض فيه وربما يكون ذلك في العاجل القريب.
موسى مفتاح الخير ولد ابا – مركز قانون الأعمال- جامعة تولوز
ould_ebba@live.fr